في يوم 17 فبراير 2011، حققت هذه الدولة الرقم القياسي في الأزمة السياسية الأكثر ديمومة في العالم: دولة بدون حكومة لمدة 541 يوماً بسبب الأزمة الخانقة التي دارت بين الوالون والفلامان. ولكن مع ذلك لم تنهر الدولة البلجيكية ولم تتفتت: صحيح أنها عانت من الأزمة المالية العالمية التي كانت في الأخير وراء وحدة صف الأحزاب السياسية والرجوع إلى جادة الصواب وإنشاء حكومة جديدة، ولكن تصوروا معي لو وقع الشيء نفسه في بعض الدول العربية: أن تبقى الدولة 541 يوماً بدون حكومة؛ ستكون النهاية.. ولكن بلجيكا بقيت قوية بقوة مؤسساتها. فالمؤسسات عندما تكون مهيكلة وتحكمها أسس وقواعد متينة، وسواء أكانت مالية أو تجارية أو خدماتية أو قطاعية أو عامة أو مجالية، فإن النتائج تبقى متميزة. وبلجيكا دولة لا مركزية جداً، وقد أحكم المتعاقبون في تسييرها النظام اللامركزي أي النظام الإداري الذي يعطي لمختلف المجالات الترابية اختصاصات وموارد في ظل من الحكامة والشفافية المثلى وانطلاقاً من قواعد واضحة وضوح النهار، ويملك النظام السياسي في دولة صغيرة كبلجيكا هياكل متطورة وغير ممركزة: فهي تملك خمس حكومات جهوية والعديد من البرلمانات التي تملك أصواتاً قطعية في مجال الاقتصاد والنقل والفلاحة والسكن، بمعنى المجالات الحيوية في البلاد. وزيادة على ذلك هناك ميكانيزمات متطورة في مجال المفاوضات الجماعية لحماية الاقتصاد العام للدولة، كما أن الأجور والتغطية الصحية تدخل في مجال اختصاص المجالس اللامركزية... وهذا لا يعني أن نوعية النظام البلجيكي بعيد عن المشاكل المستعصية، والعمل السياسي يتعثر بسرعة والمفارقات المجالية تجعل الشمال والجنوب في دوامة صراعية لامتناهية وبين سندان الطلاق ومطرقة الفيدرالية كمطية لأي اتفاق حكومي، كما أن رسم حدود لغوية في جوانب بروكسل كما ينادي بذلك الفلامان لا يساعد في تثبيت السلم السياسي. إن الحكيم في مجال القرار هو من يساهم في خلق مؤسسات قوية ويكوّن نخباً وسياسيين مقتدرين... فالمؤسسات تبقى والأفراد يزولون... وإذا بقيت المؤسسات لصيقة بفرد أو بأفراد فإنه بزوالهم تزول أو تضمحل قوة المؤسسات، فتضيع المصالح بالمرة... ولذا يميز علماء القانون بين الإنسان المعنوي والإنسان الذاتي. والإنسان المعنوي أو الشخصية المعنوية من مؤسسات وشركات وقطاعات عمومية في خدمة الشعب وعليها أن تكون قوية وصلبة في أدوات تسييرها كما في أدوات تنظيمها، وتتقوى أكثر عندما يترأسها إنسان ذاتي مقتدر بناء على تكوين وقناعات تسييرية تصب في مصلحة الوطن. خذ وقارن معي مثلاً بعض الأحزاب في أوطاننا العربية، والأحزاب بالمناسبة هي مؤسسات... بعضها يبقى لصيقاً بفرد لعقود من الزمن يحكمها، وبزواله يفقد الحزب أهميته أو يزول بالمرة من الساحة السياسية، وهذا النوع من الأحزاب هو أحزاب الأفراد لا أحزاب المجتمع، ومن يفشل في تسييره وفي تقوية المؤسسات وجعلها للجميع فإن نتائج الحزب تكون دائماً محدودة... والشيء نفسه عن باقي مؤسسات الدولة. والحكومات الجديدة التي وصلت في أوطاننا العربية بعد الحراك الشعبي، عليها أن تفكر في بناء المؤسسات التي تدوم، وعليها أن تحدث تقسيماً إدارياً مجالياً يمكن الجميع من الاشتراك في تسيير أمور الدول، وسمِّ ذلك كيفما شئت: المدينة والإقليم والعمالة والبلدة والجهة والمحافظة وغيرها. وبعض الحكومات المركزية تخاف من المحيط وتظن أنها إذا أعطيت لها اختصاصات وموارد فإما أنها ستكون فاشلة أو ستفقد مراقبتها لها في ظل من الأزمة والركود الاقتصادي... فتعظم النرجسية التسييرية وتتفاقم المشاكل في المركز وتقل المردودية في المركز والمحيط معاً وتضيع الكفاءات وتهمش ويصل إلى كراسي المسؤولية سياسيون بعيدون عن قواعد التسيير وشغلهم الشاغل حسابات سياسية ضيقة... والمشكل في بعض أوطاننا العربية أن المؤسسات ضعيفة والنخب مهمشة وعلى القادة الجدد التفكير جذرياً في إصلاح هذين المتناقضين، دولة بمؤسسات ضعيفة ودولة بنخب مهمشة... وفي نظري أن النخب المؤهلة قادرة على تسيير المؤسسات الضعيفة لتصبح قوية إذا ما وضعت في مكانها وعملت مع المركز في تناغم حيث تكون مصلحة الدولة فوق الجميع. والفترة تتطلب الكثير من الحكمة والكثير من المسؤولية وبُعد النظر عند القادة. ومفاتيح تسيير الدول صعبة وكل خطأ يقترف في مجال تسيير أمورها قد يرجع البلاد سنوات بل عقوداً إلى الوراء. إن بلجيكا، هذه الدولة الصغيرة، وعلى رغم الأزمة السياسية استطاعت بفضل قوة مؤسساتها أن تبقى موحدة بدون حكومة لأكثر من سنة. كما نجحت في تحقيق مردودية اقتصادية ومجالية جهوية في ظل الأزمة المالية العالمية والأوروبية بالخصوص. وهذه الدولة وأهلها ليسوا من سكان المريخ بل هم أناس مثلنا، درسوا ودرسنا معهم ولكن تعلموا من قواعد التسيير ما لم نتعلمه نحن فأنشأوا مؤسسات قوية وأفراداً ونخباً مقتدرين. ونحن نصرف المليارات على مؤسسات تتهاوى مع مرور الوقت كما تتهاوى أوراق الخريف، وكونا نخباً ووضعناها في الهامش. الدكتور عبد الحق عزوزي