بوحمارة هو الشيطان وهو الملاك. هو المتمرد الشجاع الذي تمرد على سطوة المخزن وهيبته وجبروته، وهو الفتان الأخرق الذي زرع الرعب في مناطق شاسعة من المغرب وقتل وذبح واغتصب. بوحمارة هو المجاهد الذي قاوم ضعف الدولة المغربية أمام الأطماع الأجنبية في وقت حساس من تاريخ المغرب، وهو أيضا العميل الذي أراد بيع البلاد لفرنسا وإسبانيا وتلقى الدعم من أوروبا من أجل خراب المغرب. بوحمارة هو المقاوم الصنديد وهو الجبان الرعديد. هو الرجل الشريف الأصل وهو الرجل الوضيع النسب. هو السلطان وهو الفتّان. إنه كل شيء. رجل يجتمع فيه الماء والنار والحليب والزيت والعسل والوحل. لكن ما السر في أن يكون بوحمارة، بعد قرن على رحيله، لا يزال إلى اليوم يثير كل هذا التناقض والحيرة في تفسير شخصيته ومرحلته. بل إن بوحمارة هو الرجل الأكثر غموضا في تاريخ المغرب. والغريب أن هناك رجالا أثاروا الكثير من الجدل في تاريخ البلاد منذ مئات السنين، لكن الأضواء التي سلطت عليهم كانت كافية لكي يفهم الناس من كانوا وكيف عاشوا، أما بوحمارة فإنه عاش قبل مائة عام فقط، لكن، ومن خلال الغموض والتناقض اللذان يحيطان به، يبدو أنه عاش في مرحلة الديناصورات. لكن، وفي كل الأحوال، فإن أغلب المصادر التاريخية تصف بوحمارة، واسمه الجيلالي الزرهوني، نسبة إلى مسقط رأسه في زرهون قرب مكناس، بأنه فتان ودعيّ وخارج عن الشرعية. وزادت على ذلك في وصف «المذابح التي قام بها ضد المخزن والرعية»، إلى درجة أن اسم بوحمارة أصبح مع توالي السنين نموذجا للفتنة وللخروج عن السلطان. ظهر بوحمارة في فترة حاسمة من تاريخ المغرب. فبعد وفاة السلطان الحسن الأول، تنازع خلافته عدد من أبنائه، كان الحظ للابن الأصغر مولاي عبد العزيز، بدعم كبير جدا من الصدر الأعظم باحماد، الذي كان داهية وعقربا سياسيا حقيقيا، وذلك عندما وضع جثمان السلطان الحسن الأول على هودج، وكأنه حي يرزق، وطلب من العسكر والقبائل مبايعة ابنه عبد العزيز، كما يرغب حضرة السلطان، وبعد أن تمت المبايعة، انتقلت كل السلطات الحقيقية إلى باحماد، بينما ظل السلطان الصغير محاصرا في حديقة قصره يجرب اللعب الجديدة التي كان يمطره بها الأجانب ويتلقون أسعارها من خزائن الدولة. ولأن المصائب لا تأتي إلا مجتمعة، فإن الميزانية الهائلة التي كانت تكلفها ألعاب السلطان وهواياته، انضافت إلى تبعات حركات تمرد في البلاد، أقواها تلك التي قادها الجيلالي الزرهوني، الذي ادعى أنه الابن الأكبر للسلطان الراحل، فجاب المناطق الرابطة بين فاس وتازة ووجدة والريف وجبالة، باحثا عن دعم ل«دولته»، وهو ما حصل عليه لفترة من الزمن في شمال المغرب، هذه المنطقة التي كانت في المنزلة بين المنزلتين، لا هي تابعة للسلطان ولا هي مستقلة عنه، لذلك اختارها بوحمارة منطلقا لتمرده على المخزن وهيبة السلطان المتردية. كان بإمكان بوحمارة، الذي تصفه المصادر التاريخية بأنه كان عالما باللغة والفقة وبشؤون الفلك وأمور الشعوذة، أن يحصل على دعم أكبر مما كان يتوقعه، لولا تلك الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها، والتي جعلت حركته لا تستمر أكثر من تسع سنوات، أي منذ أن انتصر على جيش السلطان عبد العزيز سنة 1902، وإلى أن حاصره أتباع القائد الريفي الشريف أمزيان سنة 1909 وسلموه إلى فاس لكي يوضع في قفص مثل حيوان مخيف، وانتهت بذلك ثورة هذا الرجل الذي لا يزال إلى اليوم يثير شهية الكثيرين للاطلاع على مرحلته التاريخية المثيرة. كان بوحمارة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مجرد ورقة في مسلسل الانهيار الكبير الذي عرفه المغرب. ويلوم المؤرخون كثيرا حركة بوحمارة لكونها أنهكت ميزانية الدولة عبر اضطرار السلطان للاقتراض من أجل شراء الأسلحة لمواجهة هذا المتمرد، فغرقت البلاد في مستنقع الديون مما جعلها تقترب بسرعة من مشنقة الحماية. لكن، ولأن التاريخ يجب أن يكون منصفا وصارما، فإن السلطان عبد العزيز لم يفعل الكثير من أجل الكف عن إرهاق ميزانية الدولة، حين كان يمضي أغلب أوقاته في ممارسة ألعابه، مع أنه السلطان الذي ارتبطت ذمته ببيعة الناس. ويروي المؤرخون كيف أن المحتالين الأوروبيين كانوا يحيطون بالسلطان الصغير السن، مع أنه لم يكن في سن اللعب، وكانوا يمطرونه بوابل من اللعب الأوروبية المثيرة مقابل الكثير من المال، بدءا بالدراجات الهوائية ومرورا بالسيارات وانتهاء بالأسلحة الجديدة. ويروي مؤرخون كيف أن السلطان عبد العزيز سمع عن القطار فاشتهاه فأمر بجلبه إلى المغرب، غير أنه بعد المجيء بالقطار على متن سفينة كبيرة، اكتشف الجميع أن المغرب لا يتوفر على سكة حديدية، فتكلفت البغال بجره بطرق بدائية، غير أن الأمر كان مستحيلا، فبقي في نواحي فاس يأكله الصدأ وذهبت المبالغ المالية التي كلفت شراءه أدراج الرياح. هكذا كان المغرب في ذلك الوقت في مهب العبث، وكان من الطبيعي أن يظهر أشخاص مثل بوحمارة أو غيره، لأن نار الفتنة بدأت في البلاط، ثم أحرقت بعد ذلك الأخضر واليابس.