هذه الحكمة عبارة عن إشراقة إيمانية، تصوغ مفردات إيمان المرء صياغة متجدّدة تضع كل مفردة في نصابها، فلا عوج ولا أمت، فإذا الذين سبقت لهم الحسنى مبصرون. وهذه الحكمة من الحكم الداخلة في السهل الممتنع، إذ إن الاستماع إليها يوحي إلى السامع أنها نابعة من داخله بسبب أنها تعتمد المنهجية الآياتية البرهانية التي تشير إلى الآيات، وتواكب الإنسان ليبصرها، بيد أن النطق بها يقتضي إبصارا فتحيا، يجعل القائل بمثابة من يصف ما يرى، ولا يستظهر ما يحفظ، وهذا هو لب الفرق بين الّدال والمدلول، فالدال يرى المدلول عليه ابتداءً، ثم يدلّ عليه المدلول، فإذا هو إن سبقت له الحسنى مبصر... وهذه الحكمة المباركة جاءت في مقدمة ونتيجتين استدلاليتين: • أما المقدمة فهي قول الشيخ بن عطاء الله رحمه الله: "إنما جعل الدار الآخرة محلا لجزاء عباده المومنين"، وهي مقدمة مستجمعة لكل الشروط المطلوبة في المقدمة؛ وهي الوضوح والبرهانية والثبات، فمن حيث وضوحها فلا أوضح، ومن حيث البرهانية، فاللفيف من الأدلة المتضافرة من كتاب الله، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن دلالات صريح المعقول، تؤدي إلى التسليم بها من لدن كل ذي قلب، أو من ألقى السمع وهو شهيد، ومن حيث ثباتها، فلا أكثر تثبيتا من تواتر المومنين على التسليم بها عبر تاريخ النبوات. وهي مقدمة تؤصل للإيمان بالمعاد، وهو إيمان يتيسر معه القيام بالمصالح التي لا تتحقق إلا على المدى الطويل، وهي مصالح لولا الإيمان بالجزاء الأخروي لتعطلت في دنيا الناس. يحسن التنبيه هنا إلى أن قول الشيخ ابن عطاء الله "إنما جعل الدار الآخرة" دون أن يسمي الجاعل الذي هو الله جل وعلا، دليل على رسوخ إيمانه رحمه الله، إيمان قد بلغ درجة التجلي الذي لا يُحتاج معه إلى تسمية المتجلي سبحانه وتعالى. • وأما النتيجة الاستدلالية الأولى فهي قوله: "لأن هذه الدار لا تسع ما يريد أن يعطيهم"، وهي نتيجة استدلالية مستخلَصة من استقراء الشيخ ابن عطاء الله رحمة الله لكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكذا مندهقة من طول المجاهدة لجِلاء القلب وتأهيله للإبصار، من خلال التقرب بالنوافل والأذكار، آناء الليل والنهار. فالدنيا لكونها فانية فناء يستوعب فناء المخلوق الأسرع فناء، لا تسع لكل العطاء الذي أعدّه الله لعباده المحسنين؛ وفي هذا إشارة لوذعية إلى عدم استقامة صنع من يقف عمرَه لتأثيل ما لن يفيد منه، إلا إذا "أُلهم إهلاكه في الحق"[1] كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. • وأما النتيجة الاستدلالية الثانية، فهي قوله رحمه الله: "ولأنه أجلّ أقدارهم عن أن يجازيهم في دار لا بقاء لها".. وهو قول لا شك نوراني.. في غاية العمق؛ لأنه يروم إحداث نقلة تمثُّلية بعيدة المدى مفادها: أن ادخار الأجر والتنعيم إلى الآخرة محض تكريم من لدن الله عز وجل لعباده المؤمنين، وليس دون ذلك، وهذا إدراك عزيز، لا يتأتى في الأغلب إلا بعد انكشاف الغطاء "لقد كنت في غفلة عن هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" [سورة ق، الآية: 22]، ولذلك كان من وظائف الواقعة الخفض لتمثلاتٍ وأصحابها، والرفع لأخرى وأصحابها، بإزاء الخفض والرفع الماديين لمكونات الكون المشهود. وهو قوله تعالى: "إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة" [سورة الواقعة، الآية: 1-3]. والله الهادي إلى سواء السبيل. ---------- 1. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لاََ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ فَقَالَ لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلاَنٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهْوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ فَقَالَ رَجُلٌ لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلاَنٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ. [أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب اغتباط صاحب القرآن، رقم(5026)]. الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء