خلدت مؤسسة منتدى أصيلة من خلال جامعة المعتمد بن عباد الصيفية في دورتها السادسة والعشرين يوما خالدا في مسارها الفكري والثقافي الرائد بتكريم رائد كبير من رموز الإبداع الفكري، والنضال الوطني السياسي بوطننا الأخ الأستاذ عبد الكريم غلاب انطلاقا من إيمان هذا المنتدى بأهمية ترسيخ ثقافة الاعتراف في المجتمع .ولما أسداه الأستاذ غلاب لهذا الوطن في تاريخه الحافل والذي أثرى بكتاباته الصحفية،، والسياسية والتحليلية، وإبداعاته الروائية والقصصية والسير ذاتية والرحلية وأبحاثه ودراسته النقدية والإسلامية والقرءانية والتاريخية والفكرية واللغوية، فضلا عن دوره اللافت في التأثير على عديد الأجيال المتعاقبة من الصحفيين والكتاب والروائيين والقاصيين . وتم هذا التكريم من خلال ثلاثة محاور أساسية هي عبد الكريم غلاب مسار أدبي حافل، وعبد الكريم غلاب الاسم العلم في الصحافة الوطنية، وعبد الكريم غلاب الفكر الوطني والنضال السياسي في جلسة صباحية ترأسها الأستاذ خالد الناصري عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، وجلسة مسائية ترأسها الأخ الأستاذ مولاي امَحمد الخليفة عضو اللجنة التنفيذية للحزب، وشارك في إغناء هذه المحاور صفوة من رجال السياسة والفكر والأدب، والإعلام من المغرب وتونس، وموريطانيا والعراق اعترافا بالمجهودات الكبيرة التي بدلها المحتفى به الذي ينتمي إلى الرعيل الأول من الكتاب والأدباء المغاربة والعرب . وكان الأستاذ مَحمد بنعيسى الأمين العام لمنتدى أصيلة قد ألقى كلمة الافتتاح عند حفل التكريم أشرنا إلى بعض مضامينها في عدد سابق، كما ألقى كلمة ختامية عبر فيها عن اعتزاز أصيلة ومنتداها بهذا التكريم المستحق للأستاذ غلاب . وننشر فيما يلي المداخلة القيمة للأستاذ امحمد الخليفة التي همت محور _عبد الكريم غلاب النضال الوطني و الفكر السياسي بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وءاله وصحبه عبد الكريم غلاب الفكر الوطني والنضال السياسي في هذا المحور الشاسع . . شساعةَ إبداعات الأستاذ عبد الكريم غلاب في الفكر الوطني، واتساع ساحة تضحياته ونضاله منذ يفاعته في خطواته الأولى في الحقل السياسي إلى شيخوخته التي لم تظلمه أبدا، بل وزادت هامته سموقا وارتفاعا، وسمعته تجذّرا ومناعة، وصيته ذيوعا وذويا على اتساع رقعة الفكر الإنساني وطنيا ودوليا، وأكسبت ذهنه صفاء وحصانة . . بفكر متفتح من ورائه تجربة خالدة قلما أتيحت لإنسان ناضل بسلاح الفكر والقلم . . وعلى أرض الميدان . الأستاذ غلاب عملة عالية القيمة، متميزة نادرة لا تتكرر كثيرا في تاريخ الشعوب الفكري والنضالي، عملة بوجهين منقوش على الوجه الأول عبد الكريم غلاب وعلى الوجه الثاني الفكر الوطني والنضال السياسي، فعسى أن تسير ديمقراطيتنا في حلتها الجديدة، بكل زخم الآمال المعقودة على دستورنا الجديد لفتح بوابات الغد المشرق في اتجاه ثقافة الاعتراف والانفتاح نحو عباقرة هذا الوطن، بتخليد أسماء زعمائه ورموزه وعلمائه ومفكريه وسياسييه، ومن أتاح لهم القدر أن يجمعوا كل هذه الصفات بإصدار عملات رمزية تخليدا لمساراتهم الفكرية والنضالية، وتقديرا لعطاءاتهم في سبيل الوطن، وإبرازا لقيم خالدة يجب الاحتذاء بها . . ويوم يحدث مثل هذا الإصدار في تاريخ هذا الوطن سيكون عنوان المحور الثالث الذي اختاره منتدى أصيلة الرائد، هو عنوان تلك العملة الرمز لتخليد اسم المحتفى به . الضوء المشرق من المغرب إذن . . سيداتي سادتي من خلال ما أشرت إليه تقدرون بحصافة رأيكم حجم البحر العميق، بعيد الشطئان الذي ألقاني في خضم أمواجه منتدى أصيلة وطلب مني سبر أغواره، ولملمة شطئانه، وإخراج لآلئه في دقائق معدودات، في شهادة مبتسرة أو حديث لا يفي بجزء من القصد . . طبعا لست بمستطيع ولا أحد يستطيع ربح هذا الرهان، وأجدني، حتى لو استطعت، أن لا أضيف جديدا لما تعرفونه ولما زخرت به حياة غلاب في مسار حياته الرائع، فالرجل كتب هو نفسه عن فكره الوطني ونضاله السياسي، وكتب الكثيرون عن ذلك الفكر وذلك المسار، وتم تكريمه شرقا وغربا بجدارة، وعلى امتداد وآفاق الفكر ولا نهائيته في إطار الندوات والمنتديات، كما تمت ترجمة اسهاماته المتنوعة في مختلف فنون المعرفة وفكره الوطني المسهم حقا في العطاء الإنساني إلى مختلف اللغات حتى أصبح عنوانا صادقا للضوء الذي يشرق من المغرب، ومع ذلك فليكن إسهامي حتى مجرد تكرار . . فالمكرر أحلى في هذا المجال، أو حتى من باب التذكير . .، والذكرى تنفع المومنين . غلاب بساطة الأسلوب . . وعمق التفكير في صيف 1957، وفي غابة معمورة بضواحي الرباط كان لي أول اتصال مباشر بالمعاني المثلى للفكر الوطني وأول لقاء لي بالأستاذ غلاب . . كان المغرب يريد أن يظهر للعالم جدارته بالاستقلال، وإرادته الراسخة لبناء الوطن بسواعد أبنائه البررة . . كنا ثلة من المناضلين الشباب من مجموع المغرب وقع علينا الاختيار لتأطير أوراش طريق الوحدة في صيف تلك السنة . . كان من الواجب أن نتلقى دروسا ومحاضرات متنوعة ومختلفة في كل دقائق المعرفة المتعلقة ببناء الدولة الحديثة للمغرب، كان التأطير قويا إلى درجة أن شباب اليوم قد لا يصدق ذلك، فابتداء من توجهيات المغفور له محمد الخامس المباشرة، ومحاضرة ولي العهد المغفور له الحسن الثاني بعد ذلك في السياسة والحكم وصولا إلى زعماء الحزب آنذاك، والوزراء، وأطر الدولة العليا . . كل في مجال اختصاصه يلقي محاضرته، أو يقدم عرضه الذي يتلوه نقاشا مفتوحا بصدر رحب، إذ كان علينا أن نفهم جيدا ما تلقيناه ونهضمه، . . لأن علينا مسؤولية تلقينه بعد ذلك في مخيمات طريق الوحدة لآلاف المتطوعين بلغة أكثر تبسيطا وسهولة ويسر، ومن واسطة عقد المتحدثين كان أستاذنا غلاب، ، كانت محاضرته حول الأمة ومقوماتها، فتحدث عن الدين واللغة، والتاريخ المشترك، والتقاليد، وانبهرنا من طريقة تناول موضوع كنا نعيشه حقيقة ولكننا لا نعرف كنهه أو فلسفته،، طرح الموضوع أمامنا بأسلوب بيداغوجي لم نعهده . .، بساطة في الأسلوب . . وعمق في التفكير . . وصوت جميل آسر في الإلقاء ..كان عزمي قد إتقد لإلقاء أول سؤال عليه، . . ذلك السؤال كان أول حوار لي معه مباشرة . . وفي النقاش أكبر السؤال وأعطاه أهمية أكثر مما يستحق . . وتلك خصال المربين الأفذاذ . . ولم يكد ينته من عرضه حتى تربت في نفسي أواصر المحبة والتلمذة والاحترام . ومنذ ذلك التاريخ لم تنقطع الصلة في دروب النضال المختلفة ولم تتوقف الاستفادة من معين غلاب الذي لا ينضب، وكلما ازداد قربنا من الرجل واختلاطنا به، ازداد في قلوبنا محبة، وفي وجداننا احتراما، وفي فكرنا نورانية، وفي نهج سيرته نتلقى دروس التواضع، والثقة في النفس، وقيم الوطنية الصادقة، وتتعرف على كاريزمية المناضل الصادق الصامد . غلاب فكر مثابر ينبض على الدوام لا أدري كيف قفزت هذه الذاكرة إلى ذهني عندما هاتفني الصديق العزيز والدبلوماسي المحتك الأستاذ محمد بنعيسى لأشارك في هذا التكريم المستحق ووجدت نفسي أثبتها كشهادة عن تلمذتي باعتزاز للأستاذ غلاب منذ نصف قرن . ذلك أن استأذنا غلاب المثابر في منهجيته بإعمال الفكر، المتتبع لكل التطورات الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وكل مناحي الحياة وفنون المعرفة، حاضر البديهة للإبداع والتفاعل، وصهر الأفكار النيرة في صيرورتها الوطنية والعالمية ليعايش بها ومعها حركة تطور الفكر الإنساني ليغني موضوعا ألف فيه، أو فكرة عبر عنها، أو كتابا خطه بيمينه ، وهذا يتجلى في أنصع صورة بالنسبة مثلا لهذا الحدث العارض الذي حدثتكم عنه، إذ ان مقومات الأمة كما عرفناها عنه أول يوم، شاءت الأقدار ان تتلقاها بعد ذلك في الكلية، ولكن غلاب المثابر بفكره الذي ينبض على الدوام، عاد للكتابة في نفس الموضوع بعد سقوط جدار برلين بكل تداعياته وما حمله للعالم من تطورات مذهلة، فكتب عن الأسس الكبرى للدولة القوية العصرية، وبفضل الأستاذ أضيفت إلى معلوماتنا التي تلقيناها منه منذ نيف وخمسين سنة أن الفكرة عرفت تطورا عميقا رغم صمود المبادئ الكلاسيكية، ولكن النظرة إلى الدولة القوية تستوجب إيجاد قوة بشرية، وقوة اقتصادية، وقوة دفاعية، وقوة علمية، وديبلوماسية متحركة . غلاب فكر وطني وهاج وعطاء زاخر إن طرح الفكرة في مفاهيمها الأولى، وتحديد أسسها العلمية والفكرية، والاستمرارية في التتبع والتحليل والنقد والتحيين في أفق المتغيرات، وتطوير الفكرة واقتناص الأصلح منها لجعله دعامة صلبة للاختيار الأمثل وخياراً واضحا سهل المنال، هو ما ميز أستاذية غلاب في الفكر الوطني لأنه قرن القول بالفعل والفكر بالنضال، . . وهذا سر توجهه واستمراريته، وبجملة واحد أكاد أقول إن الوطن ملك عليه حياته فهو يتنفس فكرا وطنيا رصينا دامغ الحجة قوي البرهان، وفي نفس الوقت يناضل لترتقي السياسة كممارسة بمفهومها النبيل والسامي لأنه من وجهة نظره، كلما ارتقت السياسة كتفكير جعلت الإنسان مبتداها ومنتهاها، وحينما تسقط كممارسة يختفى الإنسان من حيثياتها . ليس من المجازفة التأكيد عن أن ما كتبه الأستاذ غلاب نابع من فكر وطني وهاج . . هو خلاصة للفكر الوطني المغربي في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن . مئات من عيون المقالات في كل الإبداعات الأدبية والنقدية والتحليلية . مئات الافتتاحيات في كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية _ والثقافية والسياسية والبيئة . مئات المذكرات في حديث الأربعاء وغيره . مئات « مع الشعب» في آماله وآلامه وتطلعاته وإحباطاته وظلمه_ وفقره وتظلماته . ستة عشرة مؤلفا في الدراسات الأدبية والفكرية . ثلاثة عشرة رواية . إثني عشرة كتابا في الدراسات السياسية . ستة عناوين في القصة . ثلاثة عناوين في الدراسات التاريخية . عنوانين في أدب الرحلات . وأخيرا مذكرات سياسية وصحفية . . إنه عطاء زاخر عميق أصيل، صادق، ومن تم تأتي صعوبة الحديث عن تناول هذا الفكر بعجالة واقتضاب، أو تلخيص . غلاب يقتل بونصو في البرلمان لكن مع ذلك رأيت إبراز حدث له دلالته في أن النضال السياسي للرجل اختلط بعطائه الفكري او لنقل إن فكره الوطني اللامحدود جنده للنضال السياسي بدون حدود امتزاجا صادقا عشت الكثير من لحظاته في مساره الرائع، أكتفي بسرد واحدة منها لربما مررنا عليها في تاريخنا السياسي مرور الكرام، ذلك أن الأستاذ أصر وهو البرلماني اللامع على تقديم مقترح قانون يلغي ظهير كل ما من شأنه الشهير في تاريخ التعسف السياسي بالمغرب، ووقعه وحده من الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية . . لقد جوبهنا من الوزير المختص بنقاش فاق كل الحدود في لجنة العدل والتشريع، الأستاذ غلاب يعتبر إقبار هذا القانون الغاشم الذي طالما احتمت به الأجهزة القمعية للإيقاع بالمناضلين في الصف الوطني الديمقراطي والصحفيين وحاكمت به العشرات، كان يعتبر إقباره واجبا وطنيا . . ويوم التصويت جندنا كل أعضاء الفريق وحلفائنا في الكتلة الديمقراطية من البرلمانيين للحصول على أكبر الأصوات المؤيدة . فوجئنا في ذلك اليوم، الذي كان يوم جمعة بتأخر الوزير المعني لما يزيد عن الساعة بكثير، البعض اعتبرها مناورة ربع الساعة الأخيرة، والبعض اعتبرها هروبا لأن الصف الوطني الديمقراطي كان حاضرا بقوة في الجلسة . استاذنا وحده كان هادئا ينتظر اللحظة النهائية لمصير مقترحه الذي جعل منه إحدى محطات نضاله من اجل انتصار الحرية وإنهاء القمع وعند وصول الوزير إلى القاعة كان كل الحاضرين جاهزين للتصويت ، كل حسب اختياراته، أو لنقل ما فرض عن البعض من اختيار، لكن الوزير أخبرنا بتطور في موقفه فلقد تلقى تعليمات سامية بالموافقة على المقترح بإلغاء هذا الظهير الجائر لقد كنا اذ ذاك نعمل بروح وطنية صادقة . . ملكا، وحركة وطنية ديمقراطية على طي صفحة الماضي السيء، وبناء مغرب جديد . عند إقرار هذا المقترح وقليلا ما صادق البرلمان على مقترحات للنواب التفتت إلى الأخ غلاب الذي كنت إلى جانبه لتهنئته، كان وجهه طافحا بالبشر والسعادة، وعيناه تترقرقان بدموع مثل اللآلئ . . . .تلقى التهنئة من الأخ الأمين العام الأستاذ محمد بوستة . . وجاء الجميع لتهنئته، ظل واقفا كأنه يتلقى التهاني في أعظم عرس في حياته، ظلت عيناي تحملقان في وجهه وعينيه، كأني لم أراه من قبل، قرأت في وجهه كل معاني الفرحة الداخلية العارمة في أعماقه، والرضى عن النفس، والبسمة الصادقة في محياه، . . في الاثنين الموالي قرات مقاله الأسبوعي في جريدة العلم وكان بعنوان « قتلت بُّونْصُو في البرلمان » وأعدت قراءتها وآنئذ أدركت أسرار كل فرحة الرجل ، لقد كان فرحا لشعب تخلص من قانون جائر حكمه منذ عقد الثلاثينات إلى التسعينات، وأودى بمصير الكثيرين إلى السجن بعبارة حمالة لكل شيء وغير مفهومة، لا أصل لها لا في وحي السماء . . ولا في القوانين الوضعية . لقد كان إحساسه بالانتصار على الظلم قويا إلى حد لا يمكن وصفه . . وتلك إحدى صفات الذين يحاربون الطغيان بالفكر وعلى أرض الميدان . ترى هل استطعت أن أقدم من خلال هذه الصورة الواقعية نموذج إنسان امتزجت حياته بتوظيف الفكر الوطني لخدمة النضال السياسي وجعل من النضال السياسي مركبا صعبا لنصرة سيادة الفكر الوطني . غلاب المسار القدوة والنموذج الخالد وكما أنني عجزت كما تلاحظون عن تقديم الجديد عن ملامح الفكر الوطني لاستأذنا، فسأكون أعجز عن تقديم عرض شمولي، أو الجديد عن نضاله السياسي، إذ عمر الرجل هو نفسه تاريخ نضاله السياسي بأوضح التجليلات، ولم يتح فيما أعرف لمناضل سياسي، أو مبدع خلاق أن تكون سيرته الذاتية سهلة التناول، دارجة على كل لسان، قرأها كل متتبع شغوف بسيرة الرجل ومسيرته، مثلما أتيحت لاستأذنا . . فسفر التكوين وسبعة أبواب، والقاهرة تبوح بأسرارها، والشيخوخة الظالمة، وأخيرا . . مذكرات سياسية وصحافية، ناهيك عن عشرات الأطروحات حول فكره، ومآت المقالات عن إنتاجه، والشهادات الموضوعية في حقه، والتحليلات العميقة والنزيهة لعمله الروائي كرائد وفنه القصصي كمجدد مبدع . . كلها صبت في اتجاه واحد جعلتنا وكأننا عايشنا الرجل في كل مسارات حياته، ولم نفارقه طرفة عين، منذ ميلاده [1919] إلى هذه اللحظات، وعسى ان يسعفنا الحظ في مستقبل الأيام لنرى منتجا ملتزما، ومخرجا مقتدرا، وسيناريست لامعا يقدمون لنا مسلسلا تلفزيونيا اسمه غلاب يهتدي به الجيل الجديد، وسط كل هذا القحط الفكري الذي نعيشه والتغريب الذي يمارس علينا، لعله ان يكون النموذج المفقود الذي يربى قيم المواطنة الحق في الأعماق وخصال العصامية، وحب الوطن، ومعنى الوطنية الصادقة والفكر الوطني الخلاق والالتزام بالنضال السياسي والتشبت بالقيم الخالدة، وفضيلة التواضع، والانفتاح على الغير، وعلى الحضارات الإنسانية، وحصافة الرأي، وشجاعة إبدائه، والنزوع نحو الكمال، وتقديس الحرية، والدفاع على كرامة الإنسان بالمعنى الشمولي لما يحفظها حتى تبقى هي المبتدأ، وهي الخبر، والاستعداد الدائم للتضحية من أجل علو كلمة الوطن لتبقى مصلحته فوق كل اعتبار . صدف التاريخ العجيبة في حياته لدرجة الإبهار فائق التصور وبالتزام راسخ واضح في كل مسارات كتاباته وحياته ربط بأروع الصور الفكر الوطني بالنضال السياسي . . ولقد سبق كتابٌ ونقادٌ إلى إبراز هذا التلازم، والأستاذ نفسه لا يزال يصر على ذلك . ولأن تاريخه السياسي بهذا الوضوح وفي متناول كل من يريد فدعوني أسبح بفكركم قليلا فيما اعتبرته صدف التاريخ العجيبة في حياة الرجل، وهي فقط مصادفات عن سنواته الأولى في مدارج النضال حتى لا يطول بنا الحديث المصادفة التاريخية العجيبة الأولى هي أن يكون مولده بين حادث مؤلم في تاريخ شعبنا هو تلك السقطة المريعة للوطن بفرض الحماية عليه [سنة 1912، وحادث سعيد في تاريخ الأمة هو ثورة الريف بقيادة سميه الأمير المجاهد المرحوم عبد الكريم الخطابي 1930 فكأن الأقدار اصطفته لما قام به عبر تاريخه المجيد . . فأن يكون أول ما نطق به في أول يوم من نضاله السياسي هو اسم الله اللطيف من مسجد القرويين مردداً له بدون ان يفقه معناه مع ساكنة فاس هو لا يتعدى العاشرة من عمره [1930] «اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادير . .الخ» ردا على سياسة الاستعمار لتفريق وحدة شعب صهره الإسلام . . فذاك فأل حسن،، وان يكون أول حدث وطني متميز يشهده في تاريخه وعمره لا يتجاوز الخامسة عشرة هو زيارة المغفور له محمد الخامس رحمه الله إلى فاس سنة 1934] لينشد . .ويكون أول إنشاد له مع المواطنين ذلك النشيد الوطني الخالد الذي يرمز على الدوام على التحام العرش بالشعب . . . يامليك المغرب يابن عدنان الابي فذلك طالع يمن . . وبعد ذلك بسنين، ولما يبلغ سن الرشد الجنائي يحكم عليه بثلاثة أشهر حبسا نافذا . . بسبب المظاهرة التي شارك فيها بوعي احتجاجا على اعتقال زعماء الحركة الوطنية بمناسبة تقديم المطالب المستعجلة سنة 1936]، . . فذلك قدر كل أصحاب الرسالات الخالدة،، وهكذا يمكن ان نسجل أن تاريخ ميلاده السياسي سبق ميلاده الفكري فكانت ثقافته السياسية تخطو مع تطور الحركة الوطنية خطوة، خطوة، وقد كان العمل الوطني شفويا اذ صح التعبير كما عبر هو نفسه في مذكراته . فكرة جريئة . .ترى لو نجحت ومن صدف التاريخ العجيبة والماكرة في حياته ثانيا، وهو يكاد يتلمس خطواته الأولى في نضاله السياسي هو نقل فكرة صديقه المرحوم الشهيد محمد بن عبود الجريئة إلى الزعيم علال الفاسي بان تقوم الحركة الوطنية مجسدة إذ ذالك في كتلة العمل الوطني سنة 1936 بثورة مسلحة ضد الجنرال فرانكو انطلاقا من الشمال لصالح الجمهورية الاسبانية مقابل استقلال شمال المغرب من الاستعمار الاسباني . . من يدري يعلق أستاذنا بعد عقود من الزمان ما إذا كانت العملية ستغير وجه التاريخ في اسبانيا لو نجحت المحاولة وانقلب الجيش المغربي المتطوع مع فرانكو ضده؟ وماذا كان سيعرف المغرب لو استقلت المنطقة في منتصف الثلاثينات«؟؟ . مصادفة 1937 عجيبة الدلالة والمصادفة التاريخية الثالثة عجيبة الدلالة . . انه سنة 1937 عند ما ظفر الفتى برضى الوالد لكل الأسباب والمعطيات التي حوتها سيرته الذاتية وحققت آماله في الانتقال إلى القاهرة التي باح بأسرارها . . للاغتراف من مناهل علمها وثقافتها، وإشعاعها في ذلك الزمان . .في تلك السنة بالذات كان أستاذه وزعيمه ومرشده الذي غمر حبه قلبه إلى الأبد الزعيم علال الفاسي ويا لصدف التاريخ الماكرة يساق إلى المنافي القاسية في إحدى قرى الكابون القصية . . برعم او يافع أو شاب مناضل يتجه شرقا للاغتراف من مناهل الثقافة والفكر ليكون قدره الرائع رياديا في تأصيل النضال السياسي في عمق الفكر الوطني، وليجعل من النضال والفكر قوة المغرب الرافعة لتحقيق الحرية والاستقلال . .، والزعيم يساق أسيرا غربا في رحلة شاقة إلى الكابون ليعيش مرارة الأسر وضنك العيش ، وقساوة البيئة وفراق الأحبة وآلام البعد عن الوطن في أقسى صورها في ذلك الزمن السحيق . من رابطة الدفاع عن مراكش إلى مكتب المغرب العربي والمصادفة الرابعة العجيبة في تاريخ الرجل أن الفئة المؤمنة بربها وأصدقاء رحلته في طلب العلم، وطلبة آخرين سبقوهم، أو التحقوا بهم في معاهد القاهرة وجامعتها قر رأيهم على توحيد جهودهم أجمعين لتأسيس رابطة الدفاع عن مراكش سنة 1934] للتعريف بالمغرب والدفاع عن حقه المستلب وفي ذلك المكتب المتواضع بشارع الملكة نازلي بالقاهرة . . تأسست أول نواة سياسية للتعريف بقضية الوطن العادلة وإشهار الحرب على الاستعمار بالوسائل المتاحة، وكان لنشاطها ابلغ الأثر رغم انعدام الإمكانيات . . لكن صدف التاريخ الماكرة تجعلهم وقد انقطعت أخبار الوطن عنهم بسبب الحرب، وبدائيات وسائل التواصل في ذلك الزمان يقدمون على عمل جريء غير مسبوق هو تقديمهم وثيقة المطالبة بالاستقلال في دجنبر 1943 . . إلى الحكومة المصرية، وسفارات انجلترا، والاتحاد السوفياتي، والسفارة الأمريكية، ومكتب فرنسا الحرة . . كان وعي الرجل قد كبر وفهم بدقة استراتيجيات الدول الكبرى في السلم والحرب، وكان أكبر ما يهمه ورفاقه ان يصل خبر المطالبة بالاستقلال إلى حكومة دوكول ليعرف ان المواطنين المغاربة أينما كانوا يطالبون بالاستقلال . ولمن الصدف العجيبة حقا أن يأخذ حزب الاستقلال اسمه هذا . . ويقدم وثيقة المطالبة بالاستقلال يوم 11 يناير 1944 متزامنا هذا الحدث العظيم في تاريخ المغرب مع ما أقدمت عليه رابطة الدفاع عن مراكشبالقاهرة لقد تم هذا التدبير الإلهي، او هذه الصدفة التاريخية بدون تنسيق مسبق مع ان بعض قادة الحزب أدوا ثمن تلك الصدفة غاليا داخل المغرب، حينما اعتبر الاستعمار أن لهم دورا سريا في التنسيق بين طلب الاستقلال في القاهرة، وفي المغرب في نفس الآن . على أن دور هذا المكتب وإشعاعه بفضل الروح الوطنية العالية، والإرادة السياسية التي لا تقهر وما اضطلع به في ذلك الزمان رغم قلة الوسائل أو لنقل انعدامها سيبقى شاهدا على ان الروح الوطنية والنضال الملتزم وحسن الأداء والتخطيط والتدبير يحقق المعجزات . ولقد قدر لهذه الرابطة ان تكون النواة الصلبة لانعقاد أول مؤتمر في التاريخ للمغرب العربي في القاهرة من 15 إلى 22 فبراير 1947 تحت الرآسة الفخرية للامين العام للجامعة العربية الأستاذ عبد الرحمان عزام . .، وما أدريك ما عزام، وما أسداه لتحرير بلادنا، أو ما قدمه من تضحيات حتى بحمل السلاح في سبيل حرية الوطن العربي . ناهيك عن بعد النظر وفصاحة اللسان والبيان لتعميق الحجة وتبيان التوجهات والأفكار، وكان أخونا المحتفى به اليوم هو من أنيطت به مهمة الأمين العام لذلك المؤتمر، ومن مقره . . 10 شارع ضريح سعد زغلول لعب ذلك الدور الكبير في تحرير أقطار المغرب العربي . عبد الكريم المناضل يكافح لتحرير عبد الكريم المجاهد والأعجب العجيب من صدف التاريخ ان المحتفى به عبد الكريم،وهو لا يزال في الكتاب القرءاني كان يحذره أصدقاؤه الأكبر منه سنا ان لا يجهر باسمه، لأن اسمه كان يتفق مع اسم ثائر كبير على النظام الاستعماري انطلاقا من الريف، وغلاب لم يكن أذ ذاك يعرف حتى اسم الريف، ولا معنى ثورة ولا معنى مصادفات ودلالات تشابه الأسماء . . وتشاء الأقدار والصدف العجيبة ان يكون غلاب هو الذي يخطو الخطوة الأولى لتحرير الخطابي الذي طال نفيه في جزيرة لارينيون القصية إحدى وعشرين سنة مقطوعا عن العالم بكامله وعن اخبار وطنه بالذات . . حكى لي استأذنا انه كان بالصدفة يدرع ميدان الأوبرا بالقاهرة واذابه وجها لوجه مع المناضل الفلسطيني الكبير المرحوم محمد على الطاهر الذي كانت له اتصالاته الواسعة في الوطن العربي . . اخبره بنبرة صوته التي يحسن الأستاذ غلاب تقليدها وكأنك تسمع للرجل نفسه، أنه تلقى برقية من عدن بخصوص مرور شخص اسمه عبد الكريم الخطابي نزل من باخرة استرالية في أرض عدن وعاد إلى الباخرة ، وسيمر من قناة السويس . . قال له« هذه هي البرقية . . خذها افعلوا بها ما تريدون » كان قولا ثقيلا قد نزل على هامة عبد الكريم المناضل السياسي الذي وضعته أقداره في بؤرة التحدي لتحرير سميه المجاهد بالسلاح عبد الكريم الخطابي . حمل البرقية لا يلوى على شيء جد في السير، وفكره لا يتوقف حتى وصل مكتب المغرب العربي ليضع البرقية أمام أعين أعضائه ليضطلع هذا المكتب بأعظم دور له في تاريخه وهو تحرير البطل الخطابي من الأسر والنفي، . .لا داعي للاسترسال في تتبع ظروف تحرير البطل التي كتبها صناعها بأمانة تاريخية تستحق ان تروى للأجيال، لكن من الأمانة التاريخية ان نشير إلى أن عبد الكريم غلاب كان ثاني اثنين لازما عبد الكريم المجاهد في مستشفى المواساة بالإسكندرية الذي دام شهرا كاملا للفحوص الطبية والاستجمام ، ولم يكن الثاني سوى المناضل الألمعي والجريء الفذ الشهيد محمد بن عبود، فلقد أحاطا بطل التحرير بكل ما يستحقه فقاما بدور الكاتب والمشرف، والمربى ، والمعلم والساهر على راحة بطل المغرب والعناية بأسرته . 1937 الفراق المر و1947 اللقاء الرائع وأخيرا ومن صدف التاريخ الماكرة والعجيبة بل وما تشاؤه الأقدار أن يجمع الله الشتيتين . . بعد ما يظنان كل الظن . . ان لا تلاقيا . ففي ربيع 1947 وقد مرت عشر سنوات كاملة على إبحار غلاب نحو المشرق لينهل من مناهل العلم والمعرفة واقتياد علال أسيرا إلى الكابون في اتجاه الغرب فوجئ عبد الكريم غلاب في صبيحة يوم ربيعي من أيام القاهرة بوجود علال الفاسي في مكتب المغرب العربي بالقاهرة بدون سابق توقع ولا موعد . . يا للروعة علال بذاته شاخص في القاهرة أمام ناظري غلاب يقول المحتفى به كان علال أستاذا علميا وسياسيا قبل رحيلي إلى مصر، ونفيه إلى الكابون وقد احتفظ بهذه الصفة بالنسبة لي أثناء إقامته في مصر، كنت احترم أستاذيته واستفيد منه بقدر ما كان يحترم طلبته والعاملين كزملائه في الحقل السياسي، فكان يحيطنا بتقديره الكبير، ولذلك صرنا نعمل معه في مصر كما كنا نعمل معه في المغرب قبل النفي في انسجام كامل . . مذكرات غلاب»ص 206«. علال وغلاب يعودان معا للمغرب وعندما يحل شهر دجنبر من سنة 1948 يعود في نفس الشهر وعلى نفس الطائرة وتلك إذن صدفة عجيبة من مصادفات التاريخ . . علال، وغلاب يعودان إلى ارض الوطن عبر مدريد ثم طنجة، ليواصل غلاب رحلته إلى البيضاء لكسر قرار الماريشال جوان بمنعه من الدخول للمغرب ورفض منحه جواز السفر !. وتلك بداية عهد جديد ونضال جديد وتاريخ جديد يستحق أن يروى صفحات مشرقة في تاريخ امتنا السياسي والفكري . أمد الله لنا في عمر أخينا الأستاذ عبد الكريم غلاب بإذنه تعالى معافى سليما، حاضر البديهة، ثاقب الفكر . . باشرا قات عقل نير معطاء، وبنبضات فكر ستبقى مبهرة لنا مترجمة شموخ فكر الرجل وتاريخه الوطني والسياسي . امَحمد الخليفة الجمعة 8/7/2011