كان أمن المغاربة قبيل عهد الحماية مقتصرا على المكان الذين يعيشون فيه. فبلاد المخزن والعاصمة كان يسهر على أمنهما نهارا كل من «المقدمين» ورجال أمن كانوا يعرفون ب«مولين دور» أما ليلا فكان الأمن يقتصر على إغلاق أبواب المدينة والأبواب التي تفصل الأحياء. وحسب جول إيركمان فمدينة فاس كانت تشهد عمليات نهب وسرقة، حيث كان المجرمون يقتحمون المنازل ويسرقون ما فيها وكانت تعرف هذه المدينة بكونها أكثر المدن دموية من حيث جرائم القتل، إذ كانت هناك منازل بمثابة أوكار مشبوهة قرب واد فاس الذي كان بدوره مقبرة تختفي فيها الجثث بسهولة وكانت جل هذه الجرائم تمر مرور الكرام فبعد التخلص من الجثث، يفتح تحقيق سرعان ما يقفل لانعدام أي معطيات وهكذا دواليك. لم يكن هناك أمن في بلاد «السيبة» لا ليلا ولا نهارا لا في البادية ولا المدينة وكانت الطرق بمثابة ساحات يرتكب فيها قطاع الطرق مجازر حقيقية. انفلات أمني مطلق وأمان نسبي في زمن الفوضى التي كان يعرفها المغرب، لم يكن هناك أمن على الإطلاق، وكانت الجريمة في كل المدن بكل بساطة لا تخضع لأي عقاب يذكر لانعدام جهاز شرطة فعلي وكانت أغلب عمليات السرقة تشمل الماشية، أما جرائم القتل حسب جول إيركمان فقد كانت لا تعد ولا تحصى خصوصا في تارودانت ولم تكن أي جهة تكلف نفسها عناء فتح تحقيق في هذه الجرائم، التي كانت تشمل الاغتصاب ووأد الأطفال والرضع والإجهاض، كانت هذه الأفعال الشنيعة تعتبر فقط بمثابة هفوات أو زلات لا تأخذ على محمل الجد، بل أكثر من ذلك كان بعض المسؤولين يستغلون ظروف «السيبة» للاستغناء بطرق غير قانونية وغريبة ونذكر منها أن الباشا مثلا كان يسلط رجاله على النساء سواء كن شريفات أو لا وكان هؤلاء الرجال يسكبو «الماحيا» على ثيابهن وفجأة كان يظهر رجال السلطة ليلقوا القبض على أولئك النساء وكأنهن متلبسات ويقودوهن إلى «مرسطان» وكانت النساء الأصغر سنا يرسلن إلى الباشا وفي اليوم الموالي يتم إعلام أزواجهن لكي يلتحقوا ب«المخفر» وكان هؤلاء الأزواج تفاديا للفضيحة يدفعون أموالا كثيرة مقابل إطلاق سراح زوجاتهم ويشار إلى أن هذا الباشا تم إعفاؤه من مهامه من طرف السلطان بعد اكتشاف ممارساته المريبة. وكانت العقوبة آنذاك إما على شكل غرامة مالية أو عن طريق «العصا». وكان يستعمل في تطبيق هذه العقوبة البدنية حبل من الجلد مضفر كان يطلق عليه اسم «أسفل». وكانت «العصا» تستعمل أيضا لإجبار المتورطين في أعمال السرقة على الاعتراف بالمسؤولين المباشرين عن هذه الأعمال وأحيانا كان يتعرض مجموعة من المشتبه فيهم إلى العقوبة البدنية بالتناوب إلى أن يتم كشف المجرم الحقيقي. سجون للرجال والنساء عادة ما يوضع مرتكبو الجرائم والمخالفات في السجن لهذا كانت هناك سجون مخصصة للنساء وأخرى للرجال وكانت هذه السجون تجمع اليهود والمسلمين. وبشكل عام، يبقى السجين قيد الاعتقال إلى أن يدفع غرامة محددة. لم تكن المدة التي يمضيها السجناء في الحبس محددة حيث كان من الممكن لشخص معتقل في قضية إحداث شغب في الشارع العام أن ينسى في السجن لسنين طويلة إذا ما لم يكن له أصدقاء يتكفلون بإخراجه. كان للسجن طابق أرضي وقبو وكان تصميم الطابق الأرضي الداخلي يشبه منزلا عاديا، كان المعتقلون يتحركون فيه بكل حرية وكانت أرجل بعضهم مكبلة بالأغلال أما أولئك الذين يملكون الأموال فكان بإمكانهم الدفع مقابل الحصول على غرفة خاصة والعيش في ظروف مريحة وكأنهم في منازلهم. أما فيما يخص المؤونة فقد كان يتكفل أهالي المساجين وأصدقاؤهم بإحضار الطعام لهم أما الغرباء فكانوا يعيشون على الماء والخبز الذي يقدمه لهم، السجانون وذلك لإبقائهم على قيد الحياة. وفي بعض الأحيان كان بعض السجناء يصنعون الحصائر أو بعض الأشياء المماثلة ويبيعونها في المدينة. أما قبو السجن فهو مبلول ومليء بالفئران والحشرات ويتم ربط المساجين في هذا القبو بأغلال حديدية وما عدا أولئك المساجين المعتقلين في قضايا القتل أو السرقة باستعمال السلاح في الطرق، فقد كان يكفي للمساجين أن يدفعوا المال للباشا ليطلق سراحهم وفي بعض الأحيان، كانت الإدارة تأمر بجلد المساجين في الصباح وفي المساء لغاية في نفس يعقوب. أما بالنسبة للنساء، فقد كن يوضعن في سجون خاصة بهن وكانت هذه السجون النسائية في نفس الوقت مستشفى للمجانين (مرسطان) وكانت هذه السجون تحت إمرة «قايد مولين الدور» وكانت تساعده في مهامه نساء كن يعرفن باسم «العريفة». كانت بعض النساء توضعن وتكبلن في السجن بأمر من أزواجهن لارتكابهن الخيانة وكن يخضعن لعقاب بدني شديد «العصا» إلى أن يطلب أزواجهن استردادهن أما المومسات أو النساء الأخريات اللواتي تم ضبطهن من طرف «مولين الدور» فكن يقتدن لنفس السجن ويتعرضن للضرب إلى أن يدفعن مالا مقابل إطلاق سراحهن. أما اليهود فيتم احتجازهم في غرفة كان السجناء يستعملونها لقضاء حوائجهم. كانت عقوبة الإعدام شبه منعدمة وكان يحل محلها السجن المؤبد وكان معظم السجناء يموتون نتيجة الجوع والظروف المزرية التي كانوا يعيشونها إلى درجة أصبح فيها السجن شبيها بدور العجزة. إلا أنه في حالة الانقلاب على المخزن يتم تطبيق عقوبة الإعدام لتكون عبرة لمن يعتبر ولكي تردع مثل هذه المحاولات. و يقول جول إركمان» كنا نرى رؤوسا معلقة فوق أبواب المدينة وكانت هذه الرؤوس التي تقطع خلال الحروب ترسل إلى مناطق عديدة لكي يثبت المخزن للعرب المتشككين بأنه لا يزال يحتفظ بمكانته ويحكم قبضته على الميدان». تعذيب ومعاناة وفقا لما يرويه جول إركمان في كتابه، كان هناك سجن مخزني في القصبة حيث كان يتعامل مع المعتقلين بقسوة مفرطة وكان أول ما يشد الانتباه عند باب هذا السجن وجود نقالة مهترئة، أما في الداخل فقد كانت الممارسات الوحشية على أشدها إذ كان يتم لف طوق من حديد على رقبة السجناء لكي يتم إجبارهم على البقاء واقفين وكانت وجوههم شاحبة إلى درجة لا تفرق بين الأحياء منهم والأموات. وفي بعض الأحيان، وكعقاب للصوص «كانت تحدث جروح في أكف السجناء ويتم رشها بالملح ويتم إلصاق اليدين معا ولفهما بإحكام وبعد إزالة الرباط عن أياديهم بعد مدة طويلة تكون أياديهم ملتصقة وتبقى كذلك للأبد بل أكثر من ذلك كان نمو الأظافر ودخوله في البشرة يسبب آلاما لا تطاق لهؤلاء المساجين. وينتهي معظم السجناء الذين يتعرضون لهذا النوع من التعذيب إلى الانتحار بكسر رؤوسهم مع الجدران». «وكانت هذه العقوبات تشمل كل فئات المجتمع، فعندما كان أحد القياد يرفض رفضا قاطعا تسليم أمواله «يزج به في صندوق من الخشب مزين بالمسامير من الداخل ويكون هذا الصندوق على شكل «جلابة» ويترك الشخص داخله إلى أن يفارق الحياة». كم كنا قبل عهد الحماية ؟ قبيل عهد الحماية، لم يكن السلطان المغربي يعرف عدد رعاياه وكان يقتصر على تقديرهم من خلال المداخيل الضريبية للمخزن، أما بالنسبة للذين لم يكونوا يدفعون الضرائب فلم يكن بإمكانه إحصاءهم. كم كنا يا ترى؟ يعترف مؤرخو شعوب إفريقيا الشمالية (المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر) بأنه من المستحيل التوصل إلى أرقام مؤكدة لساكنة هذه الدول، لأن عملية تسجيل الأفراد في سجل الحالة المدنية لم تكن واردة آنذاك ولم يتم العمل بها إلا في 1925. ولا تتوفر أي إحصاءات تغطي الفترة الممتدة من العام 1000 إلى حدود عهد الحماية. ولقد أجريت أولى الإحصاءات من طرف القوات الاستعمارية في 1850 في الجزائر ومابين 1851 و1921 تاريخ أول إحصاء رسمي بالمغرب. ساكنة قليلة إن مجموع ساكنة افريقيا الشمالية (المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر) كانت تقدر في العام 1000 ب11.5 مليون نسمة وب13 مليون نسمة في 1850. لكن عرف مجموع ساكنة دول شمال إفريقيا كاملة انخفاضا سنة 1400 إلى 7،2 ملايين نسمة وذلك نتيجة انتشار الأوبئة خصوصا مرض الطاعون الذي انتشر ما بين 1348 و1249 و1362 و1363 والذي كان يعرف في أوروبا بالموت العظيم أو الموت الأسود وكان هذا الوباء ينتشر كل عشر سنوات أو اثني عشرة سنة ليسقط أعدادا هائلة من الضحايا من مدينة فاس حتى القاهرة... وبالإضافة إلى الطاعون والأمراض الأخرى، ترجع قلة الكثافة السكانية في شمال إفريقيا آنذاك إلى احتلالها في القرن الحادي عشر من طرف بني هلال القادمين من جنوب مصر: «إن الإمبراطورية البربرية للمرابطين والتي أنشئت في نفس الفترة (...) في الطرف الآخر من المغرب العربي وإمبراطورية الموحدين التي تلتها لم يتمكنوا من وقف زحف الرحل الذين أينما حلوا وارتحلوا يفسدون الزراعة». وفي حدود القرن التاسع، لم يتعد مجموع ساكنة شمال إفريقيا 2.5 مليون نسمة! وبالتالي، لم يتم تحقيق أي تقدم لا في مجال الزراعة ولا التغذية ولا الصحة في هذه المنطقة والذي كان من شأنه أن يزيد من عدد الساكنة. و بسبب هذه القلة السكانية لن يسلم شمال إفريقيا باستثناء المغرب من الغزو البشري للعثمانيين فسكان ليبيا مثلا في 1850 كانوا يقدرون ببضع مئات الآلاف. الأسباب السياسية وبالإضافة إلى غزو بني هلال يقول الباحث طبيتان وڤلكان وبيرابين بأنه ما بين العام 1000 و1850 كانت الساكنة تتأثر بشكل كبير بعدم الاستقرار السياسي والفوضى الاقتصادية والكوارث الطبيعية كالجفاف والأوبئة. على المستوى السياسي. كانت الإمبراطوريات العربية الاسبانية والبربرية والعثمانية والمماليك تعمل على تصفية الشعوب أثناء الفترات الصعبة التي كانت تمر بها خصوصا في أيام المجاعة والأوبئة، لأن هذه الشعوب كانت تعيق نمو مجتمع يتمتع بظروف عيش جيدة تسمح لهم بالتكاثر والعيش مدة أطول. ويضيف هؤلاء الباحثون أن حتى الأنظمة التي صمدت طويلا لم تهتم كثيرا بظروف عيش شعوبها فالجزائ ر وتونس، كانت تحت قبضة العثمانيين لما يقارب ثلاثة قرون وما بين الربع الأخير للقرن الرابع عشر والتدخلات الأوروبية في القرن التاسع عشر، لم يهتم السلاطين الأتراك بالساكنة وبظروف عيشها بقدر اهتمامهم بالربح السهل. أما المغرب فلم يكن استثناء فمع توالي السلالات الحاكمة والحروب المميتة عانت ساكنته من نفس التداعيات. المغرب كموقع استراتيجي لقد عرف هذا البلد الذي يستفيد من موقع جغرافي استراتيجي توالي السلالات الحاكمة مع اختلاف فترات الازدهار فهناك فترات كانت فيها بلاد «المخزن» مهيمنة على بلاد «السيبة» وكانت تنتفع بشكل كبير من عائدات الضرائب وفترات أخرى كانت تسود فيها الفوضى حيث كانت بلاد «السيبة» تهيمن على بلاد «المخزن» مما تسبب في إضعاف المداخيل الضريبية وبالتالي إضعاف الدولة والزيادة في انعدام الأمن وكبح جماح النشاط الاقتصادي. إلا أنه في 1620 وبسبب الهجرة الجماعية للمسلمين الذين تم طردهم من إسبانيا، عرف المغرب تزايدا ديمغرافيا ملحوظا خصوصا في المدن الساحلية وتفادى بفضل ذلك التوسع العثماني .هذا النمو السكاني العرضي سوف يتقلص مع توالي القرون وإلى حدود عهد الحماية، كان المغاربة قلة وبهذا لم يستطيعوا الانفلات من قبضة قوى فرنسا واسبانيا الاستعمارية. ويضيف هؤلاء الباحثون أن حتى فترات الحكم الطويلة لمولاي إسماعيل (16721727) وسيدي محمد (17571727) ليست إلا استثناءات في فترات طويلة من الفوضى السياسية التي تواصلت إلى حدود مطلع القرن العشرين. انخفاض حاد ونمو متباطئ في القرن التاسع عشر حين دخلت أوروبا الحضارة الصناعية كان المغرب يعاني من أزمات متتالية : الطاعون 1799 1800- 1818- والمجاعة 1816 - 1822 -والكوليرا والتيفوس 1856 - 1869 وكانت آخر هذه المجاعات التي أصابت المغرب في 1945. ويشير كل المؤرخين في هذا الصدد إلى أن أزمة 187882 والتي انتشرت فيها الكوليرا والتيفوس والمجاعة أودت بحياة ما يزيد عن مليون نسمة وإلى هجرة السكان من بعض المناطق وإلى تراجع الكثافة السكانية بشكل عام. ولقد عرفت بعض القرى نزوحا متزايدا للسكان في حين اختفت مدن أخرى بأكملها ولقيت النخبة حتفها وضعفت سلطة المخزن وبهذا كان المغرب لقمة صائغة للمستعمر الفرنسي في بداية القرن الحادي والعشرين وقبل وصول الفرنسيين إلى مدينة الدارالبيضاء، كان المغرب لا يزال يتخبط في تبعات أزمة 1878 وبما أن ساكنته لم تكن تتجاوز 4.8 ملايين نسمة وفي ظل تطور شبه منعدم للمجال التقني، وجد المغرب نفسه عاجزا عن صد قوى الاستعمار. إعداد -عبد العالي الشباني