} كيف كانت وضعية المغرب قبيل فتنة بوحمارة؟ - بعد موت السلطان الحسن الأول في 1894، شهد المغرب فوضى لا مثيل لها تمثلت في قيام بعض رجال السلطة بتعسفات على الرعايا، أي المواطنين. وتجلت أيضا في احتماء الكثير من ذوي النفوذ بالأجانب واكتسابهم للجنسيات الأوروبية والأجنبية. كما تجلت أيضا في قيام جماهير لا تحصى باستخدام القوة للوصول إلى ما تظنه حقوقا لها والانتقام من خصومها، إذ إن السلطة المركزية في فاس لم تكن قادرة على ضبط النظام أو إشعار الناس بالطمأنينة في مناطق المغرب المختلفة نظرا لأن السلطان مولاي عبد العزيز، حينما تولى الحكم، لم يكن يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، فاستغل الحاجب، باحماد البخاري، الذي أصله من العبيد، صغر سن السلطان وصار يفعل بالمغرب ما يشاء، الأمر الذي ولد نقمة شعبية كبيرة. } كيف كانت وضعية الحكم المركزي في تلك الفترة؟ - السلطان كان مشتغلا بأموره الخاصة في قصره بفاس ومنزويا إلى عائلته وإلى أصدقائه ولاهيا باللعب التي كان الأوروبيون يجلبونها له من بريطانيا وغيرها، فكان السلطان الجديد لا يعرف ما يدور في المملكة، وصار الحكم إلى بعض رجال المخزن الذين اعتبروها فرصة ومناسبة للاغتناء السريع ولتحقيق مآربهم في الإثراء وفي بناء القصور والانصراف إلى اللذات، ناسين المهمة الأساسية وهي تحقيق العدالة بين المواطنين، والدفاع عن الثغور المغربية ضد الأجانب الذين كانت عيونهم مصوبة على المغرب بعد موت السلطان الحسن الأول. في هذه الظروف لم يكن مستغربا أن يظهر رجال ذوو شوكة هنا وهناك، يريدون الوصول بدورهم إلى تحقيق ما لم يصلوا إليه عبر القنوات الرسمية لأن الطريق بينهم وبين السلطان مسدودة، والحاجب، وهو باحماد، كان سدا منيعا يعوق وصول الشكايات إلى السلطان، وحتى إذا وصلت الشكايات إلى السلطان فإنه كان في عالم آخر بعيدا كل البعد عن اهتمامات وهموم المواطنين. } يبدو أن هذه الظروف كانت مواتية لظهور فتنة أو ثورة ما؟ - فعلا، وكان من جملة من خرج عن دائرة الحكم رجل من ناحية زرهون يدعى الجيلالي بن ادريس الزرهوني. هذا الرجل استغل رمزية مدينة زرهون، أي أنها أول مدينة إسلامية عرفها المغرب بعد مجيء المولى إدريس الأول. كما استغل هذا الرجل معرفته بالعلوم الشرعية على مقدار ما استطاع الوصول إليه، فقد كان فقيها كاتبا عارفا بالتاريخ وبالواقع وبشيء من اللغة العربية. كما استغل ذكاءه ومكره وتضلعه في علوم التنجيم والسحر والعرافة وما إلى ذلك من العلوم الغامضة والسرية والباطنية. لقد استغل هذا كله وزعم لنفسه الملك حيث زعم أنه ابن شرعي للسلطان الحسن الأول. ذلك الابن كان في الواقع مسجونا عند أخيه السلطان عبد العزيز، لذلك قال إنه الأمير محمد، نجل السلطان الحسن الأول. لقد استغل سذاجة المغاربة الذين لم يكونوا يعرفون ما يدور في القصور والحياة الخاصة للملوك. هكذا ذاع صيت الجيلالي الزرهوني على أنه ابن للسلطان الراحل الحسن الأول، وصار يطلب لنفسه الحكم ضد أخيه، متهما السلطان الشرعي عبد العزيز بأنه متواطئ مع الأجانب ومهمل للرعية، وأنه خان العهود ونقض شروط البيعة التي بويع من أجلها، وبالتالي فإنه، أي السلطان عبد العزيز، لم يعد سلطانا شرعيا صالحا لقيادة الأمة ولصيانة المغرب وحماية الوطن. } هل كسب بوحمارة أنصارا كثيرين؟ - صار الجيلالي الزرهوني، المدعو بوحمارة، يستقطب الأنصار والحشود. وكان من بين الناس الذين اتصلوا به واستكتبهم رجل من عائلة أندلسية مرموقة من مدينة شفشاون هو الفقيه الحاج أحمد بن عبد القادر بن ابراهيم السمار الأندلسي الشفشاوني، الذي كان أول من تولى القضاء في تطوان بعد الاستقلال، وكان أيضا من العلماء المبرزين في مدينة شفشاون. هذا الشاب، عندما ظهرت فتنة بوحمارة، كان موجودا في منطقة غيّاسة، حيث كان يمارس التجارة، بالإضافة إلى الإمامة والخطابة وتعليم القرآن، فاستقطبه الزرهوني بوحمارة لمدة من الزمن كاتبا له يراقب ما يجري عن قرب. وعندما أحس بأن دولة بوحمارة تكاد أن تنتهي فر بجلده ورجع إلى بلده شفشاون. وبعد عقود قام بكتابة مخطوط مهم جدا حول أيامه رفقة بوحمارة وسماه «القائم»، وهو لقب خاص أطلقه عليه القاضي السمار، ذلك لأن الناس عادة ما كانوا يطلقون على الجيلالي الزرهوني اسم الروكي وأحيانا الفتان أو الدعيّ، وهي ألقاب كانت تطلق عليه من طرف الناس العاديين كما كانت توجه إليه من طرف الصحافة الأجنبية. لكن القاضي السمار استمر في نعته في مخطوطه المذكور باسم «القائم». في هذا المخطوط لم يتطرق السمار إلى بوحمارة فقط، بل أيضا تطرق لموضوع رجل جزائري كانت له صلة كبيرة ب«القائم» وهو عبد المالك بن محيي الدين الجزائري. عبد المالك هذا هو ابن الأمير الشهير عبد القادر محيي الدين الجزائري، الذي قاوم الاستعمار الفرنسي وضحى في سبيل الجهاد بكثير من الامتيازات إلى أن سقطت الجزائر في يد فرنسا سنة 1830، فارتحل إلى الشام. إن الأمير عبد القادر هو شيخ المجاهدين في الجزائر، وقد ترك أولادا كان من بينهم عبد الملك بن محيي الدين الجزائري، الذي جاء إلى المغرب ولعب أدوارا مع «القائم»، أي بوحمارة. كما لعب أدوارا في طنجة في أيام الحماية الدولية، إلى أن قتل في حرب الريف في ظروف غامضة، وهو مدفون في مدينة تطوان. إن مخطوط الفقيه السمار يتحدث بإسهاب عن تحركات بوحمارة، ويتحدث بإسهاب أيضا عما رآه أو عايشه مع بوحمارة ومع المقربين منه. هذا المخطوط يستمد أهميته من كونه الوحيد الذي كتبه الكاتب الخاص لبوحمارة. أما الكتابات الأخرى فكانت بواسطة أشخاص بعيدين عن بوحمارة، سواء الأجانب أو من أعدائه. لقد عاش السمار سنوات إلى جانب بوحمارة، وهنا تكمن أهمية مخطوط «القائم». أما حكاية كتابة هذا المخطوط فهي طريفة إلى حد ما، وهي أن الفقيه السمار حصل وبواسطة هذا المخطوط على وظيفة قاض بتطوان. لقد تقدم السمار إلى مولاي خالد الريسوني، لكي يتوسط له من أجل الحصول على وظيفة في القضاء، فطلب منه هذا الأخير أن يؤلف مخطوطا حول بوحمارة، وهذا ما كان. } تمرد بوحمارة إذن عبرة تاريخية؟ - كانت فتنة بوحمارة كبيرة وجاءت نتيجة للفوضى العارمة ولتفكك الإدارة ولانصراف السلطان الشرعي إلى حياته الخاصة ولانقطاعه عن مباشرة شؤون الرعية. كما جاءت نتيجة لغلبة الجهل على الناس، ونتيجة لأطماع النخبة الاقتصادية والسياسية، والتي كانت موجودة في فاس والدار البيضاءوتطوان، هذه النخبة التي احتمت بالأجنبي. ونتيجة لهذه الفوضى العارمة ولتأخر وانحطاط المغرب ولعدم قيام كثير من أهل العلم بواجباتهم، قامت تلك الحرب الأهلية التي كلفت المغرب الشيء الكثير. ولديّ كتاب «تاريخ الاستعمار الفرنساوي والإيطالي في بلاد العرب»، لمؤلفه أمين سعيد، تكلم عن هذه الحقبة من تاريخ المغرب أيام السلطان عبد العزيز وتحدث عمن أسماهم «الخوارج». لقد تحدث عن الخوارج الثلاثة الذين خرجوا عن طاعة السلطان عبد العزيز وهم أخوه عبد الحفيظ، وبوحمارة، وثالثهم الشريف مولاي أحمد الريسوني. لكن هؤلاء ليسوا كالخوارج الذين خرجوا علميا وعقديا عن أهل السنة، ولكنهم خرجوا بالقوة والسلاح عن الحكم المركزي المغربي الموجود في تلك الفترة الدقيقة من تاريخ المغرب. } ولكن لماذا هذا الصمت حول فترة بوحمارة؟ - لقد كتب الأجانب الكثير عن هذه الفترة الحالكة من تاريخ المغرب، وما أحوجنا أن ننبش في ما كتبه هؤلاء وأن نترجمه لكي نعرف حجم المصيبة التي أصابت المغرب بعد وفاة السلطان الحسن الأول، وهي مصيبة كبيرة جدا. ونحن عندنا في المغرب قاعدة وهي أن السلطان العظيم إذا مات فإن أبناءه يتقاتلون في ما بينهم ويتنازعون الملك ويحدث فراغ، ومثال ذلك ما حدث في عهد السلطان مولاي إسماعيل ومولاي محمد بن عبد الله الذي كان أيضا سلطانا عظيما، وأبناؤه مسلمة وهشام وعلي وسليمان تقاتلوا في ما بينهم. والسلطان الحسن الأول عندما مات ترك الفراغ أيضا.