بقلم: د. إدريس جندا ري – كاتب و باحث أكاديمي مغربي تتمة
و هكذا انتقلت الكتلة الديمقراطية للتعبير عن تصوراتها للتعديل الدستوري؛ من خلال مذكرات بعثت بها إلى الملك (الحسن الثاني) تهدف من ورائها إلى تعديل الدستور للوصول إلى "إقامة ملكية دستورية ذات طابع برلماني؛ عوض ملكية دستورية ذات طابع رئاسي (..) و توسيع صلاحيات الحكومة و البرلمان؛ و التركيز على الدور التحكيمي للمؤسسة الملكية". (4) و كنتيجة مباشرة لهذه الضغوط السياسية التي مارستها الكتلة؛ جاء التعديل الدستوري لسنة 1992 معبرا عن استيعاب المؤسسة الملكية لرسالة الكتلة و لضغوط الرأي العام الداخلي و الخارجي؛ و بعد ذلك جاء الرد الثاني سياسيا بمطالبة الملك الحسن الثاني للكتلة بتحمل المسؤولية الحكومية عبر اتصالات سرية قادها احمد رضا كديرة. لكن نتائج انتخابات 1993 التي لم تمنح للكتلة أغلبية مريحة؛ دفعت الاتحاد الاشتراكي إلى تعليق تجربة حكومة التناوب التعاقدي. و قد جاءت تعديلات 1992 لإعادة الثقة بين الملكية و الأحزاب الوطنية؛ تمهيدا للموافقة الواسعة على دستور 1996، الذي كان يراد منه؛ تمكين أحزاب المعارضة الوطنية في الكتلة الديمقراطية؛ من المشاركة في تدبير الشأن العام على المستوى الحكومي. و هكذا سيتم تكليف الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي بمسؤولية الوزير الأول لتسيير حكومة 14 مارس 1998؛ و قد جاء ذلك كنتيجة مباشرة لتصويت أهم مكونات " الكتلة الديمقراطية "، و في مقدمتها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، و لأول مرة لصالح الدستور في استفتاء 1996، مما اعتبر في حينه بمثابة إشارة قوية في اتجاه تقارب مكونات الحقل السياسي المغربي . لكن أهم ما جاء به دستور 1996؛ و لم توليه مكونات الكتلة الديمقراطية الاهتمام الكافي؛ هو إحداث غرفة ثانية؛ فقد جاء في الفصل السادس و الثلاثون: "يتكون البرلمان من مجلسين، مجلس النواب ومجلس المستشارين، ويستمد أعضاؤه نيابتهم من الأمة وحقهم في التصويت حق شخصي لا يمكن تفويضه "؛ و ذلك عبر العودة إلى دستور 1962 الذي سبق له أن أقر نظام الغرفتين و تخلى عنه في دساتير (1970-1972-1992) . و قد كانت هذه الخطوة؛ التي اتخذتها الملكية؛ باعتبارها تمتلك السلطة التأسيسية؛ كانت خطوة في اتجاه تقزيم دور الكتلة الديمقراطية في الحياة السياسية؛ عبر فرملة العمل التشريعي و إحداث صمام آمان تنظيمي؛ يحمى من كل الانزلاقات التي قد يؤدى إليها فوز الكتلة بأغلبية ساحقة في مجلس النواب؛ و لذلك فإن هذه الغرفة جاءت بهدف التحكم في المشهد السياسي، و هذا كان في نفس الوقت مؤشرا على انعدام الثقة بين مكونات الكتلة (المعارضة) و المؤسسة الملكية؛ خصوصا و أن الفصل السابع و السبعين يؤكد أن " لمجلس المستشارين أن يصوت على ملتمس توجيه تنبيه للحكومة أو على ملتمس رقابة ضدها". فكيف يحق لمجلس لم ينصب الحكومة أن يسقطها؛ أليس هذا ابتكار مخالف للمنطق الدستوري السليم؟ و كيف تأتى التنصيص على هذا التدبير الذي لا تتبناه الأغلبية الساحقة من الأنظمة المعاصرة؛ لأنها تقدر عدم صوابه؛ فما هو الدافع إلى تبني هذا الشدود المثير في وقت تتأكد فيه الحاجة أكثر إلى الاستفادة من التجارب الإنسانية لتجاوز الاختلالات الناجمة عن خصوصية لا تحفظ للديمقراطية جوهرها " (5) و نتيجة لاختلال التوازن بين مكونات الكتلة و المؤسسة الملكية؛ فقد انتهت هذه المرحلة من تاريخ المغرب؛ بتقوية أركان المؤسسة الملكية من جديد؛ مع تراجع دور الكتلة الديمقراطية في تحقيق الانتقال نحو ملكية دستورية بطابع برلماني؛ كما جاء في مذكرات التسعينيات. " فقد خفضت الكتلة سقف مطالبها الدستورية؛ و انتهت أغلب أحزابها بالتصويت بنعم على دستور 1996؛ رغم أنه مثل تراجعا بالمقارنة مع دستور 1992 " (6) و قد توضح هذا التراجع؛ من خلال النتائج السياسية التي لم تكن البتة في مستوى الطموحات و النضالات؛ التي قادها الشعب المغربي؛ بقيادة تيارات الحركة الوطنية؛ و هذه الخيبة هي التي عبر عنها قائد سفينة التناوب المناضل الوطني عبد الرحمان اليوسفي؛ في محاضرته الشهيرة في بروكسيل( في إطار منتدى الحوار الثقافي و السياسي ببلجيكا ) حيث قدم تقييما شاملا لوضع المغرب السياسي؛ ليستنتج في الأخير؛ " أنه بعد انتهاء التجربة بدون أن تفضي إلى ما كنا ننتظره منها؛ بمعنى التوجه نحو الديمقراطية عبر خطوات تاريخية إلى الأمام؛ التي ستشكل قطيعة مع ممارسات الماضي؛ فإننا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام متطلب وطني يلزمنا بالانتظار " (7)
2-4- المؤسسة الملكية و الكتلة الديمقراطية: توافقات بآفاق مسدودة لقد جاء تصريح الأستاذ اليوسفي؛ خلال مرحلة عاش جميع المغاربة توتراتها؛ و هم يشاهدون تهديم البناء؛ الذي شارك الجميع في إقامته منذ تشكل الكتلة الديمقراطية؛ و ما تلاها من تعديلين دستوريين خلال 1992 و 1996 . و قد كان تعيين السيد إدريس جطو كوزير أول (تقنوقراطي) لقيادة حكومة 2002؛ كان هذا التعيين بمثابة المسمار الأخير الذي دقته الملكية في نعش الكتلة الديمقراطية؛ فقد كانت الرسالة موجهة إلى ما سمي بالمنهجية الديمقراطية؛ في تعيين الوزير الأول من الأغلبية البرلمانية؛ كإستراتيجية اتخذتها أحزاب الكتلة لتقوية مؤسسة الوزير الأول؛ و لإعادة الاعتبار للأحزاب السياسية –و خصوصا أحزاب الحركة الوطنية- كشريك أساسي للملكية في ممارسة الحكم . لقد تم تحطيم طموح ديمقراطي كبير؛ بدأ مع استقلال المغرب؛ و ترعرع في ظروف صعبة جدا؛ ليشرع أخيرا أبواب الأمل أمام المغاربة؛ لكن جاءت الضربة القاضية؛ و عدنا إلى نقطة الصفر –كعادتنا- من جديد. وقد كان ذلك –بالطبع- على حساب تحول المغرب نحو الديمقراطية و دولة المؤسسات؛ فقد تم تكريس النموذج السياسي السلطاني؛ و في نفس الآن تم الإجهاز على إرث نضالي كبير؛ أسسته فصائل الحركة الوطنية؛ في تفاعل خلاق مع المنجزات السياسية الحديثة؛ و لذلك وجدنا أنفسنا كمغاربة الآن نطرح أسئلة قديمة؛ كان بالإمكان الحسم معها منذ عقود. فقد أصبحنا " نشعر كل مرة بأننا نضيع الوقت و الزمن؛ لأننا لا نتقدم بالسرعة المطلوبة؛ في إنجاز مهماتنا الكبرى؛ كشعب و أمة و هيئات و مؤسسات؛ و كأننا ضحية قانون "عود أبدي" ينتصب أمام تجاربنا التاريخية كقدر جدير بالمآسي الإغريقية " (8) 3- خطاب تاسع مارس 2011 و سؤال الدولة المدنية 3-1- الإصلاح السياسي كقدر عربي مشترك على إثر الأحداث التي فجرتها الثورة التونسية؛ دشن العالم العربي لأول مرة من تاريخه؛ دشن لحقبة سياسية جديدة؛ تميزت بعودة الإرادة الشعبية بقوة؛ بعد قرون من اختطافها من طرف الطبقة الحاكمة؛ و استبدالها بمشروعيات بديلة؛ تقوم على الدين و الشرعية التاريخية و القوة العسكرية و النزعات القبلية و الطائفية ... لقد تهاوت جميع هذه الشرعيات بهبة ريح عاصفة و في لمح البصر؛ و خرجت الإرادة الشعبية من قمقمها؛ بعد قرون من الاحتجاز. في المغرب – وكعادتنا- سمعنا كثيرا عن الاستثناء المغربي؛ أي أن المغرب صنع خصوصيته في منأى عن المشرق العربي؛ و لذلك فهو لا يتأثر بالرياح القادمة من الشرق؛ بل بالرياح القادمة من الغرب –كما يحلو للبعض أن يعبر- و قد نسي هؤلاء أو تناسوا عن عمد أن المغرب ظل لقرون امتدادا طبيعيا للأمة العربية؛ يسير معها على نفس الإيقاع و في نفس الاتجاه؛ فقد عاشت الأمة العربية بمشرقها و مغربها على إيقاع الحركات الاستعمارية خلال القرن التاسع عشر؛ و حاربت الأمة العربية الاستعمار و عاشت على إيقاع حركات التحرر الوطني مشرقا و مغربا ... إنه مصير مشترك يفرضه منطق التاريخ؛ و لا يمكن لأي كان أن يعارض هذا المنطق؛ فالمغرب امتداد للأمة العربية و يعيش معها نفس المصير؛ أحب من أحب و كره من كره. إن هذه الحقيقة هي التي تفرض نفسها الآن بقوة مع الربيع العربي؛ الذي بدأ –لحسن الصدف- من المغرب و اتجه نحو المشرق؛ ليعود إلى المغرب مرة أخرى؛ ملتزما بالاتجاه نحو المشرق من جديد؛ في تفاعل و انسجام قل نظيره في العالم اجمع؛ و كأننا بصدد سيمفونية موسيقية في غاية الإتقان تأليفا و عزفا؛ و هذا ليس صدفة البتة بل هو عين المنطق؛ لأن هذا الانسجام و التكامل يمد جذوره بعيدا في أعماق التاريخ العربي؛ و يستمد قوته من وحدة اللغة و الدين و التاريخ و المجتمع ... 3-2- حركة 20 فبراير .. المياه الراكدة تتحرك جاءت (حركة 20 فبراير) أخيرا و بعد نقاش مستفيض حول التأثير الذي يمكن أن يمارسه الربيع العربي على المغرب؛ جاءت لتلغي أسطورة الاستثناء المغربي؛ و لتؤكد في نفس الآن أن المغرب جزء لا يتجزأ من الامتداد العربي؛ يتأثر بما يقع في جواره العربي إقليميا و قوميا. و لعل ما منح (حركة 20 فبراير) قيمة أكبر؛ هو احتضان المجتمع لها؛ و اعتبارها تجسيدا لطموح قديم في التغيير السياسي؛ الذي طالما ناضلت في سبيله فصائل الحركة الوطنية منذ حصول المغرب على الاستقلال؛ كما ناضلت في سبيله النخبة الفكرية؛ التي عملت على ترسيخ قيم الحداثة داخل المجتمع المغربي؛ ليكون في مستوى طموحاته في التغيير. هكذا إذن تحركت عجلة التغيير؛ بعد أن ظن الجميع أن التجربة السياسية المغربية محصنة غاية التحصين؛ و لن تكون كغيرها في مهب رياح التغيير؛ لأنها تمتلك مقومات تاريخية و دينية تسندها. لكن مكر التاريخ –بتعبير هيجل- جاء ليقلب جميع هذه التوازنات؛ و يفرض في المقابل وضعا جديدا؛ لا يستجيب بالضرورة لرغبات الأفراد و الجماعات؛ بل يستجيب لمنطق التطور و التقدم الذي يعتبر ركيزة أساسية في حركية المجتمعات و الدول . لنفترض أن الدولة المغربية استوعبت هذا الدرس؛ و جاء الخطاب الملكي للتاسع من مارس تأكيدا على هذا الاستيعاب؛ لكن لنفتح مجال الشك المنهجي؛ و نتساءل: * هل استيعاب الدولة المغربية لدرس التاسع من مارس؛ يشرع أمام المغاربة أبواب الأمل؛ في بناء دولة مدنية حديثة؛ تقوم على أساس الديمقراطية و المؤسسات ؟ * هل يمكن أن نعتبر أن خطاب التاسع من مارس؛ يؤسس لمرحلة جديدة في التاريخ السياسي المغربي؛ تقوم على أساس القطع مع القيم السياسية السلطانية الموروثة عن الماضي؛ والتأسيس لقيم سياسية حديثة ترتبط بالفكر السياسي الحديث ؟ * هل يمكن أن يمس التعديل الدستوري المرتقب جوهر النظرية السياسية التي تؤسس للنظام السياسي المغربي؛ عبر إعادة النظر في الفصل التاسع عشر الذي يعتبر دستورا داخل الدستور؛ مع النص بشكل صريح على نظام ملكية برلمانية تسود و لا تحكم ؟ * هل يمكن أن نتصور مثلا أن التعديل الدستوري المرتقب؛ سيكون في مستوى الحدث؛ و سيعلن بجرأة عن القطع مع مؤسسة إمارة المؤمنين بحمولتها الدينية و التاريخية؛ و فتح المجال أمام ملكية برلمانية ديمقراطية؛ بحمولتها السياسية الحديثة ؟ إنها أسئلة جوهرية؛ لا يجب أن نسمح للنقاش السطحي الدائر الآن حول الهندسة الدستورية أن يحجبها عنا؛ و هي أسئلة تفرض على الباحث إثارة إشكالية السلطة في المغرب؛ باعتبارها تستمد شرعيتها من التجربة التاريخية و من الدين؛ و يحضر الدستور بهندسته الحديثة لتزكيتها و تكريسها كواقع و كممارسة. 3-3- فصل السلط كمحور أساسي للإصلاح السياسي و إشكالية الفصل 19 من خلال قراءة أولية للخطاب الملكي للتاسع من مارس؛ نجد انه يذكر أولا بالثوابت التي هي محط إجماع وطني, والتي تشكل إطارا مرجعيا راسخا, و بعد ذلك ينتقل ليؤكد أن التعديل الدستوري الشامل ينبغي أن يستند على سبعة مرتكزات أساسية: 1- التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة, الغنية بتنوع روافدها, وفي صلبها الأمازيغية, كرصيد لجميع المغاربة, دون استثناء. 2- ترسيخ دولة الحق والمؤسسات, وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية, وضمان ممارستها, وتعزيز منظومة حقوق الإنسان, بكل أبعادها؛ لسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية, والثقافية والبيئية, ولاسيما بدسترة التوصيات الوجيهة لهيأة الإنصاف والمصالحة, والالتزامات الدولية للمغرب. 3- الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة, وتعزيز صلاحيات المجلس الدستوري, توطيدا لسمو الدستور, ولسيادة القانون, والمساواة أمامه. 4- توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها, وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات و عقلنتها, من خلال: – برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة, يتبوأ فيه مجلس النواب مكانة الصدارة, مع توسيع مجال القانون, وتخويله اختصاصات جديدة, كفيلة بنهوضه بمهامه التمثيلية والتشريعية والرقابية. – حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع, وتحظى بثقة أغلبية مجلس النواب. – تكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي, الذي تصدر انتخابات مجلس النواب, وعلى أساس نتائجها. – تقوية مكانة الوزير الأول, كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية, يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية, وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي. – دسترة مؤسسة مجلس الحكومة, وتوضيح اختصاصاته. 5- تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين, بتقوية دور الأحزاب السياسية, في نطاق تعددية حقيقية و تكريس مكانة المعارضة البرلمانية, والمجتمع المدني. 6- تقوية آليات تخليق الحياة العامة, وربط ممارسة السلطة والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة. 7- دسترة هيآت الحكامة الجيدة, وحقوق الإنسان وحماية الحريات . للوهلة الأولى يمكن أن نصف هذا الخطاب بالتاريخي؛ لأنه ركز على المداخل الأساسية للإصلاح السياسي في المغرب؛ و يمكن تناول أهم هذه المداخل على الشكل التالي: * فصل السلط من خلال : * استقلالية القضاء * تكريس الدور التمثيلي و التشريعي و الرقابي للبرلمان . * تكريس الدور التنفيذي للحكومة؛ عبر تقوية مؤسسة الوزير الأول و ربطها بالإرادة الشعبية المعبر عنها انتخابيا. لقد آثرنا التركيز على مبدأ فصل السلط كمدخل أساسي للإصلاح؛ لأن هذا المبدأ هو أساس أي دستور ديمقراطي؛ سواء في الأنظمة الجمهورية أو في الأنظمة الملكية؛ و من دون تحق فصل حقيقي بين السلطات الثلاث ( التشريعية- التنفيذية؛ القضائية) بالإضافة إلى تكريس الصحافة كسلطة رابعة مستقلة؛ من دون تحقق هذا الفصل؛ لا يمكن الحديث بتاتا عن دولة ديمقراطية؛ و ذلك " لأن مبدأ الفصل بين السلط الذي جاء به (مونتسكيو) في كتابه روح القوانين؛ يعتبر بان الوسيلة الوحيدة لتحقيق نظام متوازن يضمن الحرية هي فصل السلط؛ كي توقف السلطة السلطة .. ما دام الواقع التاريخي للممارسة السياسية يشهد بأن تركيز السلطة في يد الفرد الواحد هو المدخل الحقيقي للاستبداد و التسلط. (9) و من هذا المنظور يمكن أن نعتبر أن التنصيص على الفصل بين السلط في الخطاب الملكي لتاسع مارس؛ يعتبر إنجازا تاريخيا بجميع المقاييس . لكن دعنا نتساءل عن طبيعة هذا الفصل المرتقب؛ هل سيكون هذا الفصل على مستوى المؤسسات الدستورية (برلمان؛ حكومة؛ قضاء ) في ظل ملكية برلمانية تسود و لا تحكم ؟ أم سيكون هذا الفصل في ظل ملكية مطلقة؛ تستمد مشروعيتها من مؤسسة إمارة المؤمنين ؟ إن تساؤلنا مشروع لأن التجربة التاريخية؛ تؤكد أن النظام الدستوري في المغرب يقوم على طابقين : * الطابق السفلي: يترجم و يخلق ما يسمى عادة بالقانون الدستوري؛ الذي هو عبارة عن مجموعة من القواعد و التقنيات القانونية المتعلقة باللعبة البرلمانية بين الحكومة و البرلمان فقط؛ لا على مستوى الملك. * الطابق العلوي: يترجم و يكرس القانون الخلافي و الممارسة السياسية التاريخية للسلاطين المغاربة؛ فمقتضيات هذا القانون تتعلق بالمكانة السياسية و الدينية للملك-الخليفة؛ و علاقته بالأمة في غياب الوسطاء؛ حتى و لو كان هؤلاء الوسطاء هم البرلمان و الحكومة؛ فلأنها مقتضيات فوق خلق البشر؛ فهو يتمتع بسيادة مطلقة؛ إذ تحرم و تمنع مراجعتها أو تعديلها عبر مسطرة المراجعة الدستورية. (10) و لذلك فإنه رغم التنصيص على فصل السلط دستوريا؛ فإن هذا لا يعني أن الفصل سيتجاوز العلاقة بين المؤسسات الدستورية (برلمان؛ حكومة؛ قضاء) إلى الملك باعتباره أميرا للمؤمنين؛ فعنده تجتمع جميع السلطات؛ و هذا ما كان يعبر عنه الراحل الملك الحسن الثاني بكل وضوح : " بأنه إذا كان هناك فصل للسلطات؛ فإنه لا ينطبق على مستوانا؛ بل على المستوى الأدنى ". (11) و إذا حاولنا تجسيد مبدأ الفصل بين السلطات على مستوى الممارسة؛ فإن الأمر يقترب من الاستحالة؛ مع وجود الفصل التاسع عشر الذي يجسد لوحده دستورا كاملا داخل الدستور؛ حيث يمنح الملك سلطات لا محدودة : ( الملك أمير المؤمنين ، ورمز وحدة الأمة ، وضامن دوام الدولة واستمرارها ، وهو حامي حمى الدين، والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات ، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة). إن هذه السلطات اللامحدودة التي يتمتع بها الملك باعتباره أميرا للمؤمنين؛ و التي يؤكدها الفصل التاسع عشر؛ هي التي بإمكانها أن تجعل أي فصل مرتقب بين السلط؛ فصلا شكليا؛ لا يتجاوز البناء التحتي للدستور إلى البناء الفوقي. و من هذا المنظور؛ لا يمكن تصور قضاء مستقل؛ لان القضاء من وظائف الإمامة العظمى؛ فالله فوض القضاء للإمام الذي فوض بدوره السلطة القضائية للقضاة"؛ كما لا يمكن تصور سلطة تشريعية مستقلة؛ لأن أمير المؤمنين هو من يحتكر هذه السلطة؛ و قد يفوضها للبرلمان؛ أما بخصوص السلطة التنفيذية؛ فإنها بالضرورة من وظائف الملك؛ كأمير للمؤمنين ممثل للأمة التي بايعته للقيام بأمورها الدينية و الدنيوية. إن "السلط كلها تبقى مجتمعة على مستوى القمة؛ أي في يد الملك باعتباره أميرا للمؤمنين؛ و هو المصدر الحقيقي للسلط و منشؤها الرئيسي " (12) إن إثارة النقاش السياسي من طرف الفعاليات السياسية و الفكرية؛ حول الفصل التاسع عشر؛ ليس ترفا فكريا البتة؛ بل هو النقاش الحقيقي الذي يجب أن يدشن اليوم؛ في علاقة مع المؤسسة الملكية؛ التي يبدو أنها عازمة على تحقيق قطائع مهمة في النسق السياسي المغربي؛ تمكننا كمغاربة من تحقيق دولة الحداثة و الديمقراطية . لكن إذا تمت المحافظة على الفصل التاسع عشر ببنيته؛ التي تم تكريسها في جميع الدساتير؛ من 1962 إلى 1996؛ فإن أي حديث عن فصل السلط؛ عبر استقلالية القضاء؛ و تكريس الدور التشريعي للبرلمان؛ و تكريس الدور التنفيذي للحكومة؛ أي حديث عن فصل السلط؛ يظل من قبيل الأماني التي راودت أجيالا سابقة عنا و تراودنا اليوم بقوة. إن المسؤولية التاريخية المفروضة اليوم على أعضاء لجنة مراجعة الدستور؛ تتجلى في صياغة نص دستوري واضح و مباشر؛ لا مجال فيه للتأويل؛ يتشكل من طابق واحد (لا سفلي و لا علوي) ؛ يقر صراحة بان النظام السياسي في المغرب؛ ملكية برلمانية؛ و السلطة للشعب يمارسها عبر ممثليه؛ الذين يتمتعون بسلطات تمثيلية و تشريعية و رقابية واضحة يكفلها الدستور؛ و باعتبارهم ممثلين للإرادة الشعبية؛ فإنهم مفوضون لممارسة السلطة التنفيذية؛ عبر تشكيل حكومة من الأغلبية البرلمانية؛ التي تفرزها انتخابات نزيهة . قد يتساءل البعض عن مكانة المؤسسة الملكية؛ و التي حضرت لقرون في نظامنا السياسي؛ باعتبارها محتكرة لجميع السلطات؛ التي تفوض بعضها إلى الفاعلين السياسيين؛ هل يمكن ببساطة أن نقطع مع هذه التراكمات التاريخية؛ و ننتقل مباشرة إلى ملكية برلمانية تسود و لا تحكم؛ كما هو الشأن مع الملكيات البرلمانية في أوربا ؟ إننا نجيب هؤلاء بمنطق التاريخ المغربي؛ الذي يؤكد أن الملك حضر في النظام السياسي المغربي منذ قرون باعتباره رمزا موحدا للمغاربة بمختلف انتماءاتهم؛ و قد تشكلت هذه الرمزية مع المولى إدريس الأول؛ الذي دخل إلى المغرب و وجد قبائل متناحرة؛ فوحدها و شكل دولة قوية؛ امتدت حدودها بين بلاد تامسنا على المحيط الأطلسي غربا؛ و بلاد تلمسان بالمغرب الأوسط شرقا. و لذلك نقول لهؤلاء؛ إنه لا خوف على الملكية من المغاربة؛ لان الشعب المغربي ملكي حتى النخاع؛ عاش في مملكة منذ العهد الأمازيغي القديم؛ و استمر الوضع مع الدخول العربي الإسلامي إلى المغرب؛ و سيستمر بإرادة المغاربة. لكن الخوف كل الخوف على الملكية؛ يأتي من ذوي النزعات السلطوية؛ الذين يواجهون بقوة إرادة ملك شاب يسعى جاهدا إلى الانتقال بالمغرب إلى عهد الحداثة؛ على مستوى الاقتصاد؛ و كذلك على مستوى السياسة؛ لأنه يدرك كما ندرك جميعا كمغاربة؛ أن قدرنا هو أن نعيش في منطقة البحر الأبيض المتوسط؛ التي كانت سباقة منذ القديم إلى اعتناق قيم الحداثة. و لذلك فلا مكان لنا في هذه المنطقة؛ إلا بولوج زمن الحداثة اقتصاديا و سياسيا و فكريا... إن تحديث المؤسسة الملكية؛ عبر ربطها بالمرجعية الدستورية الحديثة؛ هو في الحقيقة ما يمثل إرادة التحديث السياسي الذي يجمع حوله جميع المغاربة؛ و هو تحديث سيكون في مصلحة الشعب المغربي؛ التواق لان يكون شعبا ديمقراطيا و متحضرا؛ و سيكون كذلك في مصلحة المؤسسة الملكية؛ التي ستكتسب شرعية شعبيبة مضاعفة؛ باعتبارها استطاعت تحقيق التفاعل مع طموحات الشعب المغربي . و بهذا يمكننا أن نحقق الاستثناء المغربي؛ بالمحافظة على هذا الربيع العربي مخضرا مزهرا؛ بعيدا عن النزعات العدوانية؛ التي تريد أن تحول ربيعنا إلى شتاء عاصف؛ على شاكلة اليمن و ليبيا و سوريا... و هي نزعات أول من سيواجهها هو الشعب المغربي بعامته و نخبه؛ لأننا تعلمنا عبر التاريخ كيف نتوافق حول ما يخدم مصلحتنا الجماعية؛ كما تعلمنا عبر التاريخ كيف نواجه التحديات بعقلنة مفرطة ! إن الشعب المغربي؛ الذي ساوى بين استقلال المغرب و عودة الملك المجاهد محمد الخامس من منفاه إلى ارض الوطن؛ ليقودوا جنبا إلى جنب ثورة الملك و الشعب؛ هذا الشعب الأبي هو نفسه الذي يعرف اليوم كيف يميز بين النضال من اجل الديمقراطية و التآمر على الملكية؛ و هو حينما خرج إلى الشارع بجميع فئاته كان واضحا في مطالبته بالديمقراطية؛ في ظل ملكية ديمقراطية حديثة؛ تكون من الشعب و إلى الشعب.
الهوامش: 1- عبد العالي حامي الدين – الدستور المغربي و رهان موازين القوى – دفاتر وجهة نظر – ط1- 2005 – ص: 15 . 2- نفس المرجع- ص: 15 3- نفس المرجع – ص: 86 . 4- محمد المريني- الكتلة والإصلاح الدستوري- مطبعة دار النشر المغربية- 1999 – ص: 23 . 5- مذكرة الشبيبة الاتحادية المرفوعة إلى اللجنة المركزية للحزب- فاتح شتنبر 1996 – الوفاء للديمقراطية : الفكرة و الفعل – وثائق و نصوص 1989 – 2004 – دار القلم للطباعة و النشر و التوزيع – ط: 1 – 2004 – ص: 21-22 6- محمد الساسي – العلاقة بين الدستور و الانتقال الديمقراطي في المغرب: مرحلتان؛ رؤيتان – المجلة المغربية للعلوم السياسية و الاجتماعية – خريف شتاء 2010-2011 – ع:1 – ج:1 – ص:14 7- – نص المحاضرة منشور في جريدة الاتحاد الاشتراكي – الأحد 2 مارس 2003- العدد 7143 ص: 5 8- عبد السلام حيمر– مسارات التحول السوسيولوجي في المغرب- منشورات الزمن – مطبعة النجاح الجديدة – البيضاء – نونبر 1999 – ص: 44 9- عبد العالي حامي الدين – الدستور المغربي و رهان موازين القوى – مرجع سابق – ص: 73 10- عبد اللطيف أكنوش - السلطة و المؤسسات السياسية في مغرب الأمس و اليوم- مرجع سابق – ص: 172 . 11- أنظر: محمد ظريف- تاريخ الفكر السياسي بالمغرب: مشروع قراءة تأسيسية – إفريقيا الشرق – 1988 – ص: 302 . 12- عبد العالي حامي الدين- الدستور المغربي و رهان موازين القوى – مرجع سابق – ص: 75.