إصلاح الخطاب الإسلامي على المستوى الاجتماعي يرتبط التغيير الاجتماعي عند مالك بن نبي ارتباطا جدليا بالتغيير النفسي. وهذا بين مادام بن نبي يعتبر أن المجتمع الأمة ينشأ في نفسية المسلم (المجتمع كإمكان) قبل أن يتجسد في الواقع. يقول بن نبي: ويجب أن نلاحظ مباشرة تأثير الانعكاس في الحياة الاجتماعية، إذ نجد هذا التأثير يتطور، مع عمر المجتمع. فإذا وجدنا أبا ذر يسيء إلى بلال في لحظة من لحظات السأم كان ذلك أمارة على أن المجتمع الإسلامي لم يزل جنينيا في نفسية المسلم، ويضيف: وعليه فالفرد يكتسب مجموعة انعكاساته، كما يكتسب المجتمع شبكة علاقاته، والعلاقة وثيقة بين جانبي المسألة: فهي علاقة كونية تاريخية، إذ أن المجتمع يخلق الانعكاس الفردي، والانعكاس الفردي يقود تطوره ويمكن بفضل هذا التبادل أن نتخذ من المرض الاجتماعي دليلا على الفساد في شبكة العلاقات، أو أمارة على التحلل في نظام الأفعال المنعكسة(1) إن ذلك يعني: أنه بالقدر الذي يستطيع فيه الفرد السيطرة على غرائزه وإخضاعها لعملية شرطية كما يقول مالك بن نبي، تتوطد شبكة العلاقات الاجتماعية، وبالقدر الذي يحدث فيه العكس ترتخي هذه الشبكة من العلاقات ويقترب المجتمع من حالته البدائية. على المستوى الاجتماعي إذن، فالمرحلة الذهبية بالنسبة لأي مجتمع هي المرحلة الروحية. إنها تمثل الطور الأول من أطوار حضارة معينة وتتزامن مع سيطرة الروح على الغرائز واكتمال شبكة الروابط الاجتماعية لفعل الفكرة الدينية. ولا يفيد هذا الاكتمال ضرورة اتساعا أفقيا أو تراكما كميا في هذه العلاقات، بل الاكتمال يفيد أن تكون تلك العلاقات في أكثف حالاتها، إنها تمثل فقط أقصى حالات الترويض للغريزة، وأقصى حالات الفاعلية الاجتماعية، وأتم حالات التنظيم في الطاقة الحيوية(2)، إن جميع قوى المجتمع تكون في حركة دائمة صاعدة وكل اتجاه فيها إلى السكون يكون مدانا كما حدث في المجتمع الإسلامي بالمدينة مع الثلاثة الذين خلفوا(3). أما المرحلة التالية فهي مرحلة الاتساع الأفقي والتراكم الكمي في الحضارة. إنها مرحلة العقل التي تتزامن مع خلل جزئي في نظام الأفعال المنعكسة في المجتمع الإسلامي حيث لا يصبح الفرد متصرفا في كل طاقته الحيوية وهو يباشر وظيفته الاجتماعية. إن جانبا من غرائزه لم يعد تحت رقابة نظام أفعاله المنعكسة. ولكن المجتمع يواصل نموه بفضل سرعته المكتسبة من طاقة الدفع الأولى، اللهم ما كان من بعض قوى المجتمع التي تصبح ساكنة أو من بعضها الآخر الذي يبدأ في العمل في الاتجاه المضاد للمثل الأعلى للمجتمع(4). وهنا نلاحظ أن مالك بن نبي يتحدث عن بعض القوى المعطلة كما يؤكد أن جانبا مقدرا من المجتمع أو أفراده لا يصير متحكما كليا في غرائزه وأن هذا يحدث مبكرا في المجتمع مع بداية الروح . والواقع أن بعض المظاهر الجنينية تحدث في مرحلة الروح نفسها إلا أن أثرها يكون باهتا بفعل قوة الدفع الروحية التي تنشا بقوة الفكرة الدينية الغضة الطرية في النفوس ، خاصة وأن مستويات تفاعل الناس معها تختلف بين السابقين والذين جاؤوا من بعدهم وبين من نشأ في الجاهلية ثم عرف الإسلام ، ومن نشا في الإسلام ولم يعرف الجاهلية أما المرحلة الثالثة فتمثل اختلال نظام الطاقة الحيوية، وذلك حينما يفقد نظام الأفعال المنعكسة رقابته على الغرائز. إن الغرائز في هذه الحالة تتحرر وتتفسخ شبكة العلاقات الاجتماعية نهائيا، وهو ما يناسب دخول المجتمع إلى عصور الانحطاط ونشأة القابلية للاستعمار، ثم الاستعمار بعد ذلك. في إصلاح الخطاب الإسلامي لا يقوم الإصلاح إلا برجال صالحين مصلحين ، ولا رجال صالحين إلا بإرادة حازمة للإصلاح ، وهي الإرادة التي عبر عنها شعيب عليه السلام بالتأكيد على أنه هو أول من بادر إلى الالتزام بما كان يدعو إليه قومه كما ورد في قوله تعالى : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله وهو أمر وجب أن يهتم به الدعاة والمصلحون فلا يكون خطابهم أو سلوكهم صادا عن سبيل الله ، كما ينبغي لهم وهم الذين يتحدثون عن التغيير ألا يكون تغييرهم نحو الأسوأ أي أن يتحول إلى فساد و إفساد ، ألم يحذر القرآن الكريم من ناس يعجبك قولهم في الحياة الدنيا ويشهدون الله على ما في قلبهم وهم ألد الخصام ؟ وإذا كان القرآن قد عني في قضية الإصلاح بقضية استقامة القائم على الإصلاح ، فإنه عني كذلك بمنهج الدعوة وأمر أن يكون على بصيرة ، ومن عنايته بها عنايته بخطابها وخطاب القائمين عليها . قال تعالى في الإشارة إلى الأمرين : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدَّعون، نزلاً من غفور رحيم، ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقّاها إلاَّ الذين صبروا وما يلقَّاها إلاَّ ذو حظ عظيم، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) (5)، فبدأت الآية بالإشارة إلى استقامة القائم إلى العمل الدعوي في نفسه وثواب ذلك عند الله، ثم بينت فضل الدعوة إلى الله وأن الكلمة التي تقال في القيام بها هي من أشرف الكلمات، لكن مع التأكيد على ضرورة مصاحبة الدعوة بالقول واللسان بالاستقامة في السلوك ثم بالتزام ضوابط الخطاب الدعوي وآدابه ومعرفة شروطه وأنواعه والحكمة في تنزيل كل واحد من تلك الأنواع حيث ينبغي أن يتنزل زمانا ومكانا وأشخاصا حول مفهوم الخطاب لا يقصد بالخطاب فقط طريقة تبليغ فكرة وأسلوب عرضها، كما أنه لا يقتصر على امتلاك أدوات التواصل وفن الإقناع بل نعممه ليشمل منهج التفكير، وأسلوب معالجة كبرى القضايا المطروحة مراعاة في ذلك للمخاطبين باختلاف مستوياتهم ومداركهم وفئاتهم ومستوياتهم المعرفية ، ومراعاة المنطق السائد لديهم. .وليس من شك أن فن الإقناع وأسلوب التواصل يشكل جزءا لا يتجزأ من الخطاب، بل إنه ترجمة للمنطق الفكري الكامل الذي ينطلق منه من يصدر الخطاب. وقد أصبح من المقرر عند علماء اللغة المعاصرين العلاقة الوثيقة بين الفكر واللغة، بين المنطق واللسان. وكما أن اللسان ليس مفردات لغوية فحسب بل يعكس طريقة في التفكير، إذ كل لغة كما يقول علماء اللسانيات تتضمن رؤية للعالم وطريقة في تقطيع أشياء الواقع وبناء المفاهيم، فكذلك الخطاب لا يقف فقط عند طريقة إيصال فكرة ولا مجرد أداة تواصلية، بل هو منهج في التفكير ومقاربة كبرى قضايا مثل: النظرة إلى الآخر، ومسألة السلطة، وقضايا التعددية والديموقراطية، ومسألة المشاركة الاجتماعية والسياسية، ومسألة المرأة، والمسألة الثقافية ....وغيرها من القضايا . وضرورة مراعاة الخطاب الدعوي لما عليه هذه المجتمعات من أحوال، وتكييف خطاب الدعوة بحسب أوضاع المخاطبين مطلب قرآني، بل هو داخل في معنى الحكمة في قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)(6). ومن مراعاة أحوال المخاطبين تقريب الخطاب منطقا أو أداة للتواصل إلى عقول المخاطبين، وذلك حتى لا تكون في الخطاب ذاته عوائق تحول دون وصوله إلى مخاطبيه، إن في ذلك شرط في تحقيق صفة الإبانة في البلاغ الذي يقوم به الداعية: (وما على الرسول إلا البلاغ)، وتحقيقا لهذه الإبانة، أكد القرآن الكريم على أن يحرص الخطاب على تلمس المداخل الممكنة إلى عقل المخاطب، وليس غريبا أن يؤكد القرآن الكريم على عنصر اللسان باعتباره أحد العوائق الممكنة، ولهذا كان إرسال الرسل بألسنة أقوامهم: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم). ونحسب أن مراعاة لسان القوم في التبليغ لا تقف عند حقائق الدعوة ضمن قالب لغوي مفهوم، فاللسان كما أبرزنا سابقا ليس مفردات لغوية فحسب: إنه اصطلاح اجتماعي وطريقة في التفكير أيضا. إن كل لغة تتضمن قدرا من التواضع الاجتماعي في ربط الدوال (الكلمات والأصوات) بالمدلولات (المعاني القائمة في النفس، والتي تشير إلى أشياء في الواقع) ومن هنا اختلاف الألسن الذي اعتبره الله سبحانه وتعالى آية من آياته. فكل لغة تتضمن رؤية للعالم وطريقة في تقطيع أشياء الواقع والاصطلاح عليها وفي بناء المفاهيم، واختصارا، فإن كل لغة تتضمن منطقا متكاملا. و بناء على ذلك فإن خطاب الدعوة مطالب بمراعاة هذا الاختلاف في الاصطلاحات حتى لا يكون التعبير عائقا أمام تحقيق التواصل، أي مراعاة المنطق الفكري المتكامل الخاص بكل مجتمع وبكل لحظة تاريخية أو حضارية. لقد جاء في الحديث الصحيح: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة (7). إن هذا الحديث يشير إلى أن دعوات الأنبياء واحدة من حيث مضمونها، أي الدعوة إلى الإيمان بالله وتوحيده، غير أن كل واحدة منها قد وظفت المنطق السائد في عصرها، أي طرق الإقناع السائدة في العصر، فكل معجزة من معجزات الأنبياء قد أعلنت تحديها لخصومها في ما ظهر فيه تفوق القوم الذين جاءت لمخاطبتهم، لقد نازل موسى عليه السلام بمعجزة العصا التي تلقفت ما كان يافك السحرة حيث كان النزال في ميدان السحر هو طريقة الإقناع السائدة، أي المنطق الذي يلجأ إليه العصر في إثبات الحقائق، بينما كانت معجزة عيسى عليه السلام متمثلة في إبراء الأبرص والأكمه. أما معجزة الإسلام فكانت هي القرآن الكريم، وهي معجزة أعلنت تحديها للعرب في ما هم فيه متفوقون حينئذ في ميدانهم، أي البيان: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداؤكم من دون الله إن كنتم صادقين)(8) إلا أن المعجزة القرآنية لم تكن معجزة بيانية فحسب، فمظاهر الإعجاز في القرآن الكريم متعددة، إنها متجددة تتناسب، كما يقول محمد إقبال، مع بلوغ الإنسانية كمال رشدها، ولهذا جاءت معلنة اختتام النبوة. واليوم تبدو الحاجة أكيدة إلى أن يراعي خطاب الدعوة الإسلامية خصوصيات المرحلة الحضارية التي تجتازها أمتنا، ومنطق العصر ولغته، ولا تعني هذه المراعاة أن تغير هذه الدعوة طبيعتها، ولا أن تلغي بعضا من حقائق الإسلام كي تتطابق مع أهواء العصر، بقدر ما تعني ضرورة مخاطبة العصر وأهله بالأسلوب الذي يفهمونه، وأن يقدر هذا الخطاب ظروف أهله، بما يحقق براءة ذمة الدعاة ويحقق إجارتهم المأمونة من الله، كما في قوله تعالى: (قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا، إلا بلاغا من الله ورسالاته)(9). الهوامش: 1 ميلاد مجتمع ص 61 2 نفسه ص 70 3 نفسه ص 71 4 نفسه ص 71 5 سورة فصلت الآية 2935 6 سورة النحل 125 7 أخرجه البخاري في الجامع الصحيح 8 سورة البقرة 23 9 سورة الجن 22 الحلقات السابقة: معالم في التغيير الحضاري و منهج الإصلاح- الحلقة العاشرة معالم في التغيير الحضاري و منهج الإصلاح- الحلقة التاسعة معالم في التغيير الحضاري و منهج الإصلاح-الحلقة الثامنة معالم في التغيير الحضاري و منهج الإصلاح-الحلقة السابعة معالم في التغيير الحضاري و منهج الإصلاح-الحلقة السادسة معالم في التغيير الحضاري و منهج الإصلاح-الحلقة الخامسة معالم في التغيير الحضاري و منهج الإصلاح –الحلقة الرابعة معالم في التغيير الحضاري و منهج الإصلاح –الحلقة الثالثة معالم في التغيير الحضاري و منهج الإصلاح –الحلقة الثانية معالم في التغيير الحضاري و منهج الإصلاح –الحلقة الأولى