عبد العزيز برغوث، مفكر جزائري، وباحث مختص في دراسات العولمة والقضايا المتعلقة بالإنسان المسلم المعاصر، وفي الدراسات الحضارية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، لأزيد من 14 سنة.. التقته التجديد أثناء الندوة الدولية: مالك بن نبي: مفكرشاهد ومشروع متجدد التي أقيمت أخيرا بمدينة وجدة، واحتضنتها جمعية النبراس الثقافية، بمناسبة الذكرى المائوية لميلاد هذا المفكر. في هذا الحوار، يناقش الدكتور برغوث أفكار مالك بن نبي، وشروط النهضة وقضايا أخرى. إلى أي حد تشاطرالمفكر مالك بن نبي خصوصا في أفكاره الخاصة بشروط النهضة؟ فكرالأستاذ مالك بن نبي، فكر عميق، وفكرمؤسس على رؤية حضارية عميقة، ومؤسس على أسس سننية، أي أن فكر مالك بن نبي ومنهجه سنني يتعلم منه الإنسان الرؤية الحضارية، والنظرة المتكاملة المتوازنة إلى ظواهرالعمران، وظواهرالحضارة. وأنا أعتبر نفسي تلميذا صغيرا تتلمذ على فكرالأستاذ مالك بن نبي، في عمقه، وفي منهجيته، وفي مشروعيته. وفكرمالك بن نبي جاء في وقت لم تكن الأمة بعد مستعدة لالتقاطه واستقباله في ذلك الوقت. لكن نحن الآن، في ظرف وفي مرحلة تاريخية أصبح فيها فكرمالك بن نبي في اللحظة التاريخية المطلوبة. وهناك بعض الأفكار قد نختلف فيها مع المفكر مالك بن نبي، سواء تلك المتعلقة بمنهج دراسة الحضارة، أو المتعلقة بفهمه لسنن الحضارة. بالمقابل، هناك مجال واسع جدا أتبنى فيه فكرالأستاذ مالك بن نبي رحمه الله. من قبيل ماذا؟ مثل منهجه الحضاري، ويمكن أن أختصر لك منهج مالك بن نبي الحضاري في مسائل تتمثل في كون الوحي أوالقرآن الكريم هو أساس كل تحول في واقع الأمة الحضاري، وأن أي فعل حضاري أوفعل تغييري، أو فعل تجديدي ينبغي أن يخضع لرؤية حضارية، ولاستراتيجية حضارية، ولمنهج حضاري، ولفعل حضاري. ثم إني أتفق مع الأستاذ مالك بن نبي في أن مشكلة الأمة ليست مشكلة سياسية، أواقتصادية، أواجتماعية، أو أسرية، ولكنها مشكلة حضارية. وعندما نقول إنها مشكلة حضارية، فهي مشكلة الإنسان، ومشكلة الثقافة، ومشكلة الأفكار، ومشكلة المنهج. ونحن نتفق مع الأستاذ مالك بن نبي في أن نقطة الانطلاق تكمن في وعي الوحي، والإتجاه نحو تغييرالإنسان في عقله وشخصيته وثقافته، من أجل أن ننتج ذلك الإنسان الفاعل في التاريخ. انطلاقا من جوابك، هي يمكن أن نعتبرأن مالك بن نبي سبق عصره وأن أفكاره قابلة للتطبيق في وقتنا الحاضر؟ لا شك في أن كثيرا من أفكار مالك بن نبي سواء التي تحدث فيها عن مناهج تحليل مشكلات المسلمين، أو تكلم فيها عن مشكلة الاقتصاد، أوعن مفهومه للسياسة العادلة، أوعن مفهومه للأسرة الفاعلة، وللمنهج المطلوب لبناء الإنسان.. هذه الأفكار كلها الآن جاهزة، وإنما تحتاج إلى من يعيها، ومن يفهمها، ومن يحوّلها إلى أدوات، وإلى آليات يفَعِّلُ بها وعي الناس، ويفعل بها الطاقات التي تزخر بها الأمة. إذن، فالقضية الآن ليست في الفكر، أو في فكر الأستاذ مالك بن نبي، ولكن فينا نحن، وفي قدراتنا على استيعابه وتحويله إلى حلول عملية. بعد سقوط جدار برلين، وظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، وبعده العولمة، نجد ثلة ممن يعدّون أنفسهم حداثيين انغمسوا انغماسا شديدا في هذا الغرب، وانقلبوا 180 درجة من الدفاع عن الاشتراكية والفكر الاشتراكي، إلى الدفاع عن العولمة والليبرالية المتوحشتين. في رأيك، ما السرفي هذا الانقلاب في التوجهات والاختيارات، وعدم الثبات على المواقف، والقابلية للذوبان والقابلية للاستعمار، كما تحدث عنها مالك؟ فيما يتعلق بهذه النخب التي ذكرتها، فهي من جهة نخب يمكن أن تعتَبر ضحية لجهلها، ولعدم وعيها بحقيقة الإسلام، وبحقيقة منهجه، وبقدرة هذا المنهج على تقديم البديل الحضاري. وهم كذلك ضحية لكثير من المثقفين المسلمين الذين لم يتمكنوا بعد من الوصول إلى مستوى الحوار الحضاري والعلمي والموضوعي مع هؤلاء الناس من أجل بيان حقيقة هذا الإسلام الذي يحمل مشروعا حضاريا. وهناك عينات من هذه النخب حاقدة على الإسلام، وتعرف أن الإسلام هو الحل، وهو البديل، لكن بما أنها متنفذة وخاضعة لدوائر معينة، فهي تتعمد تحطيم الإسلام، فنقول لهذه النماذج من النخب: إنه لن يكون هناك حل إلا بالرجوع إلى هذا الدين. ويبقى أهم شيء في القضية، هو كيف تستطيع النخبة الإسلامية المتنورة التي تحمل الفكر والمنهج الحضاريين أن تُخرِج هؤلاء من هذا الجهل، بالتفكير الموضوعي، وبالحجّة والمحجة، وبالمنهج والدليل القرآني والعقلي. هل يمكن أن نعتبر أن الدعاوى القائلة بالقراءة والتفسير الحداثي للقرآن الكريم هي محاولة لتحطيم هذا الدين من الداخل؟ في الحقيقة هذا الأمر يعبر عن جهل فظيع بالقرآن وبمنهجه المعرفي، لأن هذه المحاولات التي يقوم بها هؤلاء تعبر في الحقيقة عن ضعف فظيع في الوعي، وفي الفكر وفي المعرفة. وتعبر من جهة أخرى على عدم قدرة هؤلاء على فهم الظاهرة القرآنية ذاتها، التي لا يمكن أن نفهمها وفق الأنساق الغربية، أو وفق المناهج التأويلية، أو الدراسات الهرمنطيقية التأويلية الغربية، فهم يطبقون مناهج قد تصلح لدراسة الظاهرة المسيحية، أو لدراسة الظاهرة الدينية في الغرب، ولكن يستحيل للمنهج الذي يطبقه أركون أن يوصله إلى فهم حقيقة القرآن، وإلى فهم المنهج المعرفي للقرآن، لأن المدرسة الأركونية، أو الذين يسيرون في هذه المدرسة مع احترامنا للعلم وللفكر ولاجتهاد هؤلاء قاصرة في مبادئها المعرفية، وفي أدواتها المنهجية. فالمدرسة التي توظف مفهوم التاريخانية على القرآن، كما توظفه على الظاهرة المسيحية، هي منهجية سقيمة، ومنهجية يستحيل لها أن تفهم القرآن، ونسقيته وبنائيته ومنهجه الذي يتجاوز كونيا ومعرفيا أي منهج على وجه الأرض، ويتجاوزه ليس فقط على المستوى الابستمولوجي والمنهجي، ولكن على مستوى تقديم التجربة الميدانية العملية. في هذا السياق، ظهرت دعاوى تنادي بتجديد الخطاب الديني ليتَسايَر وروح العصر، ومستجداته. من له الحق في الاجتهاد، وتجديد الخطاب الديني؟ في الحقيقة، كل من يريد أن يكون له حق في هذا الاجتهاد فله ذلك، وكل من يريد أن يجتهد له ذلك، ولا أستطيع أن أقول إن هذا الحق هو في يد الإسلاميين، أو في يد العلمانيين، أو في يد اليساريين، أو في يد القوميين أو غيرهم. ولكن من يمتلك المفتاح، هو من يدخل إلى هذا الخطاب الديني من طريقه الصحيح، ومن أثبت لنا أنه يمتلك القدرة المنهجية والمعرفية التي تستوعب طبائع هذا الخطاب الديني ومصادره المعرفية التي هي: الوحي والعقل، والكون والتاريخ، والواقع. إذا استطاع أي مفكر أن يطور رؤية منهجية تستوعب طبائع القرآنوخصائصه، وطبائع هذه الأمة وخصائصها، فليتقدم مشكورا لتجديد الخطاب الديني. ولكن، من لا يمتلك هذه الأدوات، فهو يحاول عبثا كما نلاحظه الآن في تجارب بعض العلمانيين واليساريين، وسيواصلون هذه المحاولات لمئات السنين. ولكن، أعود وأقول: على النخبة المتنورة من الإسلاميين، ومن المسلمين أن تدخل في حوار علمي منهجي مع هؤلاء الناس لبيان الحق، ولبيان المنهج الصحيح. هل تقرّ بقصور الخطاب الديني الإسلامي؟ نعم، في الخطاب الديني الإسلامي هناك بعض القصور، وكنا نتحدث عن هذا القصور قبل عشرين سنة، وخمسة عشر سنة، وعشر سنوات، ومبثوث في كثير من الأماكن. ولكن، وجود هذا القصور لا يعني الفشل التام لهذا الخطاب. فهذا الخطاب الديني الإسلامي رغم مشكلاته وأمراضه في بعض الأماكن والمناطق، إلا أنه أثبت أنه ما زال يستطيع أن يحمي الأمة، ويرد عنها هذا الحيف، وهذه الحملات الشرسة.لا بد أن نكون موضوعيين بتحديد موطن المرض، ونقر به، ونحدد موطن القوة، ونقول إنه قوة. ولا بد للنخبة المتنورة من المفكرين والمثقفين المسلمين أن تجدد هذا الخطاب، ولكن تجديدا علميا موضوعيا لا يخضع لضغوط الخارج، ولأمراض الداخل، و مؤَسَّسا على مبادئ موضوعية علمية، حتى لو أخذت وقتا طويلا. عرفت مجموعة من الدول الإسلامية حمَّى تغيير المناهج الدراسية، واستهداف مواد التربية الإسلامية. في رأيك من وراء هذه العملية؟ هذه المسألة الجزئية التي تذكرها الآن: قضية تغيير المناهج الخاصة بالتربية الإسلامية في بعض البلدان، تعبرعن قضية وعن ثقافة لها أكثر من خمسين عاما في حياة المسلمين، وفي حياة النخبة السياسية في العالم الإسلامي بدون تعميم، وهي معضلة رد الفعل، ومعضلة ضعف التخطيط وغياب الرؤية الاستراتيجية التي تغير الأمور وتخطط لها وفقا لتطور المجتمع ولتطور ظروفه. لكن، ماذا أقصد برد الفعل هنا.؟، أقصد أننا دائما نخضع لإملاءات الخارج، ولظروف الواقع، فنحن لا نصنع هذا الواقع.. كنا نقول منذ زمن: لا بد أن نغير كثيرا من الأشياء في اقتصادنا وفي سياستنا، وفي مناهجنا التربوية حتى تنسجم حركتنا مع سنن البناء والتجديد الحضاري. ولكن، كان لا يُسمع لك إذا قلت هذا الكلام. ولكن عندما تأتي الإملاءات من الضغط الخارجي، أو من ضغط القوى الداخلية، فنبدأ بتغييرات عاطفية، وردود أفعال غير خاضعة لأي تخطيط. إذاً، هناك مرض في العقلية والذهنية، وهو مرض رد الفعل الذي هو معاكس لقضية التخطيط والتنظيم، ومعرفة ما يجب تغييره الآن، ومعرفة ما يجب تغييره غدا، وهل ينبغي أن نلغي برامج بأكملها من المؤسسات، أو أن نطورهنا وهناك، أو نطور المناهج... فبالتالي، هذه القضايا في رأيي تحدث الآن تحت ضغط الظروف العالمية التي تفرضها علينا هذه الحوادث الجديدة التي يسمونها هُم الإرهاب، ويسمونها التخلف، ولا نسميها نحن بهذا الاسم. ولهذا علينا أن ندرس أوضاعنا سواء في التربية أو في الاقتصاد... ونضع خططا ورؤى استراتيجية للتغيير على مدى 20 و25 سنة. وفي هذه الخطط، يجب أن ندرس نفسية إنساننا والمرحلة التي هو فيها، وظروفه، ثم نغير بالتدريج حتى نصل إلى ما نريده. أما أن نبقي أنفسنا خاضعين لمنطق رد الفعل، فالكارثة ستبقى دوما هكذا، وسنغير كثيرا من المبادئ والقواعد، التي هي جزء من ثقافتنا وحضارتنا وتراثنا تحت هذه الضغوط. هل هذه الأوضاع التي تعيشها الأمة تعتبر بارقة أمل؟ أرى أن ما يحدث لهذه الأمة إنما هو استدراج إلهي، كما يقول الأستاذ مالك بن نبي، وكأن الله سبحانه وتعالى يستدرج المسلمين من خلال تجارب فاشلة في كثيرمن الميادين حتى تظهر التجربة الناجحة. وإنني أرى أن كل هذه الدروس، وهذه المحن التي نعيشها ستنيرلنا الطريق الذي سنسلكه من أجل النهضة الحضارية المتوازنة، متكاملة الإنسانية التي لا تلغي الآخرين، لأن حضارة ونهضة الإسلام ليست حضارة ونهضة إقصائية، وليست حضارة مركزية مهيمنة. ولكنها حضارة بديلة يرى فيها الناس بديلا آخرعلى الأمور التي يجدونها في الواقع. ولهذا السبب، أنا متفائل جدا، ودلائل هذا التفاؤل موجودة في ماليزيا، وموجودة في المغرب، وفي كثير من بلاد المسلمين، وفي العالم.