كانت فترة نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين، بعد وفاة السلطان الكبير مولاي الحسن الأول، فترة ضعف الدولة المغربية بامتياز. ولعل أهم مؤشر على هذا الضعف، هو تزايد الخطر الأجنبي، إضافة إلى التمردات المتتالية ضد السلطة المركزية ، ثورات كثيرة ومتنوعة في الأهداف والوسائل، على غرار الثورة التي قادها أحمد الريسوني، الذي استطاع أن يسيطر على مناطق شاسعة في شمال المغرب. فبعد 6 سنوات في سجون السلطة المركزية قضاها في الصويرة، استطاع الريسوني، المولود سنة 1870 بقرية الزينات بفحص طنجة، أن يجمع وجهاء قبائل المنطقة الذين خلعوا بيعة السلطان مولاي عبد العزيز وبايعوه بدلا عنه، وعلى رأسهم العياشي الزلال، والعربي الدامون، والعربي الخيضر وغيرهم. فقد سرت دعوة الريسوني بسرعة كبيرة بين قبائل "اجبالة"،كما تسري النيران الملتهبة في كومات التبن اليانع، وحاول السلطان المولى عبد العزيز القضاء عليها؛ لكن بلا طائل. ولما ظهر الخلاف بين الأخوين عبد العزيز وعبد الحفيظ سارع الشريف الريسوني إلى مبايعة هذا الأخير، الذي ولاه على المناطق الخاضعة لنفوذه. لكن قوات محمد بن عبد الكريم الخطابي ألقت القبض على الريسوني، الذي نقل إلى تامسينت، وسمح له الخطابي باصطحاب زوجاته وأمواله إلى مقر إقامته، حيث توفي نتيجة مرض شديد، سنة 1925، وعمره لما يتجاوز الستين. غير أن أبرز الثورات التي هددت أمن البلاد والعباد، وأتت على الأخضر واليابس، كانت ثورة الجيلالي الزرهوني، الشهير ب"بوحمارة"،الذي صار شائعا على ألسنة العامة والخاصة ضمن الحكايات والأمثال المغربية الشعبية، فهذا الشخص المثير للجدل لحدود الساعة، استطاع أن يشيّد "مملكة" على هامش الدولة العلوية، دامت 7 سنوات، وكثيرون هم الذين قضوا في خدمة المخزن مدة طويلة، قبل أن يقرّروا في لحظة ما شقّ عصا الطاعة عليه. لم يخرج الجيلالي الزرهوني، المعروف ب «بوحمارة»، عن القاعدة. وربما لا أحد كان يتوقع لرجل بدأ حياته السياسية في بلاط سلطان قوي، كمولاي الحسن، قبل أن يتحول إلى ثائر في وجه ابنيه الأميرين السلطان مولاي عبد العزيز ثم مولاي عبد الحفيظ، قبل أن يلقى حتفه في نهاية مأسوية، تحدثت عنها كتب التاريخ وألسن الحكايات الشعبية، والأمثال الدارجة . هو عمر بن إدريس الجيلالي بن ادريس محمد اليوسفي الزرهوني، لقَّبه خصومه بالروكي وبوحمارة، ويرجح أنه ولد سنة 1860 في قبيلة أولاد يوسف ، وهي قرية جبلية صغيرة تقع على بعد 7 كيلومترات على مركز نزالة بني عمار و على 25 كيلومترا من مدينة مولاي ادريس زرهون و على بعد 49 كيلومترا على مدينة مكناس العاصمة الإسماعيلية. وتقدم أغلب الكتابات التاريخية الجيلالي الزرهوني "بوحمارة" على أساس أنه ثائر ومعارض مغربي نازع العلويين على حكم المغرب، حيث سيطر على المغرب الشرقي وأصبح يهدد السلطة المركزية نتيجة المساعدات الفرنسية والإسبانية التي حصل عليها مقابل استغلال الدولتين لمناجم المنطقة. أقام مملكته التي جعل عاصمتها مدينة تازة وتوج نفسه سلطاناً بها وحكم لمدة 7 سنوات متتالية. وفي الواقع، كان الجيلالي الزرهوني يخبئ للجميع مفاجأة كبيرة، إذ سرعان ما أعلن أنه الأمير مولاي امحمد، الابن الأكبر للسلطان مولاي الحسن، وأنه أحق بالملك من السلطان مولاي عبد العزيز الجالس على عرش المملكة آنذاك. مولاي امحمد هذا كان، حينها، في السجن. فبعد وفاة مولاي الحسن، وضع باحماد كافة الترتيبات لتولية السلطان مولاي عبد العزيز، ومن بينها التخلص من الابن الأكبر مولاي امحمد، عبر وضعه في السجن؛ وهي النقطة التي استغلها الجيلالي الزرهوني لانتحال شخصية الرجل والمطالبة بالعرش. ويبدو فعلا أنه لا أحد اهتم بالتحقق من صحة مزاعم الجيلالي الزرهوني، إذ لقيت دعوته صدى كبيرا في شرق وشمال المغرب. كان الجيلالي الزرهوني يجوب القبائل لنشر دعوته على ظهر حمارته، وهو الفعل الذي أكسبه لقب "بوحمارة"، مستغلا معرفته بالعلوم الشرعية وبالفقه في استمالة سكان القرى والقبائل التي استطاع أن يضم إليه عددا منها، وفي مقدمتها قبائل غياثة التي بايعته سلطانا على المغرب. وهكذا، بدأ في وضع الأسس الأولى لمملكته في شرق وشمال المغرب. وأصبح له وزراء وجيش وموارد مالية، بل صار يصدر حتى ظهائر سلطانية. عندما أراد المولى الحسن، أحد أكثر السلاطين العلويين محافظة، الانفتاح على التعليم العصري، كان الجيلالي الزرهوني، المولود على الأرجح مابين سنة 1860 وسنة 1864 بزرهون قرب مكناس، أحد أفراد البعثة الطلابية الأولى التي أوفدها السلطان، سنة 1885، إلى المدرسة العسكرية في مدينة مونبولييه بفرنسا،هناك فتح الجيلالي عينيه على أساليب الحرب والعلوم العسكرية الحديثة. وعند عودته إلى المغرب، اشتغل في القصر السلطاني بمراكش كاتبا ومستشارا لمولاي عمر، شقيق السلطان مولاي الحسن الأول، وخليفته على هذه المدينة. كانت الأمور تسير في مجراها العادي، وبدا أن لا شيء سيغيّر من مسار حياة الرجل؛ لكن وفاة السلطان مولاي الحسن، سنة 1894، قافلا من حملته على تافيلالت، ستقلب حياة الجيلالي الزرهوني رأسا على عقب. في فاس، قاد الحاجب والصدر الأعظم أحمد بن موسى باحماد "مناورة" نصّب من خلالها السلطان مولاي عبد العزيز، وعمره لا يتجاوز أربع عشرة سنة، سلطانا على عرش الإمبراطورية الشريفية، ما جعل كثيرين يشككون في شرعيته. كان مولاي عمر، شقيق مولاي الحسن، من بين هؤلاء. إذ سرعان ما سيتم إخماد صوته والإلقاء بأعوانه في السجون. ولم يستثن الأمر الجيلالي الزرهوني الذي قضى سنتين في السجن جنبا إلى جنب مع رجل قوي، هو المهدي المنبهي، شاءت الظروف أن يصبح وزير الحربية فيما بعد. ورغم أن الجيلالي الزرهوني قضى فترة أقل من المنبهي في السجن، إلا أن قطيعته كانت نهائية مع المخزن العزيزي، فرحل عن فاس في اتجاه المغرب الشرقي، في بداية سنة 1900، ثم التحق بمدينة مستغانم بالجزائر، مريدا للشيخ محمد بن عبد القادر بن عدة البوعبدلي، حيث ربط هناك مجموعة من العلاقات المتينة مع عدد من الشخصيات والقبائل ستكون عونا له في ثورته لاحقا. وبعد أقل من عام، عاد إلى المغرب الشرقي وأسس طريقة شاذلية، منحرفة عن تعاليم الصوفي أبي الحسن الشادلي أطلق عليها "الطريقة المتنورة"، شكلت أساسا لحشد الناس إلى دعوته السياسية. لم يكشف الجيلالي الزرهوني، في البداية، عن حقيقة أهدافه، واكتفى بتوجيه انتقادات حادة إلى المخزن المركزي، على أساس مبدأين: أولا، المس بشخصية المولى عبد العزيز، باعتبار صغر سنه وعدم أهليته للحكم. وثانيا، مناهضة التدخل الأجنبي، خاصة الفرنسي والإسباني، الذي بدأ يتسلل إلى داخل البلاد من الشرق والشمال. في موازاة مع هذا، لم يعط المخزن، في البداية، الاهتمام اللازم لهذه الحركة الجديدة، إلا أن "بوحمارة" قام بخطوة زلزلت أركان المخزن العزيزي، ففي سنة 1902، استولى على مدينة تازة وجعلها عاصمة لحكمه،ولم يجد المخزن بدا من مواجهته، فأرسل جيشا لحربه، إلا أنه مني بهزيمة منكرة، في نونبر 1902. حينها، لم يكن مر على اندلاع ثورة "بوحمارة" أقل من سنة واحدة. وبعد انتصاره، فضّل "بوحمارة" التوسع في الشرق والشمال، مؤسسا منطقة حكم شاسعة تشمل الشرق وجبال الريف وتمتد من وجدة إلى طنجة، ودام حكمه فيها حوالي سبع سنوات، عندها أحسّ السلطان مولاي عبد العزيز بالخطر الذي يمثله "بوحمارة" على السلطة المركزية،فكلف وزير الحربية، المهدي المنبهي، بمحاربة "بوحمارة"، حيث تمكن الوزير المنبهي، الذي كان يوما رفيقا ل"بوحمارة" في السجن، من تضييق الخناق على غريمه، بل واحتلال عاصمة حكمه تازة سنة 1903. وزادت أمور "بوحمارة" تأزما بظهور معالم ثورة جديدة في الشمال يقودها أحمد الريسوني، مما جعله يفقد مدينة طنجة، حيث صارت منطقة نفوذه تنحصر في حدود وجدة، لكن أحد الأسباب الرئيسية التي عجّلت بسقوط حركته هو عقده اتفاقيات مع فرنسا وإسبانيا، تسمح لهما باستغلال مناجم المعادن في المنطقة، الأمر الذي لم يرض عددا من القبائل، فسحبت دعمها له حينها، صارت مهمة السلطان الجديد مولاي عبد الحفيظ، الذي خلف السلطان مولاي عبد العزيز، الذي تولى الحكم خلفا لأخيه عبد العزيز، أسهل، فتم القبض على «بوحمارة» في غشت 1909، ووضع في قفص وعرض في الساحة الكبرى بفاس، قبل أن يعدم رميا بالرصاص يوم 12 شتنبر 1909، ويتم سلخ جلده، ورمي جثته للوحوش الضواري . وقد قاد بوحمارة معركته الأخيرة ضد جيش السلطان حفيظ في عام 1909، بدعم من جانب فرنسا. بعد أن تأكد من أن جيشه قد اقترب من نهايته، لجأوا إلى مسجد في الزاوية الدرقاوية، حسب الاعتقاد بأن حياته ستكون بمنأى عن الخطر. لكن على الرغم من الطابع المقدس للزاوية، تعرضت للقصف ودمرت بالمدفعية الثقيلة التي قدمها للسلطان حلفائه من الفرنسيين، حيث تم القبض على بوحمارة الجيلالي الزرهوني مع 400 من جنوده وموظفيه واقتيد إلى مدينة فاس، لتنفيذ حكم الإعدام فيه بأبشع طريقة، إذ كما تشير أغلب المراجع التاريخية ، أنه كان قد وصل إلى فاس على قيد الحياة، معتقلا رفقة 160 من رجاله ، وفي يوم 2 سبتمبر 1909، تم تعذيبه وإعدامه بمعية الجميع من رجاله في الأماكن العامة، وتم سلخ 32 جثة، من بينها جثة بوحمارة، وتسليمها إلى الوحوش، وهو الحادث الذي صدم العديد من أفراد القنصليات الأوروبية المتواجدة في المغرب، ممن عاينوا التعذيب .