انتشار حملة حلق الرؤوس في المغرب في الآونة الأخيرة، في إطار حملة أمنية ضد ما بات يُعرف بظاهرة «التشرميل»، ليس عقابا جديدا، بل هو عقاب يظهر ويختفي، على مراحل في التاريخ المغربي الحديث. التشهير والتطواف من العقوبات القديمة التي سادت ولم تختف بالمرة رغم أنها قلت ابتداء من الخمسينيات من القرن العشرين، عقوبة التطواف، وقد استعمل هذا العقاب، خصوصا في حق المتمردين الذين خرجوا عن الإمام، أو المذنبين الذين ارتكبوا جرما أخلاقيا، فكان الجاني يوضع مقلوبا على بهيمة (غالبا حمار) فيستقبل مؤخرة الحمار، ويطاف به في الحارات والأزقة أو بين المداشر ويجر البهيمة منادي، (براح)، يحكي قصة جريمة الرجل، ورغم أن هذه العقوبة ليست جسدية أو تسبب ألما أو جروحا إلا أنها كانت تصنف حسب الناصري وعدد من المؤرخين عقوبة عالية الخطورة وتخلف آثارا عميقة في نفسية المذنب، وغالبا ما يترتب عنها اختفاء صاحبها وفراره من المذلة التي تتسبب فيها. أشهر شخصية تعرضت لعقوبة التطواف في تاريخ المغرب لم تكن سوى جيلالي الزرهوني الشهير بالروكي بوحمارة، وكما جاء في كتاب: «المغرب في مطلع القرن العشرين: الأوضاع الداخلية والاتجاه نحو فرض الحماية»، للباحث بودينة عبد العزيز، وُضع بوحمارة في قفص وطاف به عبيد العافية في أزقة فاس بعد أن ألقى السلطان حفيظ القبض عليه، ثم تعرض هو و400 من أتباعه لسلخ الجلد ثم قدموا السباع لتلتهمهم. وفي الوقت الذي كان المغاربة قد نسوا فيه عقوبة التطواف، ألقت سلطات الأمن بشمال المغرب في سنة 2000، القبض على أحد المجرمين الذين روعوا مدن القصر الكبير والعرائش وضواحيهما، والذي اشتهر بلقب «الزاندة»، إذ قام رجال الشرطة بتطويف «الزاندة» وعرضه على الساكنة التي كان الرعب انتشر فيها بسبب جرائمه، مرتين في اليوم في الزوال وبعد صلاة العصر على مدى يومين.
حلق الرؤوس عقوبة تظهر وتختفي انتشار حملة حلق الرؤوس في المغرب في الآونة الأخيرة، في إطار حملة أمنية ضد ما بات يُعرف بظاهرة «التشرميل»، ليس عقابا جديدا، بل هو عقاب يظهر ويختفي، ففي نهاية القرن التاسع عشر، وأثناء حملات قبائل جبالة على بعض أعيان المدن الشمالية، عمد بعض القواد والباشوات المتسلطين إلى حلق رؤوس جبالة والغماريين الذين يتم إلقاء القبض عليهم في إطار محاربة «السيبة»، بل إن بعضهم حلق نصف رؤوس المهاجمين دون النصف الآخر تمييزا لهم، وفي السبعينيات من القرن العشرين عادت عقوبة حلق الرؤوس إلى الظهور، بسبب انتشار ظاهرة إطالة الشعر في الأوساط الشبابية كمظهر لتنامي الفكر التحرري والشبابي، مثل موجة الماركسية والهيبيزم، عقوبات كثيرة انقرضت من مغرب ما بعد الاستقلال، لكن تاريخ المغرب به من الدلائل ما يكفي لنفهم كيف استعمل المخزن عقوبات أغرب من الخيال.
الإحراق وقطع الروؤس والأطراف في كتاب الذخيرة السنية الذي لازال مؤلفه مجهولا إلى اليوم، والذي حققه عبد الوهاب بن منصور، شاعت تقنية الإحراق في مشهد علني شبيه «بالهولكوست» الجماعي الذي كان يتعرض له السحرة والهراطقة بأوروبا الوسيطية. ويجدر التذكير في هذا الصدد بأن باب المحروق بفاس حمل هذه التسمية بسبب إحراق الخليفة يوسف الموحدي لأحد معارضيه في وسطه، ويشاع أنه العبيدي الذي ثار على الموحدين. يحكي المؤرخ المراكشي أبو عبد الله محمد، في مصنفه «الذيل والتكملة»، عند حديثه عن الإجراء الانتقامي الذي اتخذه المأمون في حق القبائل الرافضة لمبايعته فيذكر أنه «قتل من رجال أولئك القبائل ما لا يحصى حتى ليذكر أن عم شرفات مراكش بتعليق رؤوسهم فيها، وربما علق في بعض الشرفات رأسان، والمطروح في كل معترك أكثر من أن يحصره عد أو يأتي عليه حساب». وهكذا كانت حالة من الرعب والتقزز تسود المدن التي كان ينزل فيها هذا النوع من العقاب، فيتحول العقاب من عقاب لأفراد إلى عقاب الساكنة بأكملها، حالة يسوقها ابن عذاري أبو عبد الله محمد،في مؤلفه: «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب» حين يقول «إن هامات المحاربين (قطاع الطرق) هي إحراز لهم وروائحها عطرة عند المحبين منتنة عند المبغضين». الباحث بولقطيب في معرض تحليله لهذه العقوبات الغريبة، يعتبر أن جز الرأس وبتر الأذرع والسيقان وسمل العيون، وسائل جزائية لا تزال في حاجة إلى مزيد من البحث والدراسة للوقوف على أبعادها الرمزية وتأثيرها في المِخيال الشعبي، ومهما يكن من أمر، فإن بتر الأعضاء كان يهدف من ورائه مبتكروه إلى نقش الجريمة على جسد «الجاني» تذكيرا له ولغيره بالحضور الدائم للسلطة. أما عقوبة جز الرأس فهي تمتح من التراث المغربي القديم، فال»الفتنة» في هذا التراث يتم القضاء عليها بقطع رأسها، والرأس هنا لا يعني سوى رأس متزعمها. وفضلا عن ذلك، فإن مرجعية الرأس في التراث الإنساني عامة تعني العقل المدبر، إذ العقل أو الرأس هو الجهاز المتحكم في بقية الأعضاء، وبشله تشل تلك الأعضاء. وعلى هامش قطع الرؤوس وتمليحها، من أجل تعليقها على أسوار المدن الكبرى للاعتبار منها، كان الحرفيون اليهود يتكفلون بعملية تمليح الرؤوس، وربما إلى هذه الحرفة يرجع تسمية أحيائهم ب «الملاح»، وقد كان يعمد إلى تمليحها، من أجل تجنب الروائح الكريهة المنبعثة منها، قبل عرضها للعموم بساحة جامع الفنا أو تعليقها على أبواب الحواضر، وتبقى هناك ما شاء السلطان لكي تكون عبرة لمن تسول له نفسه العصيان. في تقارير صحفية سابقة، تطرقت نظرة المستشرق جول إيركمان إلى بعض العقوبات المختلفة، في كتابه «الجريمة والعقاب في مغرب ما قبل الحماية»، ومنها ما أورده في مروياته عن المغرب، أن بعض المسؤولين كانوا يستغلون ظروف «السيبة» للاغتناء بطرق غير مشروعة وغريبة يذكر منها أن الباشا مثلا كان يسلط رجاله على بعض النساء وكان هؤلاء الرجال يسكبون الخمر على ثيابهن وفجأة كان يظهر رجال السلطة ليلقوا القبض على أولئك النساء وكأنهن متلبسات ويقودوهن إلى «مرسطان». وإلى حدود مطلع القرن العشرين يروي المختار السوسي مصير القائد حيدة بن مايس المنبهي أحد القادة المحليين، الذي رفض الخضوع لهيمنة أحمد الهيبة، والذي بُويع سلطانا لمراكش وسوس، حين هزمته قوات الهيبة في معركة إيكالفن، سنة 1917 قرب مدينة تزنيت، جاء في مؤلف المختار السوسي «إيليغ قديما وحديثا»: «ما إن قتل حيدة حتى صار أصحابه يفرون، وينهب بعضهم بعضا، وحكى لي من حضر، أن أحد جنوده كان على فرس فمر بكاتبه الطيب بن صالح الروداني فسلبه كل ما عليه، وكان الطيب بدينا جبانا فجعل يأمر من يمرون به هاربين أن يضرموا النار على وجه حيدة، لأنه كان يخشى أن يُعرف فيُقطع رأسه»، لكنه ضبط وقطعت رأسه وتم الطواف برأس حيدة، وبقيت قصته واحدة من الشواهد على نظام عقوبات، اختفى وربما يظهر في شكل جديد.
التفويرة والملح والسوداني عقوبات غريبة وعجيبة كان الحكام يتفنون في ابتكارها في مغرب العصر الوسيط، ومنها أن عقابا شرع للصوص بأن تحدث جروح في باطن أكفهم ويتم رشها بالملح ويتم إلصاق اليدين معا ولفهما بإحكام وبعد إزالة الرباط عن أياديهم بعد مدة طويلة تكون أياديهم ملتصقة وتبقى كذلك للأبد، بل أكثر من ذلك كان نمو الأظافر ودخوله في البشرة يسبب آلاما لا تطاق لهؤلاء المساجين. وينتهي معظم السجناء الذين يتعرضون لهذا النوع من التعذيب إلى الانتحار بكسر رؤوسهم مع الجدران. ومنها ما سمي ب»التفويرة»، وهو عقاب شرعه أعيان فاس لكل دخيل خرق أعراف المدينة، أو أرتكب جرما في حق أهلها، وذلك بوضعه في قدر من الماء المغلي أو إلقائه في «برمة الحمام» مباشرة، كنوع من التطهير وغسل القذارة التي حملها هذا الرجل إلى المدينة الشريفة، وغالبا ما كان المذنب يخرج منها بحروق خطيرة. ومنها ما رواه بعض الشاهدين الأحياء، حيث تختلط الأسطورة بالحقيقة، أشهرها مواجهة المقاوم المرحوم الفقيه البصري، للباشا الكلاوي، حين استنكر الكلاوي الدعوة إلى تعليم البنات، واتهم أهل فاس بتشجيع الدعارة، وهو ما جعل الفقيه البصري يرد عليه قائلا، «أنت تأكل من مواخير مراكش»، فقام الكلاوي بإنزال عقوبة غريبة بالفتى البصري ورفاقه التلاميذ بأن أرغمهم على «سف مسحوق الفلفل الحار»، ويروي بعض المؤرخين أن الباشا الكلاوي كان يقوم بجلب الفلفل الحار «السوداني» من السودان الغربي «مالي» ليحكها في مؤخرات عبيده العصاة.
العصا أو العمود أو الفلقة «رفد حمل» أو «سفل» اصطلاحات كان المتسلطون من الوجهاء ورجال السلطة يقصدون بها، تأديب المذنبين، وكان لهذه العقوبة موظفون مخصوصون وأدوات معينة، منها الفلقة وهي عبارة عن تثبيت المجرم وإلقائه على ظهره ورفع قدميه ثم ربطهما على عصا يمسكها شخصان، وجلده على أسفل قدميه بواسطة سوط جلدي أو عصا خشبية، وكان يستعمل فيها على الخصوص عصي السفرجل التي تشبه المطاط ولا تكسر بسهولة، وهذا الأسلوب استخدم منذ القدم للعقاب ولترويض المتمردين أو المخالفين من أهاليهم، وللثوار المناوئين للسلطان وللمستبدين من الحكام، ومن الفقهاء ضد طلبتهم. ويُروى أن سيدي محمد بن عبد الله قام بمعاقبة أحد سفرائه إلى إسطنبول، لأنه أخطا في البروتوكول بالفلقة. وأشد ما استعمل فيها حسب روايات مستشرقين زاروا المغرب في القرنين 18 و19، ذيل الثور أو كان يستعمل في تطبيق هذه العقوبة البدنية حبل من الجلد مضفر كان يطلق عليه اسم «سفل».
العزل والرمي بين المجذومين الباحث الحسين بولقطيب يعتبر أن تفكيك عناصر «العقل التأديبي» المغربي خلال المرحلة الوسيطية كفيل بجعلنا نقف على طبيعة السلطة وطريقة تعاملها مع رعاياها.. «والحق أن السلطة بالغرب الإسلامي لم تكتف بالعقوبات والسجن لفرض هيمنتها وسيادتها على الرعايا، بل تجاوزت ذلك إلى استخدام وسائل أخرى نذكر منها المستشفيات والمعازل وغيرها من الوسائل الإقصائية الأخرى. ويبدو الحضور الوازن للسلطة في معمار المدينة المغربية الوسيطية، ذلك أن هذه الأخيرة سعت إلى حماية نفسها من عصابات المتمردين والمشردين وقطاع الطرق عن طريق إحاطة نفسها بأسوار عالية ووضع حراس على أبوابها كما عملت في الآن نفسه على حماية نفسها من «الشاذين» من أبنائها عن طريق بناء معازل وسجون». وتجدر الاشارة هنا إلى أن كتب الفقه والنوازل وكتب الحسبة تأتي على رأس المصادر التي تقدم مادة دسمة بخصوص مختلف أنواع العقوبات السائدة خلال المرحلة الوسيطية. فالفقيه والقاضي باعتبارهما مرشدين شرعيين للماسكين بمقاليد الأمور السياسية، يقرران نوعية العقوبة التي يستوجبها كل فعل جانح. على أن كتب الحوليات السياسية تقدم بدورها عددا لا حصر له من ردود الأفعال العقابية التي أقدم عليها حكام المغرب الوسيط قصد الحفاظ على وحدة الدولة ضد الثوار. وفي مغرب العصر الوسيط حيث كانت الأوبئة والأمراض الفتاكة تأتي على الآلاف، كان الرمي وسط المعازل الصحية واحدا من العقوبات المخيفة، الجذام والجدري والطاعون، وسائل استعملها المخزن وأعوانه، لعقاب المخالفين، وخصص لذلك أماكن خاصة، في فاسومراكش والجديدة. ومما تحكيه المراجع التاريخية أن القائمين على هذه المعازل كانوا يقومون بدهن أيديهم بالقطران، وحشو أنوفهم بالخزامى من أجل الدخول إلى هذه المعازل، حيث كانوا يقدمون الطعام الذي هو رغيف واحد في اليوم بواسطة قصبة لكيلا يلامسوا المعزولين.