العلمانية والإسلام.. هل ضرب وزير الأوقاف التوازن الذي لطالما كان ميزة استثنائية للمغرب    الرجاء الرياضي ينهزم أمام ضيفه الجيش الملكي (0-2)    إسرائيل توافق على وقف إطلاق النار في لبنان بدءا من يوم غدٍ الأربعاء    الملك محمد السادس يوجه رسالة إلى رئيس اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف    الأمن يحجز حيوانات معروضة للبيع    لجنة الحماية الاجتماعية تجتمع بالرباط    المغرب يستعد لإطلاق عملة رقمية وطنية لتعزيز الابتكار المالي وضمان الاستقرار الاقتصادي        تنفيذا للتعليمات الملكية السامية.. وفد من القوات المسلحة الملكية يزور حاملة الطائرات الأمريكية بساحل الحسيمة    طلب إحضار إسكوبار الصحراء ولطيفة رأفت.. هذا ما قررته المحكمة    بنسعيد: "تيك توك" توافق على فتح حوار بخصوص المحتوى مع المغرب        هيئة حقوقية تنادي بحماية النساء البائعات في الفضاءات العامة    دراسة: سوق العمل في ألمانيا يحتاج إلى المزيد من المهاجرين    وفاة أكبر رجل معمر في العالم عن 112 عاما    "نعطيو الكلمة للطفل" شعار احتفالية بوزان باليوم العالمي للطفل    لحظة ملكية دافئة في شوارع باريس    النظام العسكري الجزائري أصبح يشكل خطرا على منطقة شمال إفريقيا    الجنائية الدولية :نعم ثم نعم … ولكن! 1 القرار تتويج تاريخي ل15 سنة من الترافع القانوني الفلسطيني    سعد لمجرد يصدر أغنيته الهندية الجديدة «هوما دول»        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    المغرب جزء منها.. زعيم المعارضة بإسرائيل يعرض خطته لإنهاء الحرب في غزة ولبنان    دين الخزينة يبلغ 1.071,5 مليار درهم بارتفاع 7,2 في المائة    معاملات "الفوسفاط" 69 مليار درهم    النقابة الوطنية للإعلام والصحافة … يستنكر بشدة مخطط الإجهاز والترامي على قطاع الصحافة الرياضية    الجزائر و "الريف المغربي" خطوة استفزازية أم تكتيك دفاعي؟    في حلقة اليوم من برنامج "مدارات" : عبد المجيد بن جلون : رائد الأدب القصصي والسيرة الروائية في الثقافة المغربية الحديثة    التوفيق: قلت لوزير الداخلية الفرنسي إننا "علمانيون" والمغرب دائما مع الاعتدال والحرية    نزاع بالمحطة الطرقية بابن جرير ينتهي باعتقال 6 أشخاص بينهم قاصر    الجديدة مهرجان دكالة في دورته 16 يحتفي بالثقافة الفرنسية    توهج مغربي في منافسة كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي بأكادير    اللحوم المستوردة تُحدث تراجعا طفيفا على الأسعار    مسرح البدوي يواصل جولته بمسرحية "في انتظار القطار"    شيرين اللجمي تطلق أولى أغانيها باللهجة المغربية        الأمم المتحدة.. انتخاب هلال رئيسا للمؤتمر السادس لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    برقية شكر من الملك محمد السادس إلى رئيس بنما على إثر قرار بلاده بخصوص القضية الوطنية الأولى للمملكة    القنيطرة.. تعزيز الخدمات الشرطية بإحداث قاعة للقيادة والتنسيق من الجيل الجديد (صور)    توقيف فرنسي من أصول جزائرية بمراكش لهذا السبب    اتحاد طنجة يكشف عن مداخيل مباراة "ديربي الشمال"    غوارديولا قبل مواجهة فينورد: "أنا لا أستسلم ولدي شعور أننا سنحقق نتيجة إيجابية"    مواجهة مغربية بين الرجاء والجيش الملكي في دور مجموعات دوري أبطال أفريقيا    حوار مع جني : لقاء !    المناظرة الوطنية الثانية للفنون التشكيلية والبصرية تبلور أهدافها    الدولار يرتفع بعد تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية على المكسيك وكندا والصين    تزايد معدلات اكتئاب ما بعد الولادة بالولايات المتحدة خلال العقد الماضي    ملتقى النقل السياحي بمراكش نحو رؤية جديدة لتعزيز التنمية المستدامة والابتكار    إطلاق شراكة استراتيجية بين البريد بنك وGuichet.com    الرباط.. انطلاق الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان 1
نشر في أزيلال أون لاين يوم 20 - 05 - 2008


عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان
المقدمة
كان ضمن منظمة الصاعقة الفلسطينية سنة 1969... خضع لتداريب عسكرية بالجزائر وسوريا تعرض للاعتقال بالمغرب عدة مرات ..كان ضمن المتهمين في محاكمة مراكش الكبرى
عاش طفولة بدوية في منطقته انتيفة بإقليم أزيلال تلقى مبادئ النضال بمدينة أسفي التي عاش فيها فترة طويلة من حياته وهناك غرف من مبادئ الوطنية ومارس العمل السياسي داخل حزب القوات الشعبية...حفرنا في ذاكرته تحكي لنا عن معاناة وآلام شعب وأمة ناضلت من أجل أن يعيش المغرب حرا مستقلا..
اشتعل لديه حماس النضال القومي فكان واحدا ممن استرخصوا حياتهم وتطوع كمقاتل من أجل تحرير فلسطين السليبة..
زهد ملذات الحياة وتنكر لذاته واعتبر نفسه خادما لهذا الوطن لذلك عاش فقيرا لكنه كان بحق واحدا من أغنى المواطنين وأثراهم إخلاصا وحبا لهذا الوطن .. لم يكن في يوم من الأيام من أولئك الذين يلهثون وراء المكاسب والامتيازات مقابل نضالهم.. بل يقول دائما في لقاءاته مع المواطنين والمناضلين بأنه و أمثاله خلقوا كشموع ليحترقوا ويضيء الوطن لم يتزوج إلا بعدما تقدم في السن ورزق بطفلين أكبرهم لا يتجاوز 13 سنة..
يعيش في بيت متواضع بلا أبواب ولا نوافذ اقشعرت أجسادنا ونحن نستمع للكثير من معاناته لكننا وقفنا احتراما و إجلالا لمواقفه.. أطللنا من خلاله على مراحل مختلفة من نضال هذا الوطن لكن آلامه ومعاناته لم تكن في المعتقلات والقواعد الفلسطينية بل كانت شديدة عندما أحس بأن الحرية طعمها مر نظرا لتنكر ذوي القربى..
النشأة وأسفار الطفولة
ولدت بدوار تشتوين قبيلة أيت دويران قيادة انتيفة دائرة بزو إقليم أزيلال سنة 1936 . كان والدي محمد بن علي فلاحا صغيرا أنا الرابع من أبنائه الستة حيث كان لي أربعة اخوة ذكورا وأختا واحدة.. نشأت في منطقة خاضعة لحكم استعماري ذو بنية هرمية تتكون من المراقب المدني بتادلة وضابط عسكري من درجة نقيب وقائد تجمعه علاقة مصاهرة مع الباشا الكلاوي الذي كان يحكم منطقة نتيفة إضافة إلى الشيوخ والمقدمين كل هؤلاء كانوا يشكلون عناصر هذه البنية الهرمية للسلطة الاستعمارية بالمنطقة ويظهر من خلال هذا الوضع أننا لم نكن نخضع لحكم مدني بل نعيش تحت وطأة حكم عسكري جائر.
هذه المنطقة التي نشأت فيها كانت جد مهمشة وظروف العيش قاسية جدا لذلك كان والداي يرغبان في أن أتمكن من متابعة دراستي لكي أتخرج عالما من جامعة ابن يوسف بمراكش التي كانت تتمتع بشهرة علمية وكل العلماء والفقهاء الذين كانوا يأتون إلي منطقتنا كانوا من خريجي هذه الجامعة .
لكن مع الأسف وكما يقال تجري الرياح بما لا تشتهي السفن فقد كان أخي علي شو جار جنديا في الجيش الفرنسي يقيم في
منطقة تسمى تلكيت توجد ما بين أزيلال وزاوية أحنصال . وأنا في سن السابعة أو الثامنة جاء أخي ليصحب زوجته معه وتلبية لرغبة والدي أخذني معه إلى « تلكيت » لكي أتمكن من ولوج المدرسة وهذا ما حصل فعل. هذه المنطقة كان يهيمن عليها حكم عسكري صارم إذ كان يقيم فيها كل من قبطان المنطقة وكان اسمه le petitوالترجمان والمعمرين وكان يطبق فيها الحكم العرفي ولم تكن المدرسة التي كنت أدرس فيها لتحيذ عن هذا النظام ومن بين المعلمين الخمسة أو الستة الذين كانوا يدرسون مدرس مغربي واحد يسمى ميسيو المعطي وهو من بني ملال لم نعرف آنذاك بأنه من الوطنيين إلا بعد مجيء الاستقلال سنة1956 حيث عين قائدا بورزازات واسمه الكامل القائد المعطي بوزكري وهو الآن متقاعد ببني ملال والى جانبه مدرسان جزائريان هما مسيو خلادي ومسيو السي عبد اللهأحدهما يدرس العربية والأخر يدرس الفرنسية تضاف إليهم معلمة فرنسية نناديها مادموزيل .
وكما قلت سابقا فان هذه المدرسة تعرف سيادة نظام عسكري صارم . ففي الصباح وقبل أن ندخل الفصل يوقفوننا في طابور طويل أمام الباب وبعد ذلك يسوقننا إلى ساقية لكي نغسل وجوهنا ثم يأمروننا بالاصطفاف على طول الساقية .. كان هذا في موسم 1945 / 1946 وبعدها يأمرون أكبرنا بالذهاب لالتقاط الأحجار التي ستوزع علينا لكي نفرك بها أقدامنا ونغسلها ثم يوزعون علينا الشتب لكي نطرد به الذباب من المدرسة وقد عرفت هذه السنة بعام الجوع بما يستتبع ذلك من كثرة الأمراض والأوبئة .. أما البذلة المدرسية فقد كانت عبارة عن زي عسكري يتكون من قميص عسكري بربطة عنق وسروال قصير بالإضافة إلى الكندورة . غاية المستعمر من كل هذا هو جعل أطفال المدرسة وهم من أبناء « الكوم » مميزين عن باقي أطفال الشعب . ولم نكن نعلم آنذاك ملابسات هذه السياسة التي تندرج ضمن المخطط الذي سيظهر لاحقا باسم الظهير البربري وكان تلاميذ المدرسة من أبناء الكوم كما قلت وأبناء أعيان منطقة بإغريمان أي القصور.
كان المستعمر يراقب بدقة سلوكاتنا ويسجل ملاحظاته بشكل مطرد حول مستوى كل واحد منا من الناحية المعرفية وانطلاقا من ذلك حددوا قائمة التلاميذ الذين يتوفرون على ذكاء متميز والذين سيكون بإمكانهم متابعة دراستهم الثانوية بآزرو بعد إنهاء المرحلة الابتدائية هذه المدرسة التي أسست بهدف التفرقة بين العرب والأمازيغ إذ أن الأمازيغ وحدهم يسمح لهم بولوجها . وكنت ضمن هذه القائمة . ومن المظاهر الأخرى لهذا النظام العسكري السائد في المدرسة المسيرة التي كنا نقوم بها كل صباح قبل الدخول إلى الفصل والتي نقطع خلالها أزيد من متر في شكل طابور عسكري وبخطوات مضبوطة ووفق أوامر تعطي لنا بمصطلحات عسكرية كاردافو...روبو... دروا .. وكنا مرددين هذه العبارة: واحد اثنين .. واجد اثنين وفي يوم السبت يوزعون علينا الصابون يشترون السكر والشاي وفي الصباح الباكر ليوم الأحد يقودوننا بنفس النظام العسكري مرددين النشيد الفرنسي إلى النهر المحاذي لتلكيت وهناك كنا نغسل ملابسنا ونسبح ونتناول وجبة الغذاء ونشرب الشاي وفي الخامسة مساء نعود في طوابير بإيقاع مضبوط مرددين النشيد الفرنسي الى أن نصل باب المدرسة وهناك يعطي لنا الأمر بالتفرق ودائما بعبارات عسكرية روبو كاردافو رابي فولا.
وعندها نبدأ في الانسحاب والتوجه إلى منازلنا . كان هذا هو إيقاعنا اليومي وعندما تنظم المواسم في المناطق المجاورة كانوا يأخذوننا إليها وكنا نجلس في أحسن خيمة مع الفرنسيين والى جانب قبطان المنطقة حيث تقدم لنا ألذ أنواع الطعام كالشواء ..وكان اهتمامهم بنا يصب في أفق إرسالنا إلي أزرو وتهيئنا كأطر تخدم مصالح المستعمر في المستقبل.
لكن هناك حدث وقع وغير مجريات الأمور بالنسبة لي . حيث أن أخي يشتغل طباخا عند عسكري فرنسي برتبة مساعد أول أحيل على التقاعد وطلبت منه الإدارة الفرنسية أن يشرف على ورش شق طريق مزدوج في منطقة تسمى تمكا توجد ما بين تلكيت وزاوية أحنصال وكان على أخي أن يلتحق به هناك وهذا يعني أنه يجب علي أن أترك المدرسة وأصحبه إلى تمكا لكن القبطان هدده قائلا :
ان أقدمت على هذا الفعل فاني سأودعك السجن .. هذا الطفل ذكي جدا ويجب أن يذهب الى أزرو لاتمام دراسته .
عندهاأخبره أخي بأن لاوجود لمن يتكفل بايوائي ومأكلي فرد عليه القبطان :
سنتكفل بكل شيء المهم أن يكمل مشواره الدراسي
رصاصات في جسد طفلة
سافر أخي إلى والدي وأخبره بكل شيء فجاء الوالد وهربني ليلا وأعادني إلى دوارنا ومازالت أذكر تلك الليلة جيدا حيث قبل أن نغادر تلكيت استدعانا للعشاء شخص أصله من دوارنا يدعى بوكليم وكان يتقن اللغة الفرنسية لانه كان ينتمي للجيش الفرنسي ويقرأ الجرائد الفرنسية le petit marocain و maroc presseوفي تلك الليلة أعطاني جريدة المغربي الصغير le petit marocainوقال لي هل تستطيع أن تقرأ شيئا منها ؟ أخذتها منه وقرأت منها جملة . عندما سمعني بدأ يقفز ويصرخ من شدة الفرح فجاءت زوجته من المطبخ مذعورة قال لها لقد قرأ عبد الرحمن جملة فرنسية من الجريدة سيكون ترجمانا كبيرا وسيشرفنا في المنطقة بأكملها ..
أعادني والدي إلى دوارنا وهناك أدخلني أحد المساجد لأحفظ القرآن وبعدها حولني إلى منطقة تانانت وهي مسقط رأس والدتي وتوجد بين دمنات وأزيلال وفيها استأنفت دراستي القرآنية. كانت تحذوني طموحات غامضة وتغمرني هواجس غريبة وكان لي فضول كبير ورغبة جامحة في اكتشاف المجهول .. فعندما أرى الأجانب أبدأ في التساؤل من أين أتى هؤلاء ؟ وعندما أرى السيارة اذهب لأتشمم رائحة البنزين وأتسلق أعمدة الهاتف وأضع أذني عليها لأسمع الهدير الذي تحدثه . وأشعر بأن هناك عالم آخر مخالف لهذا الذي أعيش فيه وهو نفس الإحساس الذي ينتابني كلما نظرت الى جبل عال محاذ للقرية ليبعث في دواخلي الرغبة لاكتشاف ذلك العالم الذي يوجد خلفه وهذا ما دفعني للهروب من المنزل حيث اشتغلت أولا بسد بين الويدان مع الفرنسيين سنة 1952 ولم أبلغ حينها 15 سنة. في تلك الفترة كان المستعمر قد فتح عدة أوراش لبناء بعض السدود وذلك قصد خلق مناصب شغل للسكان تلهيهم عن القضية الوطنية لاعتقاده أن البطالة هي السبب في إذكاء روح النضال وأن المقاومين هم أناس عاطلون عن الشغل ولم يجدوا ما يفعلونه فتعاطوا للسياسة في ومازالت أذكر أنني ذهبت الى أحد مكاتب الشغل فوقفت في طابور طويل ولما جاء دوري قال الشخص المكلف هل تريد أن تشتغل ؟ فأجبته نعم سألني وفيما تريد أن تشتغل ؟ قلت له في أي شيء فأخبرني بأنني سأشتغل في منزل أحد المشرفين على أحد الأوراش وهو ما حدث فعلا .
بعد ذلك انتقلت للعمل بأفورار وتوجد ما بين بني ملال وبين الويدان وكانت الأجرة التي نتقاضاها عن اليوم الواحد هي درهم واحد ونصف اضافة الى الايواء في غرفة وكان هذا امتياز للأشخاص الذين يشتغلون مع الأجانب في منازلهم أما العمال الأخرون فكانوا يبيتون في الخيام .
عدت الىدوارنا واعتبرت والدتي رجوعي تكفيرا عما سببته لها من معاناة جراء هروبي. أما أهل القرية فكانت تسود عندهم ثقافة تعتبر أن كل من يهاجر ويترك البلد ويتعرف على ثقافة أخرى ويعود بتقاليد مخالفة في اللباس أو السلوك تعتبره شخصا لا فائدة ترجى منه في حين كانت تقدر من يحمل الفأس ويشتغل في الأرض ويحرث ويسقي ويرعى ... وفي هذه الآونة كان أخي الأكبر الذي تحدثت عنه سابقا قد التحق بالمساعد أول الذي كان يشتغل طباخا في بيته والذي أصبح يقيم بدار العسكر لقدماء المحاربين بآسفي فشغل أخي باحدى المكتبات تسمى فورتامولو وهي من أكبر المكتبات في تلك الفترة وتتوفر على فروع في أغلب المدن المغربية الكبرى ثم بعد ذلك حصل على منصب بالبنك المخزني الذي يسمى حاليا بنك المغرب وكان ذلك سنة1954 وعند ما هم أخي بترك المكتبة لينتقل الى البنك أخبره المساعد الأول (الفرنسي) بأن صاحب المكتبة يشتكي من الفراغ الذي سيتركه رحيل أخي وخاصة على مستوى الجدية في العمل والأمانة فأخبره أخي بأنني عدت الى الدوار ويمكنني أن أشغل منصبه وبذلك رحلت الى آسفي واشتغلت بالمكتبة وكان ذلك في شهر يناير فتولد عندي أول إحساس بشيء اسمه القضية الوطنية حيث مكنني الاحتكاك بالمستعمرين من إدراك النظرة الاحتقارية والمهينة التي يحملونها عنا . حيث كانوا يستعملون عبارات وأوصاف للدلالة على المغاربة مثل les esclaves /les arabes وكلمات أخرى مهينة واذاك اشتدت حدة إحساسي بمرارة العبودية . ومما زاد الطين بلة حدث وقع ذات يوم عندما كنت كالعادة واقفا قرب زوجة صاحب المكتبة وهي مكلفة بالصندوق فسمعت أن جريدة باري ماتش نشرت صورة الملك محمد بن يوسف . كان هذا في سنة 1955 فسألت شخصا واقفا عند الكونطوار هل فعلا نشرت جريدة بريماتش صورة لمحمد بن يوسف هل تقول أنه سيعود الى المغرب؟ فأجابني شخص آخر كان واقفا يدخن سجارة ويقرأ الجريدة ولم أكن أعرف حينها أنه بوليس سري نعم سيعود أيها الحمار... فانتابني احساس فظيع بالمهانة والاحتقار ..
.. وكان الاضراب الذي نظم قبل 20 غشت 1955 فرصة أخرى لتعميق احساسي الوطني إذ عرف نجاحا كبيرا حيث أغلقت كل المحلات أبوابها باستثناء محلات اليهود التي بقيت مفتوحة . وفي هذه الفترة كان التوتر كبيرا لأن حركة المقاومة كانت نشطة في مدينة آسفي وهي مدينة عمالية كانت الحركة النضالية فيها قوية جدا .. ففي الليل تنفذ المقاومة عمليات تفجير القنابل ولاغتيالات وإحراق المحلات ... وكانت فرق الكوم وهي فرق عسكرية سينغالية جلبها المستعمر الى المغرب للقضاء على المقاومة الوطنية ترد بتكسير أبواب المحلات المغلقة بالفؤوس والسواطير
في 20 غشت 1955 انطلقت المظاهرات من حي هراية البيض أمام سينما الروكسي وكان في مقدمتها الأطفال كما وقع تماما في أحداث 23 مارس 1965 ... والحادث الذي بقي عالقا بذهني الى الآن وصعب محوه من ذاكرتي هو خروج الجيش الاستعماري مدمجا برشاشات من طراز ماط 49 التي لها القدرة على تفريغ 32 رصاصة في طلقة واحدة ومازالت صورة طفلة مغربية ماثلة بين عيني الى اليوم . حيث كانت تحمل العلم المغربي وصورة محمد الخامس فأفرغ فيها عسكري فرنسي دخيرة رشاشه بكاملها ..أي 32 رصاصة اخترقت جسدها الصغير الذي أصبح مثقبا كله ومضمخا بالدماء .. يا إلاهي ما أبشع هؤلاء القوم ..
كانت أسفي ذلك اليوم من هراية البيض الى باب الشعبة عبارة عن مجزرة .. وكانت الفرق السينغالية من الجهة الأخرى ترمي المتظاهرين بالمدفعية .. يا لها من مذبحة رهيبة ولحظة بطولية أنجزها المناضلون الوطنيون . أما التعاطف الشعبي فلا يمكن وصفه . ومن أبسط مظاهره أن كل أبواب المنازل تفتح في وجه المتظاهرين الذين يفرون من ملاحقة عناصر الجيش الاستعماري .. كل هذه الأحداث جعلتني أحس أكثر بعمق المهانة والاضطهاد الاستعماريين..
في البادية كانت مظاهر الظلم والاستعباد والقهر الاستعماري تتجلى من خلال عدة ممارسات كالضرائب المفروضة بشكل مبالغ فيه والكلفة حيث كان المستعمر كلما أراد أن ينجز ورشا كبناء طريق أو حفر بئر يكره السكان بواسطة القائد الذي تجمعه علاقة مصاهرة مع الكلاوي على العمل في هذا الورش لمدة معينة ليلا ونهارا و بدون أجر إضافة إلى التويزة حيث كان القائد يعمد إلى إكراه السكان على حرث أراضيه وحصدها... كل هذا بدون أجر أو مقابل زد على ذلك (الصيادة) إذ كان المراقب المدني وهو بمثابة العامل حاليا،يأتي من تادلة ويصحب معه أصدقاءه وأقاربه من الفرنسيين الذين يأتون من الخارج خصيصا إلى المنطقة لكي يصطادوا الخنزير والذئب والثعلب وباقي فصائل الطرائد . وكان قائد المنطقة يستنفر الشيوخ والمقدمين لتهيئ الأطعمة من شواء وقطبان وطواجين للزوار. وبدورهم يطلق الشيوخ والمقدمين البراح (المنادي) في الأسواق والمساجد والطرقات ليخبر السكان بأنه في الغد ستكون (الصيادة) ويحث الجميع على ضرورة الحضور. وبالنسبة للذين يتغيبون يفرض عليهم دفع ذعيرة ببيت للقائد قد تكون مالا أو زربية أو عجلا أو خرفانا ... هذه الذعائر والهدايا تتدفق يوميا بلا انقطاع على دار القائد .
في صغري كانت تبدو لي هذه الأمور عادية وطبيعية إذ يقال لي بأن هناك سلطان في الرباط يسمى محمد بن يوسف لم يسبق لنا أن رأيناه هو المكلف بشؤون المسلمين الروحية أما أمور السياسة والحكم فهي من اختصاص النصارى لأنهم هم الذين يحكمون العالم برمته وهم الذين يديرون شؤون البلاد .
قلت بأن عملي بالمكتبة ومعاينتي لأحداث 20 غشت 1955 بآسفي إضافة إلى انتماء أخي لإحدى خلايا حزب الاستقلال عمق إحساسي الوطني وأذكى في روح النضال.
المعركة لم تنته بعد
عاد محمد الخامس إلى المغرب . بدأت مرحلة التهييء للحكومة الجديدة التي تشكلت برئاسة مبارك البكاي وعاد زعماء الحركة الوطنية إلى المغرب كذلك . وكانت القناعة الراسخة لدى الوطنيين الحقيقيين كالمهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي هي أن المعركة لم تنته بعد . كان جيش التحرير في ذلك الإبان سواء في شقه الموجود بزمور والذي كان يشرف عليه العمراني أو شقه الموجود بالجنوب الذي كان يشرف عليه ابن حمو من مسفيوة ، مايزال حاملا للسلاح . إذ كان يرى أن مهمته لازالت مستمرة إلى أن يتحقق الجلاء التام للتواجد العسكري الأحنبي من المغرب . وكان البرنامج الذي بدافعون عنه هو تصفية القواعد العسكرية الأجنبية المتواجدة فوق التراب المغربي وتوزيع الأراضي المسترجعة من المعمرين على صغار الفلاحين وبناء المؤسسات الدستورية الديمقراطية وصياغة الدستور من طرف الوطنيين بتعاقد مع الملك .
كانت الأمور تجري في البداية بين قوتين هما قوة الملك وقوة الوطنيين ، لكن الظروف قادت إلى بروز قوة ثالثة هي قوة ومناهضة لبناء الاستقلال السياسي على أسس ديمقراطية لأنها ربيبة الاستعمار. و في مقدمة هذه القوة أوفقير والدليمي إضافة إلى الضباط الذين كانوا في صفوف الجيش الفرنسي ووحدتهم رغبة للتكثل والتضامن لتشكيل قوة لموجهة احتمالات المستقبل وهذا واقع معروف ..
عند بداية الاستقلال بدأت معالم الطريق تتحدد بالنسبة لي .. وبدأت تتجمع المكونات التي حددت اختياراتي في المستقبل و شعوري الأول هو كيف يمكن أن أتموقع ضمن سيرورة بناء الاستقلال ؟
حينما كنت في آسفي قبل الاستقلال كان أخي الأكبر عضو في احدى خلايا حزب الاستقلال .. لم يخبرنا بذلك بحكم السرية التامة المحيطة بالعمل السياسي آنذاك الذي يقتضي الحذر والحيطة من أي تسرب . لكننا بفضولنا كمراهقين كنا نلاحظ أن هناك تحركات غير عادية حيث كان يجاورنا أحد الوطنيين الذي يلتقي بأخي يوميا عند صلاة المغرب ويذهبان معا الى وجهة لا نعرفها ولا يعودان الا عند صلاة العشاء. وكانت التحركات المكثفة للمغاربة والتصنفيات التي نسمع عنها في الشارع والتي تشير الى فلان بأنه وطني وأن ذاك مقاوم .. تؤكد لي بأن هناك شيء يتم الاعداد له في سرية تامة .. وبعد الاستقلال عرفت أن جارنا الذي كان يسمى حميد كان أمين مال مكتب حزب الاستقلال وقد أقام بعد ذلك بالدار البيضاء حيث فتح متجرا للأثواب بدرب كناوة ..
انبثاق وعيي بالقضية الوطنية كانت له منابع كثيرة حيث ساهم فيه أخي والجيران والناس الذين كنت ألتقيهم في عملي وأحادثهم .. و كان شخص يسمى يعلي العرج يبيع الجرائد أمام المكتبة التي أشتغل بها يتقاطر عليه القراء بكثافة وتعطش وحتى الذين لا يعرفون القراءة يسألون عن مضمونها . هذا مظهر من مظاهر المتابعة القوية لما تنشره الصحف وخاصة جريدة السعادة التي كانت مثل le petit marocain وغيرها من الصحف الاستعمارية تنشر مقالات نارية ضد المقاومين والفدائيين وتنعتهم بالارهابيين . ضمن هذه الأجواء تكونت لدي رؤية حول الأحداث ومجريات الأمور وهي التي حددت قناعاتي واختياراتي المستقبلية في أقصى حدودها . فالانسان لكي يصل باحتياراته وقناعاته الى أبعد الحدود لابد أن تتوفر لديه تراكمات وخلفيات تمثل الشحنة الدافعة له.
بعد مجيء الاستقلال نشطت الحركة السياسية وبدأت هياكل حزب الاستقلال تنتظم بشكل اكثر دقة وحيوية وذلك راجع لجو الحرية الذي كان سائدا في البداية حيث أخذت المكاتب الحزبية تفتح بشكل عادي وعلني و تتأسس الخلايا وتعقد التجمعات . وارتفعت نسبة الانخراطات وبدأت تظهر توجهات وتيارات جديدة ومن ثمة عرف حزب الاستقلال مخاضا جديدا أفرز نقاشات حادة كشفت عن توجهات مختلفة ومتباينة . وقد عاينت مظاهر هذه الاختلافات في آسفي لأن المحطة الأولى للاستقلال تمثل منعطفا حاسما في تاريخ الدولة وفيها تحسم التوجهات التي ينبغي اعتمادها لبناء دولة الاستقلال. وهكذا ظهرت حلقيات داخل الحزب حيث كان الوطنيون الفعليون يرون بأن المغرب يجب أن يبنى سياسيا على أساس ديموقراطي في اطار ملكية دستورية مع تصفية كل القواعد العسكرية الأجنبية واسترجاع أراضي المعمرين واستمرار جيش التحرير في معاركه من أجل استرجاع سبتة ومليلية وجزر الكناري واسترجاع الصحراء ثم بناء الاستقلال على أساس الامكانيات الذاتية للمغرب وتجنب التبعية للأجانب. وبفعل تقاطب وجهات النظر بدأ يطرح داخل حزب الاستقلال ضرورة عمل تصحيحي. والوطنيون كالمهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي وأنويةجيش التحرير والمقاومة قد حسموا توجههم وحددوا اختيارهم بوضوح. ولما ظهر أن حزب الاستقلال ليس باستطاعته مسايرة هذا التوجه طرح خيار الانفصال الذي تم في أواخر يناير1959وكان الشهيد المهدي بن بركة قد اقترح ان يكون الانفصال مرحليا وليس نهائيا لأنه يصعب بين عشية وضحاها إقناع المناضلين الاستقلاليين به . لذلك فمن ناحية التهييء السيكولوجي للقواعد يجب أن تكون هناك مرحلة انتقالية داخل الحزب ثم بعد ذلك يأتي الانفصال النهائي وهكذا أعلن عن تشكيل الجامعة المتحدة لحزب الاستقلال والاحتفاظ بكلمةالاستقلال هذا كان له دور كبير جدا قي ربط القواعد الاستقلالية بهذا التيار والمحافظة عليها إلى أن تنضج الظروف فيتم الإعلان عن الانفصال النهائي..
مقاطعة دستور 1962
في 29يناير1959أعلن عن الانفصال وعن تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية فبدأ الصراع على مكاتب حزب الاستقلال . وبآسفي الذي كنت أقيم به في تلك الفترة تشكل فرع حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية فبدأت عناصر حزب الاستقلال تلتحق به إضافة إلى عناصر أخرى من خارج الحزب التي حسمت اختياراتها أما أنا فبقيت طيلة الفترة الممتدة بين 1959و1961 أراقب مجريات الأمور.
بناء على الخلفيات التي تحدثت عنها سابقا، وجدت أنني إذا أردت أن أكون منسجما مع نفسي ومع قناعاتي، فإن مكاني الطبيعي يوجد في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وكما هو معلوم كانت في تلك الفترة مجموعة من الأحزاب كحزب الأحرار بزعامة رشيد مولين وحزب الشورى والاستقلال وحزب الاستقلال. لكن الحزب الوحيد المنسجم مع قناعاتي كما أسلفت والذي يستجيب للمعاناة التي قاسيتها هو حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي يتوفر على مجموعة من المؤهلات تمثل بالنسبة لي مغريات للالتحاق به. حيث كانت في صفوفه شخصيات وطنية لها تأثيرها الكبير على مستوى الحركة الوطنية وجيش التحرير، ومن بينها عبد الرحمن اليوسفي، ومحمد منصور والفقيه البصري.. تضاف إلى هذا نقابة الاتحاد المغربي للشغل التي كانت أكبر وأقوى نقابة، والتي ساندت الحزب.
وانطلاقا من كل هذه المعطيات انضممت إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1961 ، بخلاف أخي الأكبر الذي كان في حزب الاستقلال. لكن بفعل الصراع لم يلتحق بالاتحاد ولم يبق في صفوف حزب الاستقلال، بل بقي محايدا إلى حدود وفاته.
في بداية سنة 1962 تأسست مدرسة المعلمين بآسفي. فاشتغلت بها كحارس. وفيها تعرفت على عدد كبير من رجال التعليم وكان نشاطي السياسي في هذه المرحلة يعرف اندفاعا كبيرا، إلى الحد الذي نبهني فيه المدير إلى أن ايقاع تحركاتي يمثل خطرا علي وكنت أقول له إننا في مرحلة حاسمة. ولا يمكن أن نجلس مكتوفي الأيدي، لأن أتباع أوفقير سيعودون بنا إلى عهد الحماية. وكان يرد علي : وهل تعتقد أنك أنت الذي سينقدنا ؟ . وبكل ثقة أجيبه : نعم. في تلك الفترة كان له ابن في السادسة أو السابعة من عمره. وبعدما قضيت فترة الاعتقال وخرجت من السجن وأنا في الخامسة والستين من عمري أفاجأ بأن ابنه يكتب مقالا في جريدة الاتحاد الاشتراكي. إذ في الفترة التي كنت أنا فيها معتقلا في السجن كان المدير يعلم ابنه. وعندما خرجت من السجن تخرج هو من كلية الطب طبيبا في الأعصاب. وهذا يؤكد قيمة الاصرار والصمود ولو في أعتى اللحظات وأهول المخاطر. فمن يتوفر على اختيارات صحيحة لابد وأن يستمر.
بعد أن لاحظ الاخوة في الحزب حيوية نشاطي، مكنوني في سنة 1962 من الصعود مباشرة إلى الكتابة الاقليمية. ومن بين العناصر الأساسية التي وجدتها في الحزب أذكر الأستاذ المرحوم اليازجي وهو رجل تعليم، والأستاذ البوفي والأستاذ الغندوري أطال الله في عمره وهو رجل تعليم متقاعد. محمد جغاضا مدير مدرسة متقاعد. والأستاذ إدريس الرزاما رحمه الله. والسيد عبد الله الولادي رئيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان حالياالذي كان عضو الكتابة الاقليمية مكلفا بالشبيبة الاتحادية. والسي محمد الشعبي الذي كان من أكبر المقاومين بآسفي لكنه لم يكن عضوا بالكتابة الاقليمية للحزب في سنة 62..
. كوننا الخلايا حزبية. واعتمدنا نظام المسيرين يكلف كل واحد منا بمنطقة أو جهة معينة .. أذهب ليلا إلى القليعة،أوالكوس الزاوية أو عزيب الدرعي.. وأعقد مع الآهالي اجتماعات. كانت المهمة الأساسية التي نقوم بها في هذه التجمعات هو قراءة نشرة الحزب وتفسيرها وتبسيطها، والدعوة الدائمة إلى الحفاظ على معنويات مرتفعة.
جاءت مرحلة دستور 1962. وكانت بمثابة انطلاق الشرارة الأولى للمواجهة التي سنفتحها مع السلطات العليا. إذ طالب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمجلس تأسيسي لوضع دستور البلاد. لأنه لا يمكن أن نقبل أن يكون الأجانب الذين استعمرونا هم الذين سيضعون هذا الدستور. فالمحتل لا يمكن أن يمنحنا الديمقراطية. لكن الطرف الآخر أصر على أن يوضع الدستور من طرف الأجانب.
عندما انطلقت هذه المعركة انسحبت من الحزب مجموعة من العناصر التي كانت فيه منذ التأسيس، والتي لم تكن تسايرهذا الاختيار واذكر من بينهم عبد الهادي بوطالب والمرحوم المهدي بن عبود أول سفير للمغرب بواشنطن، احمد بن سودة...
كان النظام يقوم بالدعاية للدستور ونحن نقوم بالدعاية المضادة. اتخذ حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية موقف المقاطعة. ومازلت أذكر أن المرحوم عبد الرحيم بوعبيد حضر مهرجانا خطابيا بالسقالة بآسفي. وألقى الفقيه البصري محاضرة في الموضوع. وكذلك الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي.
كانت هذه المعركة من أكبر المعارك التي خضناها. مازلت أذكر كذلك أن الفوج العسكري بأكادير انتقل بأكمله إلى آسفي، وأقام بالسوق الذي كان قد بناه المستعمر وقد تحول حاليا إلى قاعة رياضية. أفرغ في ذلك اليوم و لم يسمح للباعة بأن يفتحوا محلاتهم. بلغ عدد عناصر هذا الفوج 300 جندي، الثلثين منهم كانوا بزي مدني دسوا عنوة داخل مكاتب التصويت كمراقبين. والآخرون يقفون أمام مكاتب التصويت قصد تخويف المواطنين ودفعهم للتصويت بنعم للدستور. وقد كنت في ذلك اليوم كمراقب للحزب بمكتب التصويت بسيدي عبد الكريم. وما شاهدته من خروقات وانتهاكات لا يمكن وصفه، إذ كان المقدمون والبوليس والجيش مستنفرين، يقفون بحزم لتخويف الناس والتأثير على قرارهم. وفي المساء أعلن عن نتيجة الاستفتاء وكانت 99% لصالح الدستور.
في ظل ذلك الانزال الكبير لقوات الأمن والجيش والمخبرين والباشا والخليفة وعملاؤهم، كنا نقوم بإلصاق نسخ من منشور موقع من طرف الفقيه البصري ومولاي العربي العلوي يحمل صورتيهما. كانت السيارة تأتيني ليلا بالمناشير إلى مدرسة المعلمين التي كنت مقيما بداخليتها. وهناك تلتحق بي مجموعة أخرى من المناضلين لنقوم بإلصاق هذه المناشير ليلا. ولأنه لم يكن لدينا في تلك الفترة اللصاق، كنا نستعمل عجينة الدقيق كوسيلة لللإصاق.
كانت قوة إيماننا وإصرارنا تجعلنا نخاطر بأرواحنا ونضع أعمارنا في أكفنا. ونحس بأنه ليس هناك ما نخسره، ولم نكن نطمع في مكاسب مادية.
زارنا المرحوم عبد الرحيم بوعبيد قصد تقييم المعركة وتوضيح الآفاق النضالية وقال حرفيا إن المعركة مازالت مستمرة.
في الانتخابات التشريعية لسنة 1963 ترشح عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بآسفي السي الوديع الآسفي. وفي هذه الانتخابات برز ما سمي بجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية. والتي أسسها رموز الرجعية بالمغرب كرضى كدير وأوفقير والدليمي والحمياني.. وكان هدفها الأساسي هو مقاومة المد الوطني التقدمي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. هذا الوضع يتطلب تكثيف الجهود وجمع شمل الأسرتين : أي حزب الاستقلال والاتحادالوطني. لأن حزب الاستقلال كان قد ساير النظام فيما يخص مسألة الدستور وصوت بنعم وذلك على أن يحضى بالمناصب الوزارية التي يريدها في الحكومة. لكن الذي حدث هو أنه بعد انتهاء معركة الدستور وتشكيل حكومة جديدة، لم تقبل الأسماء والمناصب الوزارية التي طالب بها حزب الاستقلال.
فحرر علال الفاسي استقالته من الحكومة لكي يقدمها للملك كتهديد بالانسحاب والانضمام إلى صفوف المعارضة. معتقدا أن الملك كان يخشى تعزيز المعارضة بحزب الاستقلال. لكن الملك قبل فورا وبدون تردد استقالة المرحوم علال الفاسي. فانسحب الاستقلاليون.
كانت الانتخابات التشريعية لسنة 1963 تفرض التكثل لمواجهة الجبهة. وفي هذه الأجواء تشكلت الكثلة الأولى..
في إطار الحملة الانتخابية، كنا نمر في الشارع أمام أحد مكاتب جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية. فتعرضنا للرشق بالحجارة من قبل عملائها. كنت في المقدمة، وبفعل هذا الهجوم العنيف تفرق المناضلون. وفجأة وجدت بجانبي سيارة جيب. نزل منها ضابط برتبة ليوتنون من منطقة أيت مجيد ببني ملال وكان في جيش التحرير ونزل معه المخازنية فألقوا بي بوحشية في سيارة جيب، هذه أول تجربة لي مع الاعتقال.
اقتادوني إلى مقر البلدية واحتجزوني بقبو تحت الأرض توضع فيه أكياس الدقيق التي يوزعها التعاون الوطني، أغلقوا الباب وتركوني هناك إلى غاية الحادية عشرة ليلا. جاؤوا مرة أخرى وأخرجوني بشكل عنيف. يجرونني بالشتم والضرب والركل واللكم. أصعدوني إلى حجرة مضيئة يجلس فيها خليفة الباشا وكنت أعرف أنه كان مقاوما، ومعه كاتب جزائري خلفته فرنسا بالبلدية هو المكلف بتهييء المحضر. قال لي خليفة الباشا :
قل لي أسي الزعيم. شفتك دايز في الشارع وتتضامن مع الاستقاليين. وتتردد الشعارات، واش ما تتفهمش بأن مبادئنا في الجبهة هي نفس مبادئكم في الاتحاد الوطني وأن عدونا واحد هو حزب الاستقلال.
في تلك الفترة كل رجال السلطة من باشوات وقواد وخلفان وأعوان.. أي وزارة الداخلية باكملها كانوا أعضاء في جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية.
فأجبته : آسي ادريس أنا أعرف جيدا أنك كنت مقاوما. ويؤسفني أن أسمعك تقول لي بأن الجبهة لها نفس مبادئ الاتحاد الوطني... أحنا في الاتحاد ما عندناش المخازنية والمقدمين والخونة أحنا ناس وطنيين.. داك الشي علاش احنا وياكم ماشي بحال بحال.
رد علي خليفة الباشا :
أنت.. راسك سخون وقاسح.
أجبته :
أنا عندي مبادئ.. وتنعمل في إطار شرعي وفق قوانين الحملة الانتخابية. ويلا احنا خرقنا القانون يمكن لكم تحاسبونا....
أمر المحرر الجزائري بتحرير المحضر. لم أوقعه. نادى على أحد المخازنية اسمه السي ميلود الذي اقتادني مرة أخرى إلى القبو الأرضي الذي توجد فيه أكياس الدقيق التابعة للتعاون الوطني والتي كانوا يوزعونها على الذين سيصوتون على مرشحي الجبهة. وفي الليل اقتادوا إلى نفس المكان مناضلين استقلاليين ومناضل نقابي واتحادي يسمى باصالح.
كانت الحركة لا تفتر بالقبو [لاكاف]. كنا نراهم الليل كله يحملون أكياس الدقيق ويسلمونها لأشخاص آخرين. كنت أتساءل مع نفسي : أين تذهب هذه الأكياس. إنه دقيق التعاون الوطني. ومن المفروض أن يسلم للفقراء والمحتاجين. لكن لماذا يسلم بالليل وليس بالنهار ؟ بعد ذلك اكتشفنا الحقيقة...
كان معنا في تلك الليلة مخزني يحرسنا داخل القبو. لم يقدموا لنا شيئا لنأكله إلى غاية الثالثة صباحا. لأن الحارس يخشى رئيسه المباشر لذلك بقي ينتظر إلى أن تأكد بأنه لن يعود فقدم لنا بعض الخبز لنأكله.
في الغد جاءت سيارة الشرطة، وضعوا الاغلال في أيدينا، أحضروا صورة للملك بإطار خشبي وزجاج مكسور وبعض العصي والأحجار. اقتادونا في السيارة إلى المحكمة الابتدائية. قادني شرطي إلى غاية مكتب وكيل الملك. وكان أمامه أدراج تقود إلى الأسفل. فركلني بوحشية ودفعني إلى أن تدحرجت إلى الأسفل، وقال لي بحقد : إذن، انتظر الآن أن يأتي بن بركة ليخلصك.. واش تاتعرف بأن الناس حيت شافوا صورة جلالة الملك مكسورة قالوا بأنك خاصك تتحرق بليسانس..!.
محمد المبارك البومسهولي
يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.