سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اليازغي: مكنني حزب الاستقلال من دخول القصر وأنا ابن 15 سنة ووالدي كان دائما يحذرني من الاعتقال الحزب طلب منا سنتي 51 و 52 تهدئة الأجواء ضد فرنسا لتفادي إحراج الملك
في صيف 2003، أعدت طرح الفكرة عليه وأثناء مناقشتها، بدت لنا صعوبة أن يخصص يوميا وقتا لكتابة هذه المذكرات، فجاءت فكرة أن أسجل له، ليس مذكرات، بالمعنى المتعارَف عليه، بل تسجيل مساره كإنسان، على شكل حوار صحافي مطول، وهكذا كان. وسجلنا ما يقارب عشر ساعات، لكن النتيجة كانت فشلا، لأن جوابه عن كل سؤال كان جوابا عن كل شيء إلا عن شخصه ودوره وموقفه. كانت الساعات التي سجلتها، ليس عن محمد اليازغي بل تأريخا للمغرب وللحزب الذي انتمى إليه، إن كان من أجل الاستقلال أو من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في وطنه ولشعبه، وخلصت، مع أن خلاصتي لم تنل رضاه، إلى أن تجربة التسجيل غير موفقة أو على الأقل ليست كما تصورتها، وقبِل معي أن نعيد التسجيل، لكن بعيد ذلك، في نونبر 2003، انتخب كاتبا أول للحزب، فتأجل كل شيء. وفي صيف 2009، قررنا أن نعيد التجربة، فكانت هذه النتيجة، التي أستطيع القول إنني لم أنجح فيها، على الأقل بالنسبة إلي، في أن «أحفزه» على الخروج, بشكل كامل أو كبير نسبيا، من العامّ نحو الخاص الذي كان يتدفق منه خارج التسجيل في لقاءات ثنائية أو عائلية أو مع مجموعة من الأصدقاء، بل أكثر من ذلك كان التدفق أحيانا بعيد إنهائنا التسجيل، حيث كان، عدة مرات، يتحدث همسا أو يطلب إيقاف التسجيل ليشرح أو يُفصّل أو يروي. هذه الصفحات، ليست كل ما سجل، إذ كثيرا ما تذكرنا أحداثا ووقائع أثناء تفريغ الأشرطة أو التصحيح والمراجعة فأضفناها. هذه الصفحات، إذا لم تكن مذكرات، فإنها، وبالتأكيد، ستكون مرجعية لكل باحث أو مهتم بالشأن السياسي المغربي الحديث، لأنها ليست صفحات مراقب أو شاهد، بل هي صفحات فاعل ومؤثر، لعب دورا متميزا في مسيرة وطنه وحزبه. - كيف انخرطت في حزب الاستقلال؟ لقد انخرطت في حزب الاستقلال سنة 1950 بعد نهاية دراستي الابتدائية والتحاقي بالثانوي في نفس المؤسسة «مولاي يوسف»، وأديت اليمين بالإخلاص للحزب بوضع يدي على القرآن الكريم. كان انخراطي في حزب الاستقلال وأنا ابن خمس عشرة سنة، أي وأنا بصدد البحث عن توازني الروحي، وعلمت آنذاك بأن مؤسس الحزب هو أحمد بلافريج وأنه والوطنيون الرواد بنوا حزبا عصريا بكل معنى الكلمة، وبذلك تجاوزوا صيغة الزاوية التي عرفتها الحركة الوطنية من قبل.. لقد بدأ التعرف على حزب الاستقلال من خلال تلاميذ الأقسام النهائية (للقسم الأول للباكلوريا). كنا نحن في الأقسام الأولى في مؤسسة «مولاي يوسف»، وكان هؤلاء مكلفين بالاستقطاب من خلال الاتصال بتلاميذ المراحل الأولى، ومن الطبيعي أن كان التلاميذ في قسم الباكلوريا بالنسبة إلينا يتمتعون بهالة من الاحترام، ولهذا كان تأثيرهم علينا قويا. ولقد وقع الاتصال بي من قبل هؤلاء التلاميذ، وكانت ثانوية «مولاي يوسف» تحتضن وعيا وطنيا قويا، فهي الثانوية التي تخرج منها المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد. وعندما تأسست جمعية قدماء مولاي يوسف انتخب بن بركة رئيسا لها. طبعا في ذلك الوقت نحن لم نكن نعرف المهدي بن بركة بل كنا نسمع عنه قبل أن أقدَّم إليه في آخر 1950 قبل نفيه، وهي المدرسة التي عرفت مظاهرة قام بها التلاميذ إبان تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال سنة 1944 والتي أصيب فيها روكس، مدير المدرسة. وكان لي اتصال بمحمد البدراوي في قسم الباكلوريا والذي سيصبح صديقا وهو ابن القاضي البدراوي الذي سيكون عضوا في لجنة تحرير مدونة الأحوال الشخصية سنة 1957 مع علال الفاسي وعبد الرحمان الشفشاوني وعبد الكريم بن جلون، وهو الأخ الأكبر للباتول البدراوي التي ستنتخب فيما بعد عن الاتحاد الاشتراكي في المجلس البلدي للرباط. وتم الاستقطاب بكيفية عادية عن طريق زملاء في القسم، كان لديهم اتصال بتلاميذ في قسم الباكلوريا ينتمون إلى الحزب، وأحد هؤلاء كان يشرح لنا الوضع في البلاد وأهداف الحزب كتنظيم وطني يسعى إلى استقلال البلاد وتحررها. وكان حزب الاستقلال بالنسبة إلينا حزبا معروفا. كما سلموا إلينا كراسات عن الحزب من أجل تكوين وعينا. وأول اتصال رسمي لجماعتنا بالمهدي بنبركة كان في 1950، ربما بضعة أسابيع قبل نفيه في بداية 1951، ولم أر المهدي بعد ذلك إلا سنة 1954 بعد إطلاق سراحه. وكنا خلال هذه السنوات نتكون في الوطنية عن طريق الأساتذة الوطنيين، مثل عبد الرحمن حجي الشاعر الذي كان له دور كبير في معرفتنا بالأدب العربي القديم والحديث وكل مدراس الشعر، من الجاهلي إلى الأموي إلى العباسي إلى الأندلسي، والشعر الحديث وأقطابه مثل أحمد شوقي وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وأبي قاسم الشابي، وكذلك الشعراء المغاربة الذين منهم عبد الرحمن حجي نفسه ومحمد زنيبر الذي كان أستاذي في الثانوية. وبعد ذلك كنا نلتقي في الاتحاد الاشتراكي، أنا في القيادة وهو في مسؤوليات وطنية، وقد كان خريج السوربون وجاء من هناك متأثرا بعصر الأنوار والفكر التقدمي، وكان حريصا على فتح نقاش مع التلاميذ في هذا الميدان، وكان هناك أيضا الطيبي بن عمر، مؤسس ورئيس حركة الطفولة الشعبية فيما بعد، وكان أستاذا للرياضيات، يعطينا دروس التقوية في هذه المادة، حيث كنا نجتمع أسبوعيا في منزل عبد اللطيف خالص. لقد عمل هؤلاء الأساتذة على غرس حب الوطن في قلوب التلاميذ وبثوا فيهم روح التعلق بالبلاد والاعتزاز بماضي الشعب المغربي وتألق تاريخه وعبقرية أبطاله، وهيؤوا نفسي لأشارك في محاربة الاستعمار وأقتنع بضرورة إصلاح البلاد. وكان هؤلاء الأساتذة ينتقدون الركود الذي عرفه المجتمع والتقاليد البالية التي تكبله ويدعون التلاميذ إلى العمل على تغيير تلك التقاليد وتعويضها بعادات جديدة وصحيحة. ولقننا محمد زنيبر أن معرفة تاريخ الأمة ضروري لتأكيد الهوية وصيانة الذات والشخصية، مع الحرص دوما على التطلع إلى المستقبل المنشود والتهيؤ للغد بروح العصر الذي نعيشه. كما أن أساتذتي الفرنسيين، وخصوصا التقدميين منهم ككوطلاند ونيكولي وبانزوتي وجويديسيلي وسالفرانك، كانوا يزودونني بالكتب والمراجع في شتى العلوم والفنون. كما حثوني على الاسترشاد بالحياة لتوضح لي الطريق. فكنت ألتهم كل ما يصل إلى يدي من كتب وكراسات، كما أني كنت أقتني عدة الكتب من الجوطية في الرباط التي كان بها عدد كبير من الكتبيين، وإلى جانب ذلك تسجلت منذ دخولي إلى الثانوية في الخزانة الصغيرة التي كانت موجودة في باب شالة قرب مدارس محمد الخامس، وفيما بعد بدأت أستعير الكتب من الخزانة العامة قرب باب الرواح. لقد كان من حسن حظي أن تمكنت من اللغتين العربية والفرنسية، وأنا مدين بذلك لأساتذتي الذين كرسوا جهدهم لتعليمي اللغتين، ولو أن ذلك كان بصعوبة في البداية لأن لغة المنزل والعائلة ليست هي لغة المعلم والقسم، كما أنني مدين لأساتذتي الأجانب والمغاربة في المرحلة الثانوية بتعليم حديث في مضامينه وعقلاني في منهجيته وبرامجه. وقد لقننا أساتذتنا، خصوصا محمد زنيبر، أن الإسلام الصحيح هو قوة تحريرية وأن العقل يفتح لنا نوافذ على الحياة ويعجل يقظة المغرب ورقيه. وكان الأساتذة المغاربة يلقنونا ألا نتخوف من مظاهر القوة عند المستعمر ويقنعوننا بأن الشعب المغربي سيكسب المعركة. كم كانت مهمة دعوة أساتذتي إلى الاهتمام بالمصلحين في العالم الإسلامي: عبد الرحمان الكواكبي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضى وقاسم أمين وطه حسين، والمغاربة محمد بالعربي العلوي وعلال الفاسي. فكانت لي مناسبة لدراسة مؤلفاتهم ومسارهم النضالي والفكري. وفي نفس الوقت، وجهني الأساتذة الفرنسيون التقدميون إلى عطاءات رجال الفكر والمبدعين في أوربا في عصر الأنوار وما بعده، خصوصا القرن التاسع عشر والنهضة الفكرية الاشتراكية والفلسفية التي عرفها، ودفعوني إلى معانقة العقل والتفاعل مع نبض الحياة الرحبة والالتصاق بقضايا الحرية. - كيف كان موقف الوالدين، وهل كانت البيئة العائلية تهتم بالسياسة؟ كان حنان الوالدين وعطفهم شيئا أساسيا في حياتي، كانت علاقتي بالوالد علاقة حميمة وقوية. وبطبيعة الحال، كنت أشعر بعناية خاصة فيما بعد مع تزايد النشاط السياسي، حيث تحولت العناية والحميمية إلى خوف علي من الاعتقال. أما الوالدة فكانت تزرع في نفسي الطموح المشروع إلى العمل على تسريع وتيرة رفع مستوى معيشة العائلة باستمرار إلى الأعلى، وكانت تعطي المثال في العمل والكد لضمان مستوى لائق لأبنائها وبناتها، والاهتمام بأن أستمر في دراستي وأرتقي فيها من الابتدائي إلى الثانوي ومن الثانوي إلى التعليم العالي. كانت عائلتنا عائلة بسيطة في حياتها تشتغل لمواجهة متطلبات الحياة وضمان مستوى عيش كريم، ولم يكن لها أي وقت للاهتمام بما يجري حولها، وكانت متشبثة بالقيم, محافظة على الشعائر، ولاسيما أن الوالد كان من مريدي الطريقة التيجانية. وكان حريصا على أن يصحبنا بضع مرات في السنة إلى حماة مولاي يعقوب وإلى حماة سيدي حرازم، كما كانت العائلة تنتقل إلى مولاي إدريس زرهون وإلى مكناس أيام موسم المولى إدريس الأول والشيخ بنعيسى. - ماذا كان أول نشاط حزبي مارستهبعد انتماءك إلى حزب الاستقلال؟ بعد أداء اليمين، كان نشاطنا مركزا في الاجتماعات الأسبوعية التي كانت تنقسم إلى فترتين، فترة دروس التقوية في المواد الدراسية وفترة الاطلاع على أخبار الحزب والسياسة الاستعمارية في البلد، سواء كانت تتعلق بالوضع الداخلي أو الخارجي. وكانت اجتماعاتنا، التي تعقد غالبا في منزل عبد اللطيف خالص، تعرف نقاشا ملتهبا بسبب دعوة قيادة الحزب إلى الالتزام بالنظام والهدوء في وقت تصادم فيه المقيم العام المارشال جوان وبعده الجنرال كيوم مع محمد الخامس. منا من كان يتفق ويدافع عن الانضباط لتوجيهات القيادة، ومنا من كان يرى أن الوقت حان لمواجهة المستعمر بأساليب جديدة، بما فيها العنف. وكنا نطلع على جوانب نجهلها من تاريخ الحركة الوطنية منذ ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي والمقاومة المسلحة للقبائل المغربية للاستعمار ومراحل تشكيل الحركة الوطنية والمطالب التي قدمتها إلى فرنسا، وكذلك ظروف المطالبة بالاستقلال سنة 1944 وما عرفه المغرب من مظاهرات ومن قمع شرس من طرف السلطات الفرنسية، ودعم الحزب لمحمد الخامس في مواقفه بصياغة المذكرات التي قدمها إلى رئيس الجمهورية الفرنسية لإنهاء عهد الحماية وبناء علاقات جديدة بين المغرب وفرنسا، وكانت القيادة حريصة على أن نأخذ كل الاحتياطات لعقد اجتماعاتنا في سرية مطلقة باختيار المكان الملائم والتوقيت المناسب، لأن أعين جواسيس فرنسا كانت مفتوحة لرصد كل تحرك وطني مهما كان حجمه. - هل كانت لكم أنشطة حزبية خارج الاجتماعات؟ نعم، كانت هناك العديد من الأنشطة الجماهيرية الواسعة، فقد كنا نقوم، مثلا، بتوجيه من قيادة الحزب، بصوم يوم 30 مارس الذي هو ذكرى إبرام معاهدة الحماية بين السلطان عبد الحفيظ وفرنسا سنة 1912. وكانت النشاطات الأخرى تتجسم في المشاركة في التظاهرات التي ينظمها الحزب، خصوصا بمناسبة عيد العرش، ليس فقط في الاحتفالات الشعبية في الشوارع، حيث كان لكل حي احتفال بنكهة خاصة، بل أيضا في تظاهرات سياسية ولقاءات موسعة. فالاحتفال يوم 18 نونبر، ذكرى جلوس محمد الخامس على العرش، كان يشكل موقفا شعبيا لرفض الاستعمار وتعبيرا جماعيا عن المطالبة بالاستقلال. وفي الرباط كان الاحتفال يجري في أحد منازل رجال الحركة الوطنية، وتحديدا في منزل عائلة أبي شعيب الدكالي في شارع تمارة أو منزل عائلة الجزولي في المدينة القديمة. وكان الحزب يستغل مثل هذه المناسبات لفتح نقاشات واسعة حول الأوضاع في البلاد وأيضا إلقاء قصائد شعر حماسية ومعبئة. وقد تميزت احتفالات نونبر 1952، وهو العيد الفضي لمحمد الخامس، بمشاركة شعبية واسعة وبتزيين رائع في شوارع وأزقة الرباط فاق كل ما كان يقام في السنوات الأخرى. ونظمت حفلات موسيقية كبرى ورددت الأناشيد في كل أحياء المدينة. وبتوجيه من الحزب، قدمت هدايا إلى الملك من طرف المواطنين، إما باسم حرفهم ومهنهم أو باسم الأحياء والقرى التي يسكنونها. وسواء في 1951 أو في 1952 مكنني الحزب من الدعوة لحضور إلقاء خطاب العرش في القصر الملكي والحفل الذي يقيمه الملك في نفس اليوم. واستمر نشاطنا على هذا المنوال إلى أن نفي السلطان محمد الخامس، وكنت آنذاك في قسم الباكلوريا بثانوية مولاي يوسف، فكان صيفا ساخنا، وسأنتقل إلى ليسي كورو (ثانوية الحسن الثاني اليوم) للحصول على القسم الثاني للباكلوريا. كنت حينها في جماعة حزبية وكان معي زملائي في ثانوية مولاي يوسف. وفي هذه المرحلة، عُهد إلي كذلك بعد رجوع المهدي بنبركة من المنفى بتأطير جماعات شعبية في المدينة القديمة. وهكذا شكلت جماعة في كلية الحقوق أواخر سنة 1955 مع ثلة من الطلبة، كان من ضمنهم عمر بنجلون. لقد كانت لي علاقات جيدة بالأوساط الشعبية، أولا لأنه بالنسبة إلي كان الاحتكاك بهؤلاء الناس شيئا أساسيا على اعتبار أن الوطن ليس مسألة متعلقة بالتلاميذ أو بالطلبة بل مسألة شعب بأكمله، ثم إن أعضاء الجماعة كانوا ينتمون إلى مهن متعددة، فكان منهم صناع تقليديون وعمال وموظفون وتجار، وبالتالي كان النقاش داخل هذه المجموعات نقاشا غنيا جعلني أنا نفسي أشعر بضرورة أن أحصل على تكوين قوي لأتعرف أكثر على المجتمع الذي أعيش فيه وأطلع أكثر على الأحداث التي تجري في المغرب أو في الخارج، سواء عن طريق الصحف التي كانت تصدر آنذاك محليا وكانت في جلها صحفا فرنسية، لكنها كانت في أغلبيتها معادية باستثناء «ماروك برس»، الصحيفة الوحيدة التي كانت تصدر فيها آراء الوطنيين، حيث كان مديرها الفرنسي شخصية متفتحة على فكرة استقلال المغرب وإن بلغة محتشمة، وكانت تعبر عن تجمع الأحرار الفرنسيين الذي يسمى «الضمير الفرنسي»، وشكلت مجموعة معادية للغلاة الفرنسيين الذين كانوا مسيطرين على الأراضي المغربية وأهم الصحف الصادرة آنذاك. كما كنت أتابع صحيفة «لوموند» التي تصدر في باريس وأسبوعية «البصائر» التي كان يديرها في الجزائر الشيخ الإبراهيمي، بالإضافة إلى متابعة إذاعة «ب.ب.س» البريطانية و«صوت العرب» في القاهرة. - ماذا كان موقف الوالد من نشاطك الحزبي؟ كان الوالد يعرف بأنني عضو في حزب الاستقلال، وكنت أشعر بتعاطفه معي واعتزازه بي دون أن يحدثني في الموضوع، لكنه كان دائما يوصني بأن آخذ حذري حتى لا أعتقل، إذ كان يسكنه هاجس واحد، وهو الخوف علي من الاعتقال. - كيف تعاطيتم كحزبيين مع نفي السلطان محمد الخامس؟ لا بد من الرجوع شيئا ما إلى الوراء قبل 20 غشت 1953، أي إلى سنتي 1951 و1952. كان الحزب قد شن حملة واسعة في صفوفه للتحسيس بضرورة تجنب أي استفزاز فرنسي، رغم أن المهدي بنبركة كان لا يزال منفيا في تافيلالت. وكانت هذه الفترة دقيقة وعصيبة، وكان الحزب يحاول أن يقوم بتهدئة الأوضاع حتى لا يحرج الملك، وكان يعتمد كثيرا على طرح القضية المغربية في الأممالمتحدة التي كانت ميدانا لتحرك قيادة الحزب منذ 1948، حيث قدم المهدي بنبركة مذكرة حول حقوق الإنسان في اجتماع الجمعية العامة في باريس. وبقي هذا المسلسل مفتوحا تسهر عليه شخصيات من حزب الاستقلال، وعلى رأسها أحمد بلافريج. لكن على إثر اغتيال القائد النقابي التونسي فرحات حشاد على يد الإرهابيين الفرنسيين، قرر حزب الاستقلال خوض إضراب عام يوم 8 ديسمبر 1952 في مجموع البلاد وتنظيم مظاهرات، وتوصلنا في القاعدة بتوجيهات واضحة، واعتقلت اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال سنة 1952 في أعقاب الإضراب العام والمظاهرات الكبرى التي نظمها الحزب احتجاجا على اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد من طرف الإرهاب الفرنسي، وقمع الفرنسيون مظاهرة الدارالبيضاء بوحشية وقتلوا مئات المواطنين والنقابيين، وشكل الحزب بعد ذلك لجنة تنفيذية مؤقتة كانت تضم أشخاصا لم نكن نعرف أغلبيتهم، حيث كنا على اتصال بعبد الرحمن بادو وحده الذي كان فائق الحماس، يبلغنا بالنشرة الداخلية ويمطرنا بالمطبوعات الحزبية وتوجيهات القيادة، كما كان يعقد حلقات دراسية تشمل الاطلاع على مؤهلات المغرب الفلاحية والمعدنية والاقتصادية وتدقيق هياكل إدارة الحماية وتنظيمها المركزي والمحلي وميكانيزمات استغلال المعمرين لخيرات البلاد.. قمنا بتنظيم مظاهرات عديدة في الرباط داخل المدينة القديمة، وكانت هناك مظاهرات داخل السور قادها تلاميذ مدارس محمد الخامس، وعلى رأسهم عمرو العطاوي، وشاركت في تلك التظاهرات وعشت إطلاق الرصاص ورأيت الجرحى ومحاصرة المدينة حتى لا تخرج المظاهرة إلى المدينةالجديدة وإلى القصر. ولما اعتقل عبد الرحمان بادو في غشت 1953، انقطعت الصلة بيننا وبين القيادة، لكن التعبئة بقيت قائمة على مستوى القاعدة إلى حين عوضه محمد بوزيان، الأستاذ بمدرسة جسوس. - هل هذا العنف الفرنسي ضد التظاهرات السلمية شجع على المقاومة المسلحة؟ إن قمع المظاهرات السلمية التي تمت في كثير من المدن والتي مات فيها عدد مهم من المواطنين، وكذلك حملة الاعتقالات الواسعة في صفوف مناضلي حزب الاستقلال إلى جانب التحركات الاستفزازية للسلطات الفرنسية والخونة من المغاربة حول السلطان محمد ولد مولاي عرفة، حفيد السلطان محمد الرابع، الذي نصبوه بمراكش خلال بيعة صورية لباشوات المدن وقياد البوادي، باستثناء الفاطمي بن سليمان باشا فاس ومبارك البكاي باشا صفرو والحسن اليوسي قائد آيت يوسي، وتزكية أغلبية العلماء تحت التهديد، باستثناء أقلية على رأسها محمد بالعربي العلوي وعبد الواحد بن عبد الله، كل ذلك شجع على مقاومة الاستعمار التي انطلقت مبكرا بعمليات فدائية. وقد جعل تفكك صفوف التنظيم السياسي القائم الساحةَ الوطنية فارغة، وبالتالي أصبحت مواجهة المستعمر لا يمكن إلا أن تكون بأساليب جديدة وبتعبئة من نوع آخر، لذلك برز من صفوف الحزب رجال قادوا هذه المعركة الجديدة والتصدي بالسلاح للمستعمر وأعوانه. لقد انطلقت المقاومة في المدن في الأيام التي تلت نفي السلطان، وأظهر الفدائيون شجاعة نادرة وكفاءة عالية لمحاربة المستعمر رغم الوسائل المحدودة التي توفر عليها مقابل جيش المستعمر القوي بعتاده وعدد أفراده.