الفقيه الفكيكي : عاش 19 عاما في المنفى وأفلت من الموت والاختطاف مرات عديدة/ الجزء الأول يعرفه الناس باسم الفقيه الفكيكي ، واسمه محمد بوراس ، الصديق الأعز ورفيق درب النضال الطويل للفقيه البصري ، جمعتهما ظروف الدراسة بمعهد ابن يوسف بمراكش ، وتعمقت صلاتهما فيما بعد ، وعملا معا في حقل النضال الوطني ، ونظما الانتفاضة الطلابية ضد الباشا الكلاوي . ساهم الفقيه الفكيكي في تأسيس الخلايا الأولى للمقاومة المسلحة ، وأرعب المستعمرين الفرنسيين بدهائه وقدراته الخارقة على الاتصال وتنسيق العمل الفدائي بإحكام وضبط وذكاء ، وقد تمكن من التخفي خلال فترة هامة قبل أن يتم اعتقاله ، إلا أنه سينفذ خطة ناجحة للهروب من السجن بصحبة محمد منصور . بعد الاستقلال ، شارك الفقيه الفكيكي في تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، لكنه اضطر سنة 1961 إلى مغادرة البلاد حيث قضى 19 عاما في المنفى ، وصدرت في حقه أحكام ثقيلة وصلت إلى الإعدام . تقلد بعد عودته مهمة عضو في اللجنة الإدارية الوطنية للاتحاد الاشتراكي عام 1984 . في هذا الاستجواب الذي أجرته معه هيأة التحرير ، يستعرض المجاهد الفقيه الفكيكي محطات وتفاصيل من حياته النضالية الحافلة . * نريد أن نعرف أين ولدت وأين نشأت وترعرعت ودرست ، وكيف كانت أحوال العائلة التي تنحدر منها ؟. أنا من مواليد حوالي 1922 ، وأحمل في البطاقة تاريخ 1927 ، وهذا خطأ ، فأنا مثلا أتذكر جيدا بعض الوقائع التي تمت في 1928 ، وكنت آنذاك أبلغ السادسة أو السابعة ، ولدت بفكيك بقصر زناقة ، كان أبي مسؤولا عن الجماعة بالمنطقة ، وقد ورث عن والده انتماءه إلى الطريقة الدرقاوية ، وقد توفي سنة 1972 وأظن أنه بلغ المائة سنة عند وفاته . تربيت تربية محافظة ، وأفراد العائلة جميعا كانوا منتمون لزاويا مختلفة ، ( درقاوة – الناصرية – القنادسة ) . أذكر في 1944 بعد توقيع عريضة المطالبة بالاستقلال ، أن الفرنسيين أرسلوا رجلا من الزوايا ليقدم درسا ضد الوطنيين ، وقام بجولة كان يركز فيها على أن " المؤمنين إخوة " ، وأن الوطنيين يفرقون الصفوف ويشتتون المسلمين ، كان هذا الرجل من معارفنا وكان شيخ الطريقة الدرقاوية وكان علينا أن نستقبله ، فرفضت ، واعتبر أبي ذلك خرقا فظيعا للأصول وقواعد التعامل العائلي فنهرني بشدة . كنت أدرس القرآن بالكتاب ، وفي الثلاثينات كان لنا نحن أبناء العائلة كتاب خاص بنا ، واستقدمت العائلة فقيها من تافيلالت ، ثم فقيها من القنادسة ، وهذا الأخير هو الذي تعلمت على يديه أصول النحو واللغة والتجويد . وبعد ذلك بدأت أحضر دروس أحد الأئمة بفكيك ، وذلك حتى سنة 1944 حيث رفعت عريضة المطالبة بالاستقلال . كان هذا الإمام رجلا ورعا وعالما بأمور السياسة وعلى اتصال وثيق بمحمد بلعربي العلوي ، وكانوا يعتبرونه وهابيا لأن كل من خالف التقاليد كان يطلق عليه اسم الوهابي أو البادسي . ثم ذهبت إلى فاس قاصدا القرويين ، لكنهم سجلوني في الابتدائي ، بينما كانت معارفي آنذاك تؤهلني لكي أسجل في مستوى أعلى ، ولهذا السبب انتقلت إلى مراكش . * كيف كان وضع الحركة الوطنية آنذاك ؟ كان السي علال رحمه الله قد عاد من المنفى ، وأفرج على عدد من الوطنيين ، واستؤنف نشاط عدد من المعاهد ، كان الجو إذن مطبوعا بنوع من الانفراج . في عهد المقيم اريك لابون ، كان نشاطي الوطني آنذاك ضعيفا . * رغم أنك كنت ملتحقا بحزب الاستقلال في تلك الفترة ؟ صحيح ، فأنا انتظمت في صفوف الحزب مباشرة بعد تقديم وثيقة 11 يناير ، وذلك بفكيك بإيعاز من الإمام الذي كنا نحضر دروسه . وكان يذكي حماسنا ويستنهض هممنا ، ( محمد فرج رحمه الله ) . * كيف كانت وضعيتك بعد التحاقك بمراكش ؟ طلبت أن يسجلوني بالأولى ثانوي ، وهناك بابن يوسف ، التقيت بالفقيه البصري وبعدد من الوجوه التي سوف يكتب لي أن أشترك معها في رحلة العلم والنضال ، لسنوات طويلة ، كنا ثلة من الوطنيين نحرص على أن نقدم المثال في التعلق بالوطن والذوذ عن كيانه وشخصيته ، وفي المثابرة والتحصيل والفوز بأحسن الدرجات ، وكان هذا يربك المندوب الفزنسي . * من هم الأساتذة الذين تذكر لهم تفوقهم في التدريس ونبوغهم العلمي ؟ أذكر السي عبد السلام جبران والرحالي والهاشمي السرغيني ومحمد العمراني . * كيف كان نشاطكم الوطني بمراكش ؟ كنا منظمين في خلية حزبية ، وفي 1948 جاء عبد الله إبراهيم من فرنسا . وكان يحمل معه أفكارا جديدة ومفعما بحماس الشباب ، فأسسنا بتعاون معه جمعية الطالب ، وقام عبد الله إبراهيم بتنظيم محاضرات واستدعاء بعض الشخصيات كالمهدي بنبركة للمشاركة في هذا النشاط التنويري الذي يرعاه الحزب . ربطنا الاتصال بطلبة باقي المؤسسات لتفعيل نشاط الجمعية ، واتفقنا على تنويع نشاطها والتفتح على الرياضة والموسيقى والمسرح ، وأصدرنا جريدة نطبعها بوسائل يدوية تقليدية ، واسمها " الشرارة " ، وكان يتطلب منا " طبع " العدد الواحد ليلة بكاملها ، ومع ذلك كنا نواصل نشاطنا الدراسي بتفوق وألمعية . وعن طريق الحزب اتصلنا بطلبة فاس . في سنة 1950 جاء كيوم وصرح بأنه سيطعم الوطنيين تبنا ، فاعتقل عبد الرحمان ربيحة وبوشتى الجامعي وعلال الجامعي وعدد من علماء القرويين الذين تم اظطهادهم وفصلهم من القرويين ، فنظم طلبة القرويين إضرابا عاما . كنت مكلفا بالاتصال بعبد الله إبراهيم ، وهو الذي أخبرني بما يجري في فاس وطلب مني أن أنقل إلى زملائي رغبة الحزب في تنظيم شكل للتضامن في مراكش ، فتحمست للفكرة ، خاصة أننا كنا قد أرسينا هياكل العمل الطلابي " الرسمية " وهياكل " الظل " تحسبا لكل طارئ ، وكانت لدينا لجان لليقظة لتتبع حركة المتعاملين والخونة . خضنا حركة جماعية للإضراب لمدة 24 ساعة ، وكلفنا عبد السلام الجبلي بأن يعلن عن الاضراب ، ففعل ونجحت حركتنا ، وأرسلنا برقيات إلى جهات متعددة للإخبار بحركتنا . ثم بعد ذلك قررنا الاستمرار والانتقال إلى إضراب لا محدود . وهنا استدعاني الباشا فاعتقلني المخازنية ، واعتقلوا عددا من رفاقي . وقف أمامنا الفرنسي " تيفا " المكلف بالاستعلامات والمندوب المخزني والباشا الكلاوي ، وهذا الأخير نطق بكلام بذيء ، وأمر بجلدنا . جن جنون الباشا وهو يرى شبانا وطنيين يقولون نفس الكلام ويعبرون عن تضامنهم مع رفاقهم بالقرويين باعتزاز وشجاعة . * ماذا وقع بعد أحداث ابن يوسف ؟ وهل استمرت إقامتك بمراكش أم عدت إلى فكيك ؟ كنت أعود إلى فكيك في العطل المدرسية ، وقد تركت زوجتي هناك ( تزوجت بفكيك عام 1943 ) ، استمرت النضالات بمراكش ، وأذكر أن وفدا أمميا من أمريكا اللاتينية قد حل بالمغرب للاطلاع على مايجري في بلادنا ، فقررنا أن نتظاهر أمام أعضاء الوفد نرفع شعارات وطنية . وبحكم أن جمعيتنا كانت تهتم بالمسرح أيضا ، فقد حملنا إلى الرباط نص مسرحية اخترنا أن نؤديها ، فرفضها الرقيب ، وكان عنوان المسرحية ( في سبيل التاج ) ، فقدمنا نصا جديدا يحمل عنوان ( إسلام عمر ) فتم قبوله والتأشير عليه ، وكان أول عرض للمسرحية بمراكش بسينما ( مبروكة ) ، وكنا نتهيأ لعرضها بأكادير ، فشنت سلطات الاستعمار حملة اعتقالات واسعة ، لكنهم لم يعتقلوني لأنني كنت بأكادير . نفي عدد من المناضلين من بينهم محمد بنسعيد ، وحكم بالسجن على البعض الآخر ، عندها انتقلت إلى الدارالبيضاء ، ثم إلى الرباط حيث اتصلت بالفقيه غازي وأخبرته بما يقع لنا من اضطهاد وتنكيل ، فأشار علي بالاعتصام بالمشور ، فرتبت مع الفقيه البصري وبوشعيب الدكالي أمر التحاق الطلبة بالرباط على دفعات ، حتى أصبحنا مائة طالب ، وبعد أيام من اعتصامنا ، طلبني المغفورله محمد الخامس فرويت له ما يصيبنا من أذى على يد الكلاوي وزبانيته الذين أغلقوا بيوتنا وحجزوا أمتعتنا . فكلف كاتبه الخاص بالاعتناء بنا والسعي لحل مشكلنا ، فعدنا بعد ذلك إلى مراكش واستأنفنا دراستنا . * هل توقف العمل الوطني نتيجة ذلك ؟ لا ، بل استمر وتجذر واتسع ، وكنت عضوا بالمكتب الاحتياطي لحزب الاستقلال بمراكش ، وكان بالمكتب الأصلي عبد القادر حسن والمنجرة أحمد والصديق الغراس ، واعتقلنا مرة أخرى وأحالونا على إبراهيم ابن الكلاوي وجلدونا بتهمة " التشويش " على درس لأحد الخونة ، ونقلونا إلى مراقب الاستعلامات وقرروا منع أبناء مراكش من الالتحاق بمعهد ابن يوسف ، بينما فرضوا على غير أبناء مراكش مغادرة المدينة . فالتحقت بالدارالبيضاء ، واتصلت بالبشير بلعباس ، وقبل ذلك تمكنت من توديع الفقيه البصري ، على عجل ، ثم انتقلت في يناير 1952 إلى فاس لمتابعة الدراسة بالقرويين حيث انخرطت في عمل الحزب بفاس في إطار مكتب فاس الجديد . وفي تلك الفترة جرى تتويج ملكة بريطانيا إليزابيت ، فأرسل إليها الباشا الكلاوي تاجا بالمناسبة ، فنظمنا حملة للبرقيات الاحتجاجية ، نستنكر فيها قبول هدية الكلاوي . * بعد مرحلة فاس الثانية ، أين كانت وجهتك ؟ التحقت بالدارالبيضاء عندما علمت أن عددا من رفاقي قد حطوا الرحال هناك ، وأصبح عملنا مركزا على تنظيم " الرد المناسب " على نفي محمد الخامس . وعدت إلى فاس بالصفارين حيث في نفس اللحظة كان أفراد البوليس يغادرون بيتي إذ جاءوا لاعتقالي ولم ينتبهوا إلى أنني كنت أقرب من البيت عندما كانوا يبتعدون عنه . وكانت عودتي إلى فاس بسبب أنني كلفت في الدارالبيضاء بتكوين خلايا مسلحة لتنظيم المقاومة ، فاضطررت إلى العودة مجددا إلى الدارالبيضاء لأن البحث كان جاريا عني بفاس ، ودخلت مرحلة السرية . كان لنا متجر لبيع المواد الغذائية أنا وشقيقي بزنقة بوراي ، واطلقنا عليها اسم ( Epicier des amis ) ، وأقمت بهذا المجر ، وأخفيت الأسلحة هناك ، وأذكر أنه ما بين فاسوالدارالبيضاء ، صعد البوليس إلى الحافلة التي كانت تنقلني مع المسافرين العاديين ، وطلبوا بطائق الناس ثم أعادوها إليهم دون أن ينتبهوا إلى وجودي وهم كانوا يبحثون عني . وكانت حقيقة معجزة . في الدارالبيضاء كان الفدائيون الشباب يتعمدون الإقامة بالأحياء التي تقطن بها البغايا وذلك حتى لا يشتبه المستعمر في أمرهم ، وفي إحدى المرات قصدت بيتا كان يسكنه عبد السلام الجبلي والفقيه البصري وشباب آخرون منتمون للمقاومة ، طرقت الباب فخرجت من الدار المجاورة امرأة سألتها عن ( الدراري ) فقالت : أدخل بعد قليل سيكونون هنا ، فهمت مباشرة حقيقة الأمر ، فانسحبت بسرعة ، وبعد دقائق من ذلك ، كانت قوافل البوليس الفرنسي تتجه إلى المكان من كل الجهات . وهنا مرة أخرى نجوت من الاعتقال . * هل استمرت إقامتك بالمتجر بعد ذلك ؟ نعم ، كنت أقوم بمهام الاتصال والتنسيق والتخطيط للعمليات الفدائية ثم أعود إلى المتجر ، وأحيانا أبيع للزبناء ، وكنا نبيع الخمر للفرنسيين ، فأستغل الفرصة ، وأصب للضباط ومسؤولي الشرطة الاستعمارية الخمرة ، وأتمكن من التقاط معلومات ثمينة كنت أمد بها شبكة المقاومة ، بل إننا كنا نخفي في المتجر بعض المقاومين ممن تبحث الشرطة عنهم ، بعد ذلك اعتقل بعض أفراد الشبكة ، واستشهد الزرقطوني ، وكان قد تناول قرصا من السم ، وقررنا أن نغتال الدكتور ايرو للانتقام لرفيقنا ، وكانت قد وضعت قنابل في السوق المركزي ومركز الطرود البريدية بالدارالبيضاء ومركز البريد بالرباط في يناير 1954 . * من المعروف أن السلطات الاستعمارية ألقت عليك القبض ؟ فكيف تم ذلك ؟ أمضيت فترة من الزمن بالمنطقة الشمالية ، لكنني عدت من جديد إلى المنطقة الجنوبية لأواصل نشاطي الفدائي إلى أن اعتقلت . في منطقة الشمال ، اتصلت بزياد وحسن الأعرج والمكناسي والسكوري وسعيد بونعيلات والحسين برادة ، واتفقنا على برنامج تسريب الأسلحة إلى المنطقة الجنوبية ، وربطنا الاتصال لهذه الغاية مع كل من خير أحمد وبلحاج بوبو وملال . كان المصريون سيسلموننا السلاح لكنهم اشترطوا أن يتسلمه منهم ضابط عسكري ، لأنهم لا يمكن أن يسلموا السلاح لأشخاص لا يثقون في قدراتهم وكفاءتهم في التعامل مع الأسلحة ، فكلفت بالاتصال بأحد العسكريين ، فاصطحبت معي سعيد المانوزي وكلفته بمقابلته لوحده ، فاقترح الضابط أن ينشر إعلان في الجريدة على أن هناك قطعة أرضية معروضة للبيع ، حتى يتسنى له أن يتقدم إلينا بوصفه راغبا في الشراء . وجدنا اقتراحه غريبا ، عدنا إلى عباس المسعدي ، واتفقنا على التخلي عن فكرة " العمل " مع هذا الضابط ، وأخبرنا رفاقنا في منطقة الشمال ، إذ في هذه الفترة ( يناير 1955 ) كنت قد عدت إلى المنطقة الجنوبية . وسعنا شبكة الاتصالات ، وجندنا فدائيين جدد ، وكلفنا عبد الله إبراهيم بتمثيل الحركة في الخارج إلا أنه كان منشغلا مع المحجوب بن الصديق في تكوين النقابة بين يناير ومارس 1955 ، أرسل إلي بعد أصدقائي رجلا ومعه شخص من جنسية إسبانية وزودتهما بثمن شراء شاحنة لتهريب الأسلحة ، على أساس أن تحمل ظاهريا بعض الخضر ، لكن هذا الرجل كان قد اتفق مع الفرنسيين على ذلك . عندما لم يظهر أثر للشاحنة كما كان مقررا ، اتصلت هاتفيا بالشخص الإسباني لاستفساره ، وكانت التعليمات هي مماطلة كل من يطلب رقم الاسباني لتسهيل اعتقاله ، وفعلا بمجرد إنهاء المكالمة ومغادرة مركز البريد وقع اعتقالي ، وفي تلك الفترة الماضية بالضبط كنا قد برمجنا اغتيال بونيفاس رئيس ناحية الدارالبيضاء ، وكنا لهذه الغاية قد تمكننا من الحصول على بندقية رشاشة وحافظنا عليها ، ولم نستعملها حتى نتمكن بها من تصفية بونيفاس . صاحبة الجلالة : أسبوعية النشرة العدد : 15 / 20 فبراير 1994 [email protected] mailto:[email protected]