عرفت ظاهرة السجن والاعتقال منذ العصور القديمة. فقد عرف السجن عند الشعوب القديمة مثل الآشوريين والبابليين والهنود والصينيين، كما عرف عند اليونانيين، إذ إن الفيلسوف سقراط تعرض للسجن بسبب رفضه آلهة اليونان، ومات منتحرا داخل سجنه. كما عرف عند الرومان الذين كانوا يسجنون أعداء الدين والنظام. وورد السجن في القرآن الكريم عند الحديث عن النبي يوسف عليه السلام: «رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه»، كما ورد على لسان فرعون في حديثه إلى النبي موسى عليه السلام: «قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين». وقد عرف العرب السجن منذ العصور المبكرة، لكن السجون التي كانت منتشرة في المجتمعات العربية كانت خاصة بكل قبيلة، إذ كانت القبائل تتخذ أمكنة لاعتقال المتمردين عن سلطتها أو الأسرى أو الخارجين عن الطاعة. غير أن السجن لم يكن يعني ما يعنيه اليوم من حيث كونه بناية أو مؤسسة خاصة بالمسجونين، بل كان يعني تقييد حرية الفرد بشكل عام مهما كانت الأساليب التي يتم التوسل بها إلى ذلك الغرض. وكان ذلك مرتبطا بالمعنى اللغوي للسجن، الذي يعني منع الفرد المعاقب من التمتع بحريته الشخصية، وهو معنى انتقل إلى التوظيف الفقهي، فابن تيمية مثلا يعرف السجن بأنه «تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه»، ويعرفه الكاساني بأنه «منع الشخص من الخروج إلى أشغاله ومهماته الدينية والاجتماعية». وبهذا الاعتبار فإن كل عملية يمنع بمقتضاها الإنسان من مزاولة مهامه بنفسه أو ممارسة حريته تعتبر سجنا، وابن تيمية نفسه يعتبر أن ربط شخص بشجرة يعد سجنا، وفرض الإقامة على الإنسان داخل المسجد أو في البيت يعد سجنا، وهكذا. ووردت كلمة سجن بمعان مختلفة في التراث العربي، منها الحبس والوقف والحصر والحجر والاعتقال والإمساك والإثبات والنفي والأسر. وبمثل ما كان لدى العرب وغيرهم من الشعوب في القديم، لم تعرف أوروبا في العصور الوسطى ظاهرة السجن باعتباره مؤسسة عقابية خاصة. ففي العصور التي سادت فيها الكنيسة ارتبط السجن بالمعاني الدينية، فكانت العقوبة نوعا من التطهير لمقترف الجريمة، ولذلك كانت للكنائس بيوت خاصة للاعتقال، وكانت «المؤسسات السجنية» عبارة عن قلاع أو حصون يودع المجرمون فيها داخل سراديب مظلمة مكبلين بالسلاسل وتعذيبهم وإجبارهم على القيام بأعمال السخرة، كما هو الأمر بالنسبة إلى قلعة الباستيل الشهيرة، التي هدمها الثائرون في الثورة الفرنسية، أو برج لندن في القرن العاشر الميلادي. ولم يظهر السجن كمؤسسة قائمة الذات إلا في نهاية القرن التاسع عشر مع ظهور القوانين الوضعية وبدء سلطة الدولة، حيث أصبح السجن يقوم بوظائف محددة، من بينها معاقبة الجناة على الجرائم التي اقترفوها أو حماية المجتمع من أشخاص يعتبرون خطرين أو لمنع أشخاص من ممارسة أفعال مرفوضة أو لإكراه شخص على أداء مهمة معينة أو لتصفية المعارضين السياسيين أو لمنع أشخاص من الهرب، وهو ما سمي بالاعتقال الاحتياطي. وقد وردت الإشارة إلى الاعتقال الاحتياطي أو السجن المؤقت في القرآن الكريم: «ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين»، إذ بعدما ظهرت براءة النبي يوسف عليه السلام مما نسب إليه قرر الملك العزيز سجنه احتياطيا لمدة محددة حتى لا تنتشر الشائعات التي ذاعت عن زوجته. ويقول بعض المفسرين إن ذلك الاعتقال المؤقت دام أزيد من عشر سنوات. السجن في المغرب لم يعرف المغرب ظاهرة السجن في العصور القديمة بالمعنى الحديث للكلمة، فقد استعملت الدولة المتعاقبة على الحكم أماكن مختلفة لاعتقال المجرمين أو المعارضين أو الأسرى الأجانب، إذ استعملت الدور والدهاليز والمطامير والأقبية السرية تحت الأرض والأبراج والقلاع أمكنة للاعتقال. غير أنه كانت هناك استثناءات معينة، فبالنسبة للعلماء والفقهاء كانت تفرض عليهم الإقامة الجبرية في بيوتهم السكنية إلى أن يأتي العفو من الحاكم، كما حصل على سبيل المثال لشيخ الزاوية الشياظمية عبد الله السكياطي، الذي طلب منه المولى سليمان أن يشغل منصب القضاء فرفض، فهدده بالحبس في بيته والضرب، فقبل لفترة إلى أن استعفي فيما بعد. أما بالنسبة إلى حالات التمرد الجماعية فقد كان السلطان يعمد إلى الاحتيال على المتمردين لاعتقالهم، كأن يسكت عن أفعالهم مدة طويلة إلى أن يداهمهم أو يستدعيهم إلى حفلات رسمية فيتم إلقاء القبض عليهم وإعدامهم. وبالنسبة إلى عتاة المتمردين أو محاربي النظام المركزي كان يتم اللجوء بوجه خاص إلى التطويف بهم في الأسواق العامة داخل أقفاص، كما حصل للهبري في عهد السلطان المولى الحسن أو بوحمارة في عهد المولى عبد الحفيظ. وكانت هناك صور مختلفة للعقاب. فقد كانت جل العقوبات القضائية عبارة عن السجن أو الجلد، حسب الجريمة المقترفة، وكان الجلد أحيانا يصل إلى مائة سوط بعد حك أعضاء السجين الحساسة بالفلفل وتكبيله وربطه بأغلال من الحديد. كما كانت تطبق العقوبات الشرعية كقطع اليد والرجل بالنسبة إلى الثوار والولاة المتمردين وغيرهم، وعند الاقتضاء كان يتم اللجوء إلى عقوبة الإعدام بقطع الرأس تبعا للطريقة التقليدية لدى مختلف الشعوب. وعند قطع رأس الجاني كان يتم تمليحه وتعليقه بأحد أبواب المدينة ليكون عبرة للآخرين. لكن كان هناك الإعدام شنقا أو خنقا، قبل أن يصبح الإعدام بالرصاص في الفترة ما قبل الحماية بعد دخول البارود إلى المغرب. وبسبب التقاليد الدينية ومركزية الأضرحة في المغرب كانت أضرحة الصلحاء وعلماء الدين ملاجئ للجناة الهاربين من العدالة، إذ كان الدخول والبقاء داخل ضريح عبد السلام بن مشيش أو إدريس الأكبر أو الأصغر بمثابة لجوء سياسي، حيث يظل اللاجئ هناك إلى أن يصدر في حقه عفو من السلطان دون أن يتعرض للإزعاج خلال مقامه داخل الضريح، لكن كانت هناك استثناءات إن كانت الجريمة تستحق العقاب ولا تتسامح فيها الدولة، مثل حالة الروكي بوحمارة، الذي لجأ إلى إحدى الزوايا فتم خرق هذا العرف واعتقاله. وخلال احتكاك المغرب بالحضارة الأوروبية وتطور المجتمع المغربي بدأت تبنى بعض السجون الخاصة بالمعتقلين من المجرمين، مثل السجن الذي وجد في الصويرة وكان ينقل إليه المعتقلون لأسباب سياسية تتعلق بمحاربة الدولة المركزية أو التمرد على السلطان. وقد عرف المغرب نوعين من السجون: سجون للعامة وسجون للسياسيين، ففي فاس مثلا كان هناك سجن بباب الدكاكين قرب المشور، خاص بالسجناء العاديين أو العامة المحكومين بمدد طويلة، وسجن ثان معروف بحبس الزبالة مخصص للسجناء السياسيين. ويشير روجي لوطورنو الذي كتب عن فاس إلى أن هذه الحاضرة العلمية وجدت بها سجون في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت مخصصة للجانحين بالمدينة الخاضعين لمختلف رجال السلطة، وكان بفاس البالي سجنان يضمان 110 من السجناء في بداية سنة 1910، الأول خاص بالذكور ويوجد في حي القطانين، والثاني كان خاصا بالنساء ويوجد مقره بسيدي فرج. وكانت جل المعتقلات النساء من المومسات، اللواتي كن يعتقلن في الطابق الأعلى من السجن، بينما يعتقل المجانين في الطابق الأرضي. وتشرف على النساء السجينات مسؤولة يطلق عليها اسم «العريفة»، كانت مهمتها تكليف السجينات ببعض المهام داخل السجن، كن يقمن بها وهن مربوطات بالسلاسل، حيث لا يستطعن الهرب. غير أن لوطورنو يذكر أن بعض هؤلاء «العريفات» كن يشغلن السجينات في البغاء مقابل إتاوة يتلقينها منهن. وحسب لوطورنو، لم تكن الأماكن المخصصة للحبس تكتسي أي صبغة خاصة تميزها عن غيرها من البنايات السكنية، إذ كانت هذه السجون مبنية حسب تصميم الدور العادية بالمدينة، تجري فيها المياه وتتميز بالنظافة. وكان المعتقلون يوجهون إليها من طرف مختلف رجال السلطة من عمال وقضاة ومحتسبين ومزواري الشرفاء، دون تبيين سبب العقوبة ولا مدتها. كما كان يغيب عن هذه السجون السجل الخاص بالسجناء، الذين يظلون رهن الاعتقال إلى أن يتم تحريرهم من طرف نفس الأشخاص، الذين أمروا بسجنهم. أما عن معيشتهم فقد كان السجناء يحصلون على الطعام مقابل نقود داخل السجن أو من عوائلهم، بل كان السجناء الميسورون يحضرون إلى السجن جوقة من المغنين. أما الفقراء من المساجين فلم يكونوا يستطيعون دائما الحصول على المأكل والمشرب مقابل إنجاز أشغال صغيرة تعهد إليهم، فكانوا معرضين للهلاك جوعا. ويذكر لوطورنو أن الطعام داخل السجون كان يؤمنه مبدئيا وقف خاص يوقفه أحد الأشخاص، وكان السجناء يتلقون الخبز في بعض المناسبات الدينية من القنصليات الأوروبية، أو خلال مرور السفراء الأجانب بمدينة فاس. غير أن العلامة الراحل عبد العزيز بنعبد الله يخالف لوطورنو فيما كتبه. ففي «موسوعة الرباط» يؤكد بأن السجون في المغرب خلال القرن الثامن عشر كانت تتوفر على لوائح بالسجناء، حيث كان يتم إجراء إحصاء لجميع المساجين، وكانت شكايات السجناء ترفع إلى المسؤولين، كما كانت ترفع إلى السلطان تقارير عنهم. سجون خاصة كان السلطان في المغرب يفرض هيبة الدولة بطرق ووسائل مختلفة، عبر القائد والخليفة والشيخ والأمين والجابي. فقد كان هؤلاء الموظفون التابعون للدولة في المركز هم الأدوات التنفيذية لسلطة النظام، ولتنزيل تعليمات السلطان على المستوى المحلي، لذلك كان لكل واحد من هؤلاء الموظفين جهازه الخاص في المراقبة والعقاب وفرض سلطة الدولة محليا، وإرغام القبائل على الامتثال والخضوع. وكان السلطان يفضل أن يشغل هذه المناصب أشخاص من عائلات معروفة بخدمتها الطويلة للمخزن، مما جعل بعض العائلات تتوارث مثل هذه الوظائف، وهو ما أطلق يدها في ممارسة أشكال مختلفة من العقاب كسلطات شبه مستقلة، تتصرف بطريقة حرة في أمور الاعتقال والسجن، وتخلط بين مصالحها ومصالح الدولة المركزية. ولذلك كانت الدور الخاصة بهؤلاء الحكام المحليين بمثابة سجون عمومية يتم فيها اعتقال خصوم الدولة أو أعداء هؤلاء الموظفين المحليين.