حاوره: جمال محافظ في هذا الجزء الأول من هذا الحوار الطويل يعود عبد الرحمان اليوسفي، أحد أشهر معارضي نظام الحسن الثاني، وأول زعيم من الاتحاد الاشتراكي يتقلد منصب الوزير الأول في عهد الملك الراحل، إلى بدايته مع مهنة الصحافة في الأربعينيات. كيف جئتم إلى مهنة الصحافة؟ كان لي أخ يشتغل في إحدى المطابع، وكان يدرس في كوليج مولاي يوسف، ولم يتمكن من استكمال دراسته من أجل امتهان التعليم، فعاد بعد ذلك إلى طنجة ومكنته درايته بشيء من اللغات الأجنبية، خاصة الفرنسية والإسبانية والعربية، من الاشتغال في مطبعة إسبانية تتولى طبع عدد من الجرائد. وكان عندما يعود إلى المنزل، لتناول وجبة الغذاء، يحمل معه بعض الأعداد من هذه الجرائد التي تتولى مؤسسته طبعها، وعندما يطالعها، ويعود إلى عمله بالمطبعة، كان يتركها جانبا على المائدة، الأمر الذي كان يتيح لي فرصة الاطلاع عليها، فكان هذا هو أول لقاء لي مع الصحافة. فعندما كان عمري آنذاك 12 سنة، أي بالضبط في 1936، وهي السنة التي تقدمت فيها لاجتياز الشهادة الابتدائية، وباعتبار كوني ابن طنجة، التي كانت في آنذاك تخضع لنظام دولي وتعيش بها جالية إسبانية كبيرة، فقد عشت آنذاك أجواء الحرب الأهلية التي وقعت في إسبانيا من خلال ما تنشره وسائل الإعلام من تطورات هذه الأحداث التي كانت تجد صداها بالمدينة، حيث كان السكان وأنا معهم نتابع تفاعلات هذه القضية. وذات مرة، طلب مني والدي أن أشرح له ما كتبته الجرائد التي كان يجلبها أخي معه والتي كانت على الطاولة، خاصة ما تحتويه من أخبار متعلقة بتطورات الحرب الأهلية الإسبانية. كانت تلك أول مرة أتجرأ وأتصفح الجرائد، التي كان أخي الأكبر كعادته يأتي بها للمنزل، فقرأت على الوالد رحمه الله مضامينها، التي كانت تواكب مجريات الأحداث وتحركات الجنرال فرانكو. فلما كنت غارقا في ترجمة ما جاء في الصحيفة من الإسبانية إلى العربية، نهرني وقال لي ساخرا، هل هذا هو مستوى الشهادة الابتدائية التي كنت على التو قد حصلت عليها. "أرجوك" قال أبي غاضبا، "لا تترجم لي، اقرأ فقط ما جاء فيها، فأنا أفهم هذه اللغة". موقف أبي هذا صدمني كثيرا، لكنه جعلني ومنذ ذلك الوقت أبذل مجهودات مضاعفة، لكي أفهم وأحيط وأهتم بشكل جيد بالصحافة، خاصة الصادرة باللغة الإسبانية، رغم أن عمري كان لازال آنذاك 12 سنة فقط. إذن كيف جئت إلى الصحافة وامتهنتها في ما بعد؟ عندما عاد أحمد بلافريج بعد سنة 1946 إلى المغرب، اشتغل في جريدة "العلم"، في هذا الوقت، وعلى المستوى الشخصي، كنت قد طردت من ثانوية مولاي يوسف بالرباط، ولم أستطع بعد ذلك التوجه إلى طنجة، وبقيت أتجول في منطقة الرباط، قبل أن أتوجه إلى مدينة الدارالبيضاء. وهنا أود أن أقول إنه قبل هذه الفترة بقليل، كانت أول مرة أسمع فيها اسم المهدي بن بركة، وكان ذلك في ثانوية مولاي يوسف، حيث كان هناك اجتماع لقدماء طلبة هذه المدرسة، خصص لانتخاب رئيس لهم. وتقدم مرشح لتولي هذه المهمة، وهو صديق رضا اكديرة واسمه رشيد مولين، الذي كان واثقا من فوزه بالمنصب، غير أن منافسه المهدي بنبركة، تمكن من الفوز عليه لنيل هذا المقعد، وانتصر على كل أعيان الرباط الذين كان مولين في حقيقة الأمر يمثلهم. وتزامن هذا الحدث مع إنزال القوات الأمريكية والحلفاء بالمغرب، أي قبل موعد 11 يناير 1944، كان ذلك بالضبط في دجنبر 1943. كان المهدي يراقب ويتابع عملنا نحن تلاميذ ثانوية مولاي يوسف، فأعد لائحة من الأسماء، قام باستدعائها في تلك الفترة إلى منزله، وكنت من بين هؤلاء التلاميذ، وكان عددنا ما بين خمسة أو ستة طلبة. وكان هذا اللقاء مناسبة أخبرنا خلالها أن هناك حزبا وطنيا سينشط ويتحرك، غير أنه لم يخبرنا باسم هذا الحزب، مكتفيا بالإشارة إلى أن هذه الهيئة السياسية تمثل الحركة الوطنية. وبعد ذلك في 11 يناير 1944، سيتم الإعلان عن تأسيس حزب الاستقلال الذي سيقدم عريضة المطالبة بالاستقلال إلى الملك محمد الخامس، والمقيم العام، والبعثات الدبلوماسية الأجنبية بالمغرب. لقد تولى المهدي مهام تعميم ونشر نص العريضة، وترويج مضامينها بين المواطنين، والدعاية لها وإصدارها في نشرات، وكان بنفسه يتولى تحريرها. وبهذا خرج الشعب المغربي بأعداد كبيرة وغفيرة، في مظاهرات بعدد من المدن منها سلا وفاس ومراكش، تأييدا لمطلب الاستقلال عن الاستعمار. ومن أجل مواجهة هذه الانتفاضات، التي عمت غالبية المناطق المغربية، حاول الفرنسيون في يوم 29 من يناير 1944 كسر هذه المظاهرات والالتفاف عليها، وذلك باعتقال كل أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، والذي كان من ضمنهم المهدي بن بركة، واليزيدي وعبد الرحيم بوعبيد، وبقية مكونات اللجنة التنفيذية. أين كنت في فترة المظاهرات هذه؟ كنا آنذاك نقيم بداخلية كوليج مولاي يوسف، لما علمنا باندلاع هذه المظاهرات التي وصلت إلى المشور القريب من أسوار الثانوية، وقمنا بدعوة كافة التلاميذ الداخليين إلى الالتحاق بالمظاهرة التي يصلنا صداها بالمشور، وفي هذا الصدد تحدينا مدير الكوليج، بعدما حاول منعنا وصدنا من الالتحاق بالمظاهرات، فأسقطناه أرضا وكسرنا له يده وذهبنا إلى المشور. عندما انتهت المظاهرة، عدنا أدراجنا إلى كوليج مولاي يوسف حيث اعترضنا المدير عند باب الثانوية، وخاطبنا بلهجة حادة قائلا: أردتم الخروج من المدرسة والالتحاق بالتظاهرة، فعودوا أدراجكم حيث كنتم، الآن لا دراسة، ولا منحة، ولا كتب ولا ملابس حتى. إذن، وبناء على هذا القرار، أصبحنا جميعا خارج أسوار الثانوية وعرضة للشارع. لجأنا إثر ذلك إلى مسجد السنة القريب من كوليج مولاي يوسف، من أجل التزود بالماء الشروب، وللاستراحة قليلا من تعسف المدير، فلاحت أمامنا مشاكل وطرحنا تساؤلات على مستقبلنا، منها كيف سنتعامل مع زملائنا من التلاميذ صغار السن؟ وأين سنقضى الليل؟ ومن أين سنحصل على الكتب والملابس؟ بقينا هناك في المسجد، ولمدة طويلة من الوقت نناقش هذه المشاكل التي وضعنا فيها تعنت مدير الثانوية. لكن الإخوان الوطنيين في مدينة الرباط، لما تناهى إلى علمهم الخبر، التحقوا بنا بالمسجد، وكانوا بالعشرات، فقاموا بتوزيعنا على بيوت الوطنيين، وظل جميعنا هناك، إلى أن جاء أهالي كل تلميذ وأخذوه معهم. هل تركتكم السلطات الفرنسية وشأنكم؟ تصعيدا في عمليات القمع، كانت السلطات الفرنسية تلقي القبض على كل من سولت له نفسه إيوائنا واحتضاننا نحن تلاميذ كوليج مولاي يوسف، إمعانا منها في قمع وترهيب كل من سولت له نفسه الاحتجاج والتظاهر ضد تواجدها. فأنا كنت عند منزل سيد يدعى بن براهيم، فألقوا علي القبض من هناك، وبعدما أفرج عني، تهت ولم أكن أعرف الوجهة التي سألجأ إليها. كنت في الحقيقة وحيدا، كلما استطعت فعله هو التجول بمدينة الرباط. وبالصدفة، التقيت أحد الأصدقاء الذي نصحني بأن أطرق باب الفقيه بلعربي العلوي، باعتباره الشخص الوحيد الذي يمكن أن يقدم لي يد المساعدة لإيجاد حل لمشكلتي. وهذا بالفعل ما فعلت، لأن مصطفى ابنه كان يدرس معي بالثانوية. وبقيت مقيما لدى أسرة الفقيه بلعربي العلوي لمدة شهر، إلى أن جاءت القوات الاستعمارية لاعتقاله ونفيه إلى منطقة الصحراء مع ابنه مصطفى، مما جعلني أعاني من جديد من التيه بين دروب الرباط. المقصود من كل الكلام هول أن أوضح لك هذا السياق الذي سيقودني إلى ممارسة الصحافة. المهم كانت قد حلت سنة 1946، وأطلق سراح العديد من المعتقلين، وعاد الحاج أحمد بلافريج، وبعودته صدر العدد الأول من جريدة "العلم"، وكنت وقتها في مدينة الرباط، ومع هذا العدد تبدأ قصتي مع الصحافة، إذ طلبت من الإخوان أن أحمل معي من الرباط إلى الدارالبيضاء رزمة من الجريدة. وكان هذا هو أول عدد لجريدة "العلم" يطلع عليه البيضاويون. وبالمناسبة أنا الذي حملت نسخا منه في كيس كبير، وأخذت القطار الرابط بين الرباطوالدارالبيضاء. ولكن ما هي المهام التي كنت تقوم بها بالضبط؟ بما أنني كنت أشتغل مع الوطنيين المغاربة، فقد كنت أضطلع في مرات متعددة، بمهام مراسل للجريدة من الدارالبيضاء، حيث كنت أتولى إنجاز تغطيات حول كل ما يتعلق بالأحداث الهامة. وهنا أتذكر ما حصل في المجزرة التي شهدها درب الكبير بالدارالبيضاء، التي أزهقت فيها أرواح العديد من المواطنين، وهنا لازالت تلك صور المؤملة التي شاهدت لما زرت منزل أحد المواطنين، ويدعى المغربي، في مخيلتي، فقد كانت به العديد من الجثث متناثرة. وأنا منذ كنت صغير السن، لم يخطر ببالي ولو لحظة أن أعمل في الوظائف التي لها ارتباط بالجانب الصحي، فكنت عندما أذهب إلى المستشفى، كانت تضايقني تلك الرائحة التي كانت تعم أركانه وأجنحته. كما لم يكن يخطر في بالي أن أعمل في مهنة الطب أيضا، وهذا ما زاد وصعب من مهامي في التغطيات الصحفية من قبيل هذه الأحداث المؤلمة. إذ من الصعب علي استنشاق رائحة الدم الغزير الذي كان يتدفق من تلك الجثث المتراكمة في أنحاء البيت والرائحة التي كانت تنبعث منها. لكن وعلى الرغم من هذه الظروف، أنجزت في ذلك اليوم مراسلة لجريدة "العلم" حول كل ما تعلق بزيارة الملك محمد الخامس إلى منطقة درب الكبير سنة 1947، ووقوفه على هذه الأحداث المؤلمة، وأيضا تضامنا مع ضحايا هذه المجزرة الرهيبة التي اقترفتها القوات الاستعمارية الفرنسية. سردت هذه المحطات، سواء خلال طفولتي الأولى، التي قضيتها في أحضان الأسرة بمدينة طنجة، ومرحلة الدراسة الثانوية بالرباط، وأيضا مراسلاتي الصحفية الأولى لجريدة "العلم" لسان حزب الاستقلال، وذلك حتى أبين أن اهتماماتي بالصحافة كانت منذ أن كنت طفلا، كما أن إدراكي للأهمية الخاصة التي تكتسيها السلطة الرابعة، لم يكن طارئا ووليد الصدفة فقط، وإنما كان إن صح ذلك، منذ بداية وعيي في مرحلة الطفولة المبكرة.