أعزائي القراء الأفاضل نواصل معا ملامسة بعض جوانب الحياة العلمية والثقافية عند دولة المرابطين التي خدمت العلم والعلوم بكل ما أوتيت من قوة كما سبقت الإشارة إلى ذلك في العدد السابق، حيث ذكرنا أن هذه الدولة لم تكن متحجرة في الفكر، ولا متعصبة للفقه والفقهاء كما تصفها يعض المصادر والمراجع، وإنما حظي الفقه والفقهاء بالحظوة عندهم لكون الخلفاء المرابطين كانوا فقهاء، ومؤسس دولتهم الروحي عبد الله بن ياسين الجزولي فقيها درس بقرطبة، وبالمغرب على يد الفقيه الشهير وَجَّاج بن زَلوُّ اللَّمطِي السوسي(445ه) وهو من أهل سوس الأقصى، رحل إلى القيروان فأخذ العلم عن أبي عمران الفاسي المتوفى سنة (430ه)، ثم عاد إلى منطقة سوس[1]، وفي هذا العدد سنحاول تسليط مزيدا من الضوء على اهتمام هذه الدولة العظيمة بالجانب العلمي والثقافي، وأهم ما يميز هذه الحقبة التاريخية من الناحية العلمية هو انتشار المذهب المالكي في ربوع المغرب. انتشار المذهب المالكي في عهد المرابطين ساهمت الدولة المرابطية في تثبيت أقدام المذهب المالكي بالمغرب والأندلس عن طريق دعمها الرسمي له حيث كان هذا المذهب يتناسب وبساطة المرابطين الصحراوية الذين كانت لهم نظرة احترام وتقدير لعلماء أهل المدينةالمنورة باعتبارهم رمز الإسلام، وورثة فقه الصحابة والتابعين، والمدينةالمنورة يومئذ دار علم وفقه، فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة وإمامهم مالك بن أنس المتوفى سنة (179ه) رحمة الله عليه، وشيوخه من قبله وتلاميذه من بعده حيث رجعوا إليه وقلدوه دون غيره من الأئمة المعروفين، وقُدِّر لهذا المذهب أن يستمر ببلاد المغرب إذ كانت تدعمه الدولة بكل قواها؛ فاستطاعت إقراره بالمغرب كله والقضاء على منافسة غيره من المذاهب التي كانت سائدة. إن اعتراف المرابطين بالمذهب المالكي كمذهب رسمي لدولتهم أتاح له الانتشار ببلاد المغرب والأندلس، كما مهد لبروز فقهاء خدموا هذا المذهب وأثروه بمؤلفاتهم واشتغلوا بأمهاته تعلما وتعليما، وأثبتوا جدارتهم في خدمة الفقه والفقه المالكي على الخصوص، فأصبحت دراساتهم لها شأوا كبيرا وباعا طويلا بالبلاد. ولقد صادف ظهور الدولة المرابطية عصر بزوغ نجم الفقهاء كالفقيه الضليع أبي عمران الفاسي (430ه)، والفقيه المتمكن وجَّاج بن زَلُّو اللَّمطي (445ه)، والفقيه عبد الله بن ياسين الجَزولي المتوفى سنة (451ه) مؤسس دولة المرابطين، والقاضي عياض السبتي -مفخرة المغرب- المتوفى سنة (544ه)، الذي جمع بين الدراسة الشرقية والدراسة الأندلسية، مما سيسهم في نشر المذهب المالكي ومن ثم الفقه المالكي وأصوله، كما أن يوسف بن تاشفين اللمتوني المتوفى سنة (500ه) كان مالكي المذهب فدافع عنه وهيأ له أسباب الانتشار والذيوع في ربوع مملكته الشاسعة، دون النقص من أهمية العلوم الأخرى التي كانت سائدة في ذلك العصر، فعاد للمذهب المالكي شبابه حسب تعبير بعض الفقهاء المعاصرين[2]؛ ويمكن القول أن أهم ما ميز المسار الفكري في العهد المرابطي هو المسار الفقهي الذي تزعمه الفقهاء المالكية الذين اتخذوا شعارا لهم التمسك والتقيد بالمذهب والذود عنه في كل لحظة وحين، والبحث والتعمق في فروعه، مما ساعد على انتشار المذهب المالكي بالغرب الإسلامي بسرعة فائقة، وأدى إلى اشتغال العلماء بأمهاته تعلما وتعليما، وضبطها رواية وحفظا، وإتقانها دراية وفقها، كما تداولوا كتب الفروع تأليفا وتنقيحا وشرحا. وجدير بالإشارة أيها القراء الكرام أن رسوخ المذهب المالكي بالغرب الإسلامي لم يكن مجرد حمل لأمهات مصادره رواية ودراية، بل كان حرصا من العلماء المغاربة على خدمة هذا المذهب، وإثرائه والتصنيف في فقهه ورجاله، فبرز منهم علماء ما زالت مصنفاتهم التي أثروا بها مكتبة الفقه المالكي تشهد على ما قدموه من خدمة للمذهب، ومساهمة في انتشاره وذيوعه بالمغرب حيث أفردوا بالتصنيف كتبا لا يحصرها عدد في "فقه العبادات" و "المعاملات" و"المواريث" وقننوا تشريع القضاء، واعتنوا بعلم "التوثيق الشرعي" وأحكامه، ووضعوا الشروح والتعاليق المبسوطة والمختصرة على "الموطأ" و "المدونة"، كما اشتهروا بالتصنيف فيما يعرف "بالنوازل" لمواجهة المستجدات التي تفرضها طبيعة الواقع المعيش، واجتهدوا ما سمح لهم عقلهم الراجح في استنباط الأحكام الفقهية التي تستجيب للواقع ومقتضيات البيئة على قواعد المذهب، وينظر فيها إلى المصلحة العامة التي تحث عليها الشريعة الإسلامية. إن الفضل في هذا كله يرجع للجهود الجبارة التي بذلها المرابطون الأشاوس في إقرار المذهب المالكي بالمغرب كله شرقا وغربا، وترسيخ قدمه في هذه البلاد إلى الآن حيث لم تؤثر فيه تلك الفترات العصيبة التي كان يمر بها منذ أن أدخله إلى مدينة فاس المحدث الفقيه دراس بن اسماعيل الجراوي المتوفى سنة (357ه) عن طريق كتاب "المدونة الكبرى"، فاختفى بذلك المذهب الحنفي الذي ظهر بفاس قبل ذلك كما ذكر القاضي عياض السبتي رحمه الله[3]، ولقد استطاع المذهب المالكي على المدى الطويل أن يسد الثغرات ويلبي حاجيات الناس في مختلف الأزمان والأوضاع والمستجدات والنوازل التي كانت تفرضها البيئات المختلفة مراعيا في ذلك قاعدة "المصلحة العامة" التي تعتبر من أهم وأجل قواعده. مكانة الفقهاء داخل الدولة المرابطية لم يكن اهتمام خلفاء الدولة المرابطية بالفقهاء اعتباطا إنما كان ذلك نابع من كونهم هم فقهاء تربوا على أيدي فقهاء كبار –كما سبقت الإشارة- كان هدفهم الرئيسي خدمة المذهب المالكي والحفاظ عليه، ومما سهل مهمة المرابطين هو ذلك الجهاز الفقهي القوي الذي وجدوه عند استيلائهم على الحكم والذي كان خير معين لهم على تثبيت أقدامهم سواء داخل المغرب، أو عند فتح الأندلس بعد خروجهم من رباطهم بالصحراء المغربية وتوجههم نحو مدينة "أغمات"، بل إن بعض الفقهاء سارعوا إلى لقائهم وهم في طريقهم إلى المغرب أمثال الفقيه عيسى بن الملجوم، والفقيه عبد الله بن عمر اللواتي السبتي الذي رحل إلى "أغمات" ورجع مبشرا بهم في مدينة "سبتة"، والفقيه عبد الله بن شبونة السبتي الذي استقر "بأغمات" وأصبح المعول عليه في الفتوى يومئذ وغيرهم كثير لا يمكن حصره في عدد معين.. ولكن يمكن الرجوع إلى كتب الطبقات والتراجم التي ترجمت للعديد من فقهاء وفقيهات هذا العصر الذهبي في تاريخ المغرب والأندلس على السواء. إن تمتع الفقهاء بمكانة سامية في المجتمع الأندلسي المغربي زمن المرابطين يمكن أن يعود إلى دورهم الكبير وجهودهم المستمرة والفعالة في قيام دولة المرابطين، وإلى التعاليم الراسخة التي وضعها الفقيه عبد الله بن ياسين المؤسس الروحي للدولة المرابطية، ومن ثم كان طبيعيا أن يتمتع فقهاء المالكية بمنزلة كبيرة ومتميزة في عهد يوسف بن تاشفين (452-500ه) وعهد ولده علي بن يوسف (500-537ه) بالخصوص؛ دون أن نغفل أن الفقهاء كانوا يتمتعون بحظوة ومركز كبير في الأندلس في عصري الإمارة والخلافة الأموية حيث كانوا أعمدة الدولة وموضع الشورى عند الخلفاء والأمراء فيما يهمهم من أمور الدنيا والدين، وكان فقهاء المالكية الفطاحل أمثال الفقيه الشهير راوي "موطأ مالك" يحيى بن يحيى الليثي المصمودي الطنجي المتوفى سنة (234ه)، والفقيه المحدث بقي بن مخلد المتوفى سنة (276ه)، والفقيه الضليع أصبغ بن الفرج المتوفى سنة (225ه)، والقاضي منذر بن سعيد البلوطي المتوفى سنة (355ه)... يحتلون مكانا يمكن تشبيهه بما يسمى بالمصطلح المعاصر "مستشارا عاما للدولة" حيث كان كل منهم يترأس هيئة استشارية فقهية التوجه والتكوين، هيئة فقهاء مبرزين يسمون "بالفُقَهاء المُشَاوَرِينَ"، الذين كان القضاة يستشيرونهم في المشاكل العويصة التي كانت تعترض طريقهم أو تستعصي عليهم، وفي النوازل التي كانت تنزل بالمجتمع آنذاك، لذلك نجد في تراجم هؤلاء الفقهاء عبارة "ولقد شُووِرَ"؛ ونظرا لهذه المكانة العالية التي وصل إليها الفقهاء في هذا العهد، فقد استفتاهم القائد الباسل يوسف بن تاشفين قبل أن يهم بمساعدة مسلمي الأندلس ضد النصارى بعد استنجاد المعتمد بن عباد رحمه الله به، فرجع إلى رأيهم بوجوب حرب النصارى واستئصال شوكتهم ودفع ضررهم عن المسلمين، كما أملوا عليه الرسالة التي وجهها إلى ملك النصارى بالأندلس ألفونسو السادس. لقد كان رجوع يوسف بن تاشفين رحمة الله عليه –رغم رجَاحَة عقله وحَصافَة رأيه وحِنكته ودُربَته السياسية- إلى الفقهاء عن اقتناع تام برأيهم السديد الذي سينوِّر له الطريق ويطمئن قلبه ويشد أزره، لذلك كان لا يخطو خطوة حتى يستفتيهم في أمور الدين والدنيا على السواء بحكم ميوله الفقهية، وكان التجاوب متبادلا بين يوسف بن تاشفين وبين فقهاء الأندلس حيث أفتوا بخلع ملوك الطوائف وطلبوا منه القدوم إلى بلدهم لاستخلاصهم من براثين هؤلاء الملوك. انصرف المرابطون إلى تشجيع الفقهاء حملة لواء المذهب المالكي من أجل توطين أقدامهم داخل المغرب وبالأندلس، فكان عصر علي بن يوسف مثل عصر والده حيث سار على نهج أبيه في تشجيع العلم والعلماء وإكبار الفقهاء وإجلالهم، ويصفه عبد الواحد المراكشي المتوفى سنة (669ه) بكونه ".. كان حسن السيرة جيد الطويلة بعيدا عن الظلم.. اشتد إيثاره لأهل الفقه والدين، وكان لا يقطع أمرا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، فكان إذا ولى أحدا من قضاته كان فيما يعهد إليه ألا يقطع أمرا، ولا يبث حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغا عظيما لم يبلغوا مثله في الصدر الأمر من الأندلس"[4]؛ وكان يرجع إليهم حتى في إنشاء الإصلاحات والمنجزات التي كان يعزم القيام بها كاستفتائه لهم مثلا حول تسوير مدينة مراكش سنة (519ه)، ولقد اشترك القاضي ابن رشد الجد الأندلسي القرطبي (520ه/1126م) في مجلس علي بن يوسف وأفتى بصحة فتوى الفقهاء المغاربة، والقاضي ابن رشد الجد يعتبر من الفقهاء المبرزين الذين خدموا الدولة المرابطية وأثروا الحركة العلمية عندها بالعديد من الفتاوى التي تضمنتها مؤلفاته القيمة التي –ولله الحمد والشكر- تم تحقيقها وطبعها والاستفادة منها؛ وحضوره كان متميزا على عدة مستويات في المجتمعين المغربي والأندلسي في العصر المرابطي، إذ يمثل مرحلة مهمة في تطور المذهب المالكي بمنطقة الغرب الإسلامي وتثبيت أسسه النظرية والتطبيقية[5]. وكنموذج على الفتاوى الفقهية التي تذكرها المصادر التاريخية والتي ساهمت في تسيير دولة المرابطين فتوى القاضي ابن رشد الجد على الأمير علي بن يوسف بإبعاد النصارى المعاهدين بغرناطة إلى المغرب لغدرهم بالمسلمين، فتم ترحيلهم إلى المغرب وبالضبط إلى مدينتي مكناسة وسلا[6]، إن مثل هذه الفتاوى الأندلسية تظهر مدى انصهار الفكر المغربي الأندلسي في عهد المرابطين وعدم الاكتفاء برأي الفقهاء المغاربة في تسيير شؤون الدولة، وهو دليل واضح على اعتبار المرابطين الأندلس جزء لا يتجزأ من الأرض المغربية؛ وجدير بالذكر أن اهتمام الغرب الإسلامي بجمع الفتاوى والاعتماد عليها كان منذ العصور الأولى لنشر المذهب المالكي[7] حيث تم على يد الفقهاء الأوائل كبقي بن مخلد القرطبي المتوفى سنة (276ه) الذي صنف في فتاوى الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والفقيه اللوذعي محمد بن أبي زمنين المري القرطبي المتوفى سنة (399ه)، له تصانيف منها "المقرب" و"المنتخب" تناقل فتاويه أهل الفتوى من المغرب، والفقيه الضليع عمر بن يوسف بن عبد البر القرطبي المتوفى سنة (463ه) الذي ألف كتاب "الكافي في الفقه"، وهو كتاب جامع لما يحتاج إليه المفتي على مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى، وكتاب "أجوبة القرطبيين " و "النوازل القضائية" للقاضي عياض المتوفى سنة (544ه). وغيرهم كثير يمكن الوقوف عليهم في كتب التراجم المغربية والأندلسية المطبوعة ولله الحمد. ما يمكن أن يستشف أيها القراء الكرام هو أن الفقهاء في عهد المرابطين امتازوا بصلاحيات كثيرة، وبلغ نفوذهم الذروة حيث كانت لهم اليد الطولى في هذا العهد من التاريخ الإسلامي، لكن هذا لا يُفهم بكون باقي العلوم كانت معطلة ومجمدة بل كانت مزدهرة، ومتنوعة حيث عاش تحت ظل هذه الدولة العظيمة أدباء، وشعراء وفنانون، وأطباء، ومهندسون لا يمكن حصرهم وفدوا على مدينة مراكش عاصمة الدولة المرابطية، أمثال الشاعر الشهير ابن خفاجة، والكاتب ابن عبدون، والطبيب الذائع الصيت أبو العلاء بن زهر، الذين كانوا يعتبرون من نوابغ الفكر الأندلسي آنذاك[8]، وغيرهم كثير ممن يمكن الوقوف على تراجمهم مفصلة وأسماء مصنفاتهم التي أبدعوا فيها بقلمهم السيال الذي كانوا يمتازون به في كتب التراجم والطبقات التي ترجمت لهذه الحقبة الذهبية، مما يظهر مكانة العلم والعلماء عند الدولة المرابطية واحترام ولاة الأمور لحاملي العلم بصفة عامة، فرحم الله تعالى هؤلاء العلماء الأفذاذ الذين قدموا الكثير لبلادنا الأبية، وجزى الله خيرا الدولة المرابطية على كل مجهوداتها في سبيل ترسيخ الحضارة المغربية الأندلسية بعلومها وفنونها وعماراتها، وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.. ------------ 1. انظر: يوسف التادلي، التشوف إلى رجال التصوف، تحقيق أدولف فورفي، الرباط: 1958م. 2. انظر:محمد الحجوي.الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي.تخريج وتعليق عبد العزيز بن عبد الفتاح القارىء. 2/164-165.ط:1 المكتبة العلمية.المدينةالمنورة:1977م. 3. انظر: القاضي عياض السبتي، ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، تحقيق مجموعة من الأساتذة، 1/65، طبعة وزارة الأوقاف المغربية، الرباط:1981م. 4. عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق محمد العريان ومحمد العلمي، ص: 170-171، ط: 7، البيضاء: 1978م. 5. انظر:Aimée Launois. Influences des docteurs Malikites sur le monnayage ziride de type Sunnite et sur celui des Almoravides. Arabica.tome:11.pp:148-149.1964. 6. انظر: مؤلف مجهول، الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، تحقيق سهيل زكار وعبد القادر زمامة، ص:86.ط:1، دار الرشاد الحديثة، البيضاء: 1979م. 7. انظر: EL Dericho Maliki en AL andalus.edition.1991..Isabel Fiero . Rebista AL Quantara 8. انظر: ابن بسام الشنتريني، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت:1980م.