هناك طرف لا يتوقف أبدًا عن توجيه السهام تلو السهام إلى قلب المهرجانات الموسيقية التي تعرفها بلادنا. هذا الطرف يجتهد في كل مرة للإتيان بحجة على «فساد» المهرجانات وعلى كونها منكراً يتعين تغييره. وكلما تم الأخذ بملاحظة وجيهة تهم تدبير مهرجان ما، وتم تدارك خطأ سابق شاب ذلك التدبير، إلا وتم استخراج حجة جديدة وتقديم ملاحظة أخرى. وهكذا عمدت اللجنة التنظيمية لأحد المهرجانات إلى تغيير زمان انعقاده، حتى لا يؤثر على تحضير التلاميذ للباكالوريا، وتغيير مكان انعقاده، تفادياً لإزعاج السكان المجاورين للمكان السابق، ودعوة أصحاب السيارات إلى وضع سياراتهم بعيداً عن مكان المهرجان، تجنباً لآثار الازدحام على سلامة الأشخاص والممتلكات، لكن كل ذلك لم يشفع للمهرجان، إذ طلعت علينا جريدة «التجديد» بما اعتبرته مصدراً جديداً للقلق، وذكرت هذه المرة أن مشاعر الخوف تنتاب الساكنة من «احتمال تعرض فتياتهم للاغتصاب» بسبب «هول» المظاهر المصاحبة للتظاهرة! كما لو أن جنايات الاغتصاب ترتكب هكذا بسهولة في الشارع العام أمام أنظار المارة ورجال الأمن وفي نشاط عام خاضع لضبط وتنظيم مسبقين. إن البعض إذن، لا يدع مناسبة تمر دون «نقد» المهرجانات بشكل منهجي، ومن خلال أوجه متعددة. وكيفما كانت ظروف انعقاد أي مهرجان، فإن احتمال نجاته من سياط الملاحقة يكاد يكون منعدماً. الشيء الذي يحول العملية في النهاية إلى حملة منظمة ليس إلا، فكل الحجج جائزة لتسفيه المهرجانات واستكراهها، وكل الطرق. إن وضع الإنتاج الفني على مشرحة النقد يقدم بلا شك قيمة مضافة إلى الفنون ويسهم في تطورها، ولكننا هنا أبعد ما نكون عن هذه الممارسة الراقية، بل نحن إزاء مقاربة تستهين بقيمة النشاط في مجال الفن، وتقترح بالتالي تقليص حجمه إلى أدنى مستوى نظراً «للظروف الاقتصادية والاجتماعية للبلد وما يصيبه من خطوب». كما تباشر تلك المقاربة نوعاً من المنازعة في حرية الإبداع، وهي الحرية التي بمقتضاها نحترم حق الآخرين في الاستمتاع بلون فني لا يروقنا أو نعتبره بلا قيمة. كما أنها مقاربة تقع في التناقض، فهي تعتبر نوعاً من الموسيقى والطرب منافيا لقيم المغاربة، بينما هؤلاء هم الذين تجشم عشرات الآلاف منهم مشقة التنقل للاستمتاع به، إضافة إلى أن القسم الأكبر من «الطرب الشعبي» الذي تتضمنه برامج المهرجانات هو ما يقدم عادة في أعراس المغاربة. فهنا يبدو أن رضى الناس هذه المرة لا اعتبار له من طرف الذين يرددون دائماً أنهم يمثلون نبض الشعب. وهكذا نقرأ في»التجديد»: «لقد أوردت عدة صحف حالات «الخطف» العاطفي الذي فرضته عجرم على «الشباب الذين حجوا إلى الرباط وأتاح لهم مهرجان «موازين» فرصة التبرك برؤيتها، عشاق يبكون ومحبون يتطلعون إلى محادثتها ويحلمون بلمس جزء منها، وآباء حضروا تلبية لرغبة أبنائهم في رؤية «نجمة» لا يرونها إلا في التلفزيون أو على صفحات المجلات والجرائد ذات التوجه «الليبرتيني»... جمهور شاب بالأساس ربما استهوته صورة نانسي الطفولية ليتحلق حولها بشكل لافت مترقبا حركاتها «الدلوعة» حسب وصف إحدى الجرائد». ومع ذلك تعتبر «التجديد» أن الذين استدعوا نانسي عجرم لم يصنعوا ذلك احتراماً لهذا الجمهور، بل لاعتبار آخر تورده كما يلي: «ربما كانت «دلوعية» عجرم هذه، وراء «خطف» عقول القائمين على «عجرمة» المهرجانات في المغرب» ع 1897-22 ماي 2008 ص3. فكيفما كان موقفنا من المهرجانات ومما يقدم فيها، فإن ظاهرة التجاوب الجماهيري تستوقفنا وتسائلنا، وتوحي ربما بوجود جيل جديد يريد أن يعبر عن نفسه على طريقته. يمكن أن تكون لدينا ملاحظات حول توقيت وتدبير المهرجانات، ولكننا لا نستطيع الإفلات من سؤال الإقبال أو تجاوزه فهو واقع ماثل أمامنا. ولهذا ربما كان موقف جماعة العدل والإحسان من مسألة المهرجانات أذكى، فهي لا تريد الوقوف في وجه «الموجة العامة». يقول محمد العربي أبو حزم عضو الجماعة: «ينبغي مراجعة التعامل مع هذه الأمور، في بعض القضايا التي لا ينبغي تهميشها ولا التقليل من خطورتها ولكن ليس إلى الحد الذي تصبح كأنها القضايا الجوهرية والأساسية التي لها الأولوية في الطرح، خاصة في مجال حساس هو مجال الإبداع والفن، لأن الناس يرتبطون به كثيراً. فبالدخول في إثارة هذه القضايا يتم الدخول في صراع مباشر مع الناس، خاصة في وجود إعلام يحاول تشويه صورة الإسلاميين بدعوى أنهم ضد الفن والإبداع». وذلك بالرغم من أن جماعة العدل والإحسان تحاول التأسيس لمدرسة موسيقية خاصة ونشرها وسط الناس. وفي هذا الإطار يشير أبو حزم إلى أنه «لا يمكن أن ننعت الإسلاميين بجمود الفكر وبتقييد الإبداع واعوجاج الرأي فيما تحاصر حركتهم، فلنفتح الأبواب على إبداعاتهم وعلى حركتهم الإبداعية، ثم نحاسبهم ونرى حينها إن كان يقيدون الإبداع». والدعوة إلى تمتيع المدرسة الموسيقية للإسلاميين بحق التصريف عبر مختلف قنوات الاتصال يمليها الاختيار التعددي، وكل من يعتبر أن موسيقاه وحدها تطابق الذوق الرفيع، يجب أن تتاح له فرصة إثبات ذلك. وبعد تقديم هبة ملكية إلى بعض الفرق الموسيقية الشابة التي شاركت في مهرجان (موازين)، تحول إعلام العدالة والتنمية إلى التركيز على نقطتين : < محاولة تفنيد أطروحة الذين اعتبروا أن الهبة الملكية هي إشارة موجهة ضد الإسلاميين. < الإلحاح على أن الإسلاميين ليسوا ضد الفن، وأن مواقف الحزب لا ينبغي تعميمها على كل المهرجانات. ومن جانب الدولة، يمكن أن يقدم تشجيعها للمهرجانات على أنه يندرج ضمن هدف تأمين حق الفرجة الفنية للمواطنين وتحقيق نوع من «القرب الفني»، والانفتاح على فناني وفنون العالم، وكفالة التنشيط الثقافي العام للمدن، وخدمة السياحة، وتمكين الفنانين المغاربة من فرص للاشتغال، وتحقيق تلاقح بين تجارب فنية مختلفة، واختيار عرض ألوان فنية متنوعة ومتمايزة في نفس المناسبة، وإتاحة فرصة الانتقاء والاختيار للمواطن، وتلبية رغبة عدد من الشباب وعشاق وجوه فنية معروفة للالتقاء بها مباشرة. هذه الأهداف لا تطرح مبدئياً أي مشكل، لكن هل لهذه الأخيرة أهداف أخرى من المهرجانات؟ ففي الماضي مثلاً كانت النية الرسمية متجهة بوضوح إلى استعمال الموسيقى والرياضة لتلهية الناس وصرفهم عن السياسة، واعتمدت الطقوس الاحتفالية كمجال للتنفيس ولمحاولة تصريف الطاقة الشعبية التي يمكن أن توجه إلى النقد والاحتجاج. وكانت سلطات العمالات والأقاليم تشرف مباشرة على تنظيم الحفلات و»سهرات المدن والأقاليم» التي تنقل على شاشة التلفاز، ويشارك فيها فنانون وفرق معروفة. أما اليوم، فلقد ظهرت مثلاً جمعيات تسهر مباشرة على تنظيم المهرجانات، وانفتحت هذه الأخيرة على ألوان فنية جديدة ووجوه من الداخل والخارج، وخضع تمويلها لاعتمادات ضخمة تتلقاها من القطاعين الخاص والعام، ورصدت لها إمكانات هائلة. كل ذلك في سياق عام تتخلله قرائن وإشارات توحي بأن الدولة ربما تتحمس للمهرجانات أملاً في تحقيق بعض الأهداف «الخاصة»، وذلك من قبيل: 1 - إعطاء الانطباع بأننا بلد آمن ومستقر. 2 - الإيحاء بعدم وجود مشاكل جدية أو تناقضات بارزة تخترق المجتمع أو معاناة جماهيرية يمكن أن تنتج انتفاضات أو حركات احتجاج. 3 - إبراز محدودية تأثير الإسلاميين في عمق المجتمع والأجيال الصاعدة رغم تقدمهم الانتخابي، والبرهنة على أنهم لم يستطيعوا تغيير وجه المغرب المنفتح، وأن مشاهد التعاطي مع الموسيقى التي يمكن أن نشاهدها في أي بلد في العالم هي التي نراها في المغرب، وأن الحروب التي تُشن ضد بعض الحريات المدنية لم تحقق أهدافها. 4 - تشجيع الناس على المواجهة الغنائية للظاهرة الأصولية، كالترويج لبعض نصوص الراب التي تنتقد الإسلاميين. فرغم أن الدولة تخشى أحياناً تطور أي احتشاد في الشارع إلى مظاهرات مطالبة بالخبز، فإنها تتعامل بثقة في النفس مع الاحتشاد الحاصل بمناسبة المهرجانات، وذلك ليقينها ربما أن الحشود الحاضرة لن تسمح بضياع أية لحظة من لحظات المتعة التي جاءت لاستخلاصها. ولكن ذلك لا يعني أن من حق الدولة أن تحول ظاهرة المهرجانات إلى مؤسسة مقدسة، لأنها تخوض من خلال تلك المؤسسة ما يشبه الحرب المقدسة، ولأننا نتقاطع مع الدولة في رفع شعار الحق في الموسيقى، ونعتبر كذلك أن هناك من يستهدف هذا الحق، فهذا التقاطع لا يملي علينا التزاما بأن نلوذ بالصمت. فتدبير المهرجانات يجب أن يخضع لرقابة ممثلي الشعب وللمؤسسات المختصة، ووجود شخصيات مقربة من الدولة على رأس الجمعيات المشرفة على تنظيم المهرجانات لا يتعين أن يعطل بوجه من الوجوه تلك الرقابة. إن محاربة التطرف لا تكون بالمهرجانات فقط رغم أهميتها وتشبثنا بها. الفن يمكن أن يلعب بكل تأكيد دوراً في إشاعة قيم التفتح والحوار والحرية، ولكن اعتبار المهرجانات بمثابة الوسيلة الوحيدة لمواجهة ثقافة الانغلاق والتشدد يترجم أحياناً الرغبة في استبعاد الوسائل الأخرى التي تبدو مكلفة للدولة، وتتطلب التضحية ببعض «التقاليد» الضرورية. إن المشروع الشامل للحداثة يملي على الدولة أن تنضبط لكل مستلزماته على أكثر من صعيد، ويفرض عليها تبعاً لذلك أن تتخلى عن كثير من البنيات التي تشدها إلى الماضي وإلى التقاليد. والمهرجانات الموسيقية هي ممارسة ثقافية ضرورية، على أن تُؤَطَّر بسؤال ثقافي عام، يروم تحديد ملامح المشروع الثقافي الذي نريده لمغرب اليوم، وعلى أن تراعى في برمجتها وإعدادها وتنفيذها جملة من الاعتبارات التي أكدت عليها تقييمات سابقة والتي يفرضها هاجس التجويد والتحسين، ومن ذلك مثلاً: - توفير الشروط التنظيمية والأمنية التي تحفظ للمهرجانات طابعها الفني الخالص دون اعتداء على الحريات التي يكفلها القانون أو شطط في استعمال السلطة، وإبلاغ الجمهور المفترض مسبقاً بواجباته في إنجاح التظاهرات، وفتح قنوات التواصل والحوار مع الجمهور قبل وبعد المواعيد المقررة لتحسيسه بكل التحديات التي تطرحها المهرجانات وتسهيل عملية تكوين جمعيات ممثلة للجمهور. - إخضاع جميع المهرجانات للافتحاص المالي ونشر نتائجه. - التوفيق بين حاجات الناس ورغبتهم في التواصل مع فنانين عرب وأجانب وبين الإمكانات المتاحة، حتى لا تصبح التحملات المترتبة عن مشاركة أولئك الفنانين مرهقة وشاقة، والاقتصاد في نفقات «الخدمات الموازية» المقدمة للمشاركين، ومراجعة مسطرة اللجوء إلى وكالات وسيطة بعينها تفرض مقابلاً عن خدماتها يفوق التعريفات الجاري بها العمل. - الحرص على استخلاص الضرائب الواجبة لخزينة الدولة والمقتطعة من مداخيل الفنانين الأجانب وغير الأجانب المشاركين. - ضمان شفافية التدبير المالي للمهرجانات. - إعادة الاعتبار إلى الفنانين المغاربة بتمتيعهم بأجور محترمة من جهة، وتحديد حصة المشاركة المغربية التي لا يجب النزول عنها في كل الأحوال أياً كانت طبيعة المهرجان. - تخصيص جزء من اعتمادات المهرجانات الوطنية القارة لدعم المشاريع الفنية المستقبلية. - إفراد دعم خاص للألوان والمدارس الموسيقية التي لا تشهد إقبالاً كبيراً، تحقيقا للتوازن بين مختلف الأشكال الفنية، واحتراما لجميع الأذواق، حتى لا يخضع تنظيم العروض الفنية لقانون العرض والطلب وحده. - عدم الاقتصار على المهرجانات الموسيقية، وتنظيم مهرجانات بنفس الحجم والاعتمادات في المجالات الفنية الأخرى كالمسرح والتشكيل والشعر والرقص. - إلزام المهرجانات الكبرى بتخصيص جزء من مداخيلها لدعم البنية التحتية للثقافة والفنون التي تشكو من خصاص مريع، إذ لا يعقل أن تعقد عشرات المهرجانات بالساحات العامة في مدن ليس فيها مركب ثقافي واحد أو مسرح جدير بحمل هذا الاسم. - تحديد الدعم العمومي في حصة لا يتعين تجاوزها، بالنسبة إلى المهرجانات الكبرى التي تشرف عليها جمعيات خاصة. إن الدعم العمومي ضروري لحماية التعددية الفنية في وجه منطق السوق، لكن بشرط ألا يتجاوز القدرات والإمكانات المتوفرة للهيئات العمومية صاحبة الدعم. - متابعة المهرجانات عبر حلقات للتقييم والدراسة، وترسيخ تقاليد النقد الفني، وإصدار منشورات تقدم قراءات المختصين لحصيلة كل مهرجان، حتى لا يضيع كحدث إبداعي، وحتى نرفق النجاحات الكمية بنجاحات نوعية.