دساتير لم تعمل إلا على تكريس اللاديمقراطية وإذا كان البعض يعتبر هذه الوتيرة في تعديل الدساتير، عنصرا حيويا تتميز به الدساتير المرنة، فإن الذي لا يليق التغاضي عنه، هو أن حيوية هذا النوع من الدساتير لا تكمن في تعدادها بقدر ما تكمن في تضمينها مقتضيات تلبي حاجيات المجتمع المادية والروحية، وتضمن لأفراده عيشة راضية في كنف الأمن والاستقرار، وهذه وضعية لا تتحقق إلا في ظل نظام يلتزم فيه الجميع بالشرعية والمشروعية، وباحترام إرادة الشعب والتعبير عنها -رأيا وممارسة- بكل ما تحمله هذه الإرادة من طموح للتغيير، ورغبة المساهمة في تدبير الشأن العام، وحرية الاختيار في القضايا الأساسية، ومنها اختيار المواطنين لمن يتولى نيابة عنهم هذا التدبير من غير لجوء إلى وسائل فاسدة ومفسدة، وما إلى ذلك من أساليب مخلة بقواعد اللعبة إن اعتبرت ممارسة الديمقراطية لعبة... ثم إن أفضل الدساتير ليس الذي يصار إلى تعديله في كل آونة، وإنما هو المتضمن لما يجعل الجميع مطمئنا إلى نجاعة مقتضياته ومعترفا بأن ما تفصح عنه عملية الاقتراع هو الشرعية والمشروعية. ولتأكيد ذلك يشار إلى دساتير دول لم تتحرر من قبضة الاستبداد والديكتاتورية إلا مؤخرا، مثل مملكة إسبانيا التي بفضل دستورها أصبحت مضرب المثل لما يمكن أن يوفره النظام الديموقراطي من استمرارية واستقرار بصرف النظر عن كونه ملكيا أو جمهوريا. لقد عاشت إسبانيا مرحلة خضعت خلالها لنظام ديكتاتوري فقد في ظله الإسبانيون كل ما كان أشقاؤهم الأوربيون ينعمون به من حرية وديموقراطية، ومباشرة تخلصوا من هذا النظام واختاروا لأنفسهم نظام ملكية لا أقول نيابية وحسب، بل وديموقراطية ايضا، لأن الديمقراطية أوسع من النيابية، وهذا ما سأوضحه في مناسبته، وهنا قد يطرح سؤال عما إذا كان قيام هذا النظام ممكنا في المغرب بعد تخلصه من رقبة الاستعمار وآثاره مباشرة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست واحدة، فهي قد اختلفت فعلا، ولا يزال كل فريق يدافع عن وجهة نظره في هذه المسألة. ودون الاستطراد في تفاصيل ليست من أغراض البحث، يشار فقط إلى أن التفكير في إرساء نظام ملكي ديموقراطي على أنقاض نظام استعماري، كان من أهداف الحركة الوطنية كما ورد ي حلقات سابقة، ويعاد التذكير به بتركيز وإيجاز في هذه الحلقة. منذ مطلع القرن العشرين، كانت النخبة المغربية مهتمة بالمسألة الديمقراطية سواء كأفراد أو في إطار الحركة الوطنية ، وأن ملك البلاد إذاك محمد الخامس لم يغفل عن ترويجها في أحاديثه وخطبه، بل وإنه لم يتردد في أول خطاب ألقاه بعد عودته من منفاه أن يعلن أن «الخطوة الأولى ستكون بحول الله تأسيس حكومة عصرية مسؤولة تعبر تعبيرا حقيقيا عن إرادة الشعب». أليس معنى هذا أن الحكومة المغربية وهي الجهاز التنفيذي ستنبثق من صناديق الاقتراع وتمنح كل الاختصاصات للاضطلاع بتدبير الشأن العام، هذا من حيث الوعود أما على مستوى الممارسة فإن المغرب ظل بدون دستور إلى 7 دجنبر 1962. وقد تمت الإشارة إلى كيفية وضعه والاستفتاء عليه، وما تلاه من مراجعات دستورية ومواقف الأحزاب السياسية والنقابات المهنية. وكيف وقع شبه الإجماع على آخر تعديل وقع عام 1996، ولم يبق بعد هذه الإفادات إلا تقييم الخمسين عاما من عمر التجربة «الدستورية» ما لها وما عليها وذلك عبر فقرتين تخصص أولاهما للتذكير بتصورات المعارضة للمسألة الدستورية، والثانية للدساتير الخمسة وطريقة وضعها ومراجعتها من لدن الدولة، ومن ثم معرفة إلى أي مدى كانت هذه الدساتير ومراجعاتها ملبية لتصورات المعارضة والرأي العام الوطني بصفة عامة. تباين تصورات الأحزاب للمسألة الدستورية أما في ما يتعلق بتصورات المعارضة للمسألة الدستورية، فقد تطرقنا إليه في حلقات سابقة، لهذا نكتفي بالتذكير بما هو أساسي في هذه التصورات وهي أن تصورات الأحزاب للديموقراطية، ومن ثم للدستور، كانت متباينة عندما قرر الملك وضع دستور للبلاد، فبعد ظهور الحركة الاتحادية تعمق هذا الاختلاف وحصرا بين حزبين كانا قطبين لتوجهين أحدهما سلفي إصلاحي أو تعادلي ليبرالي، وهو حزب الاستقلال، وثانيهما تقدمي اشتراكي وهو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهما الحزبان الأكثر شعبية بعد انشقاق الثاني عن الأول في يناير عام 1959. وقبل أن يتقلص أتباعهما بسبب ظهور أحزاب أخرى إدارية أو منشقة أو غيرها، أو بسبب ما عانته الحركة الاتحادية من قمع ومضايقة من طرف النظام، وانشقاقات (الاتحاد الوطني، الاتحاد الاشتراكي، حزب الطليعة الديموقراطي، حزب المؤتمر الاتحادي، الحزب الاشتراكي الديموقراطي)، وكذا الاتحاد الدستوري الذي أسسته مجموعة ممن كانوا قياديين في الاتحاد الوطني مثل المعطي بوعبيد وعبد اللطيف السملالي والعسكي المسنودين من الاتحاد المغربي للشغل وبالأخص محمد عبد الرزاق... ونظرا لكثرة الأحزاب فإن الحديث سينصب على التي ظلت ومازالت تحتفظ لنفسها بالاستقلال في القرار مع التركيز على التي تمكنت من الاتفاق في ما ينها على تقديم تصور موحد في إطار تنظيم تنسيقي دعي تارة «الكتلة الوطنية» وأخرى «الكتلة الديمقراطية» وإن كان موقف القطبين الأساسيين في كلتا الكتلتين، حزب الاستقلال، والاتحاد الوطني للقوات الشعبية قد اختلف جذريا، في ما يرجع لشرعية وضع الدستور. فبينما اكتفى حزب الاستقلال بقبول أي دستور فالهدف الأساسي كما روج الحزب في حملته لفائدة دستور 1962 وكما سجله غلاب في كتابه «التطور الدستوري والنيابي في المغرب ص185» هو « وضع دستور، ونحن لا نضمن -بأية طريقة وضع هذا الدستور- أن يكون كاملا من أول يوم، وإذ كانت قد اتبعت في مختلف البلاد الدستورية مختلف الأساليب لوضع الدساتير، فلا ضرر أن يكون الأسلوب المغربي من هذه الأساليب الأقل ديموقراطية، ولكنها إيجابية، بمعنى أننا إذا رفضناها فقد يتأخر وضع الدستور سنوات أخرى، أما إذا قبلناها وعملنا على المساهمة في وضع الدستور وقبلنا الدستور الناتج عنها بالاستفتاء، فقد يكون الطريق أمامنا سهلا لتعديل الدستور عن طريق البرلمان إذا ما برهنت التجربة على أنه ناقص... ) وصوت حزب الاستقلال بنعم انطلاقا من اعتقاده بأن البلاد ستتوفر على دستور يخرجها من عهد «اللادستور» إلى المؤسسات الدستورية وتنظيم الانتخابات الحرة والنزيهة ( د.عبد العلي حامي الدين، ص93، مرجع سابق ). وعلى النقيض من تصور حزب الاستقلال، كان للاتحاد الوطني للقوات الشعبية تصور يتأسس على أن الدستور الحقيقي هو الذي تضعه لجنة تأسيسية منتخبة انتخابا نزيها من الشعب، ثم عرضه للاستفتاء العام، وإلا اعتبر دستورا ممنوحا يكرس الإقطاع والاستبداد والحكم المطلق، ولهذا قاطع الاستفتاء مقاطعة إيجابية جند لها مناضليه ووسائل إعلامه مما عرضه للمضايقة خلال الحملة وبعدها. وقد أعقب هذا الاستفتاء تشكيل حكومة من التكنوقراط، لم يشارك فيها حزب الاستقلال رغم دعمه للدستور ومشاركته الذاهبة إلى نعت المعارضين بأبشع النعوت، واتهامهم بالخروج عن الجماعة، رغم أن موقف شيخ الإسلام مولاي العربي العلوي كان إلى جانب الرافضين لمشروع الدستور. وباستنطاق مقررات الحركة الاتحادية وبياناتها بجميع فصائلها، نجدها قد اختلفت في جزئيات إلا أنها التقت في كونها ذات موقف موحد، وهو أن وضع الدستور ينبغي أن يوكل إلى مجلس تأسيسي ينتخب من الشعب، ثم يعرض على الاستفتاء العام، أما تصورها لمضمون الدستور، فهوالتنصيص على الملكية الديمقراطية النيابية، وفصل السلط واستقلالها عن بعضها، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع في تشكيل حكومة لها ما يكفي من الصلاحيات لتنفيذ برنامجها تحت طائلة المساءلة أمام الملك وأمام البرلمان... تصور الكتلة الوطنية للمسألة الدستورية ومنذ إقرار أول دستور مغربي سنة 1962، انضم حزب الاستقلال لصف المعارضة إلى جانب الحركة الاتحادية وحتى إذا كان أسلوب المعارضة لكل من الحزبين مختلفين مرمى ووسيلة وحدة في المواجهة، فإن الذي يعنينا هنا هو موقفهما من المسألة الدستورية. كان موقف هذين الحزبين متباينا جذريا بالنسبة للدستور الأول (1962) كما هو معروف، ما إن دخل هذا الدستور حيز التطبيق بانتخاب البرلمان بغرفتيه حتى بدا لحزب الاستقلال أن ما كان يأمله من تطور في ظل الدستور الذي أيده ودعا إلى التصويت عليه ب»نعم» لم يتحقق، وبدا له أيضا أن هذا الدستور لم يعمل إلا على تكريس الاستبداد وشرعنة الحكم المطلق. فقرر الاقتراب من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية للمطالبة برفع حالة الاستثناء والدعوة إلى تعديل دستور 1962، فتأسس بين الحزبين ما أطلق عليه «الكتلة الوطنية» سنة 1970، وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود بدأت بعض أحزاب المعارضة في «التنسيق في ما بينها لاتخاذ مواقف مشتركة إزاء القضايا السياسية الهامة» خاصة وأن ما خلصت إليه منذ أمد بعيد أن «المؤسسات السياسية القائمة لا تعبر عن الإرادة الشعبية، وأن من غير المجدي أن تظل -كل على حدة- تطالب بانتخابات نزيهة وبحكومة تحظى بمصداقية لدى الرأي العام تنبثق عن صناديق الاقتراع بواسطة انتخاب ديموقراطي»، كما اقتنعت أنه لم يعد هناك من مبرر ليبقى كل حزب مطالبا بالإصلاحات السياسية والدستورية على انفراد مادامت الخطوط العريضة لمطالبها في الإصلاح لا تكاد تختلف إلا في جزئيات لا تحول دون الاتفاق بشأن ما هو أهم. بدأ التنسيق بين حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ثم اتسع ليتألف منهما ومن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديموقراطي الشعبي، وما لبث التعاون بين هذه الأحزاب أن تحول من مجرد التنسيق إلى ابتكار شكل تعاوني أكثر تنظيما أطلق عليه اسم الكتلة الديمقراطية، صادق مؤسسوها على ميثاق من بين بنوده الأساسية إقرار إصلاح دستوري يتضمن ترسيخ دولة المؤسسات الديمقراطية وتحديث أجهزة الدولة. وقد نصت الكتلة في ميثاقها التأسيسي على أن هدفها هو بعث مغرب أكثر ديموقراطية في إطار النظام الملكي الدستوري... (د.عبد العلي حامي الدين، مرجع سابق، ص108). وقد قدمت في هذا الشأن مذكرتان إحداهما في يونيو 1992 والثانية في أبريل 1996، ارتكزت مضامينهما على تحقيق أربعة أهداف ذكرناها ونعيدها لمن لم يطلع عليها في موضعها وهي: ملكية دستورية ذات طابع برلماني. توسيع صلاحيات البرلمان والحكومة تعزيز ثقافة حقوق الإنسان ضمان نزاهة الانتخابات ويبقى أن نبحث عما إذا كان الدستور الأخير قد استجاب لشيء منها أم لا ، خصوصا وأن أحزاب الكتلة الديمقراطية قد وافقت عليه ودعت إلى التصويت عليه بنعم باستثناء منظمة العمل الديموقراطي الشعبي الذي برر عدم موافقته عليه ل»تجاهله مذكرة الكتلة ومقترحاتها ورفع صلاحيات الغرفة الثانية وأضعف الغرفة الأولى مع إبقاء الحكومة والوزير الأول في موقع الدونية ودسترة سمو العمال والولاة على الوزراء (باستثناء وزير الداخلية) وإقرار مسطرة طويلة في سن القوانين وإخضاع ذلك لتوافق الغرفتين والإبقاء على محدودية السلطة القضائية... ولتبرير عدم تصويتها على مشروع الدستور بالإيجاب أصدرت بيانا جاء فيه «إن المنظمة لا ترى في مشروع الدستور ما يدفعها لتقول نعم». وبالاستفتاء على مشروعي دستور 1992 و1996، تبين أن أحزاب الكتلة الديمقراطية قدمت مقترحات مشتركة بشأن الإصلاح الدستوري، ولكن مواقفها اختلفت في ما يرجع للاستفتاء على المشروعين، فكما سبق ذكره لم تشارك ثلاثة أحزاب، بينما صوت واحد بنعم، وبينما صوت ثلاثة ب»نعم» لم يصوت بها رابعها... في حين انسحب منها الخامس الذي دأب على غيابه عن عمليات الاستفتاء، والاستحقاقات البلدية والبرلمانية، هذا ما ارتضاه مثاليون، وهذا أيضا ما لم يستسغه واقعيون (...) ولكل مواقف ينبغي أن يحترم. ولا ننهي هذه الفقرة قبل طرح هذا السؤال: هل تحكمت في التصويت ب»نعم» عوامل سياسية متعددة، من بينها ضرورة التقارب بين اليسار المعتدل واليمين المتفتح والنظام السياسي لإنقاذ المغرب من سكتة قلبية كانت متوقعة كما اعتقد البعض؟ أو «لقطع الطريق أمام الحركات الإسلامية المتنامية التي برزت داخل المعترك السياسي، برؤية تصورية تنهل من الفكر السياسي الإسلامي وتتعامل مع المسألة الدستورية بمنطق مختلف» حسب آخرين، (المرجع السابق، ص144). المسألة الدستورية في عهد الملك محمد السادس لكن ما أن توفي الحسن الثاني بعد تشكيل حكومة من أغلبية برلمانية برئاسة عبد الرحمان اليوسفي، حتى بدا لمتتبعين أن التصويت على الدستور ب»نعم» من طرف الأحزاب «القوية» لم يكن من دون ترتيب لما بعد غياب الحسن الثاني، وهذا ما أفصحت عنه عدة متغيرات بدأت تشهدها الساحة السياسية مباشرة بعد الاستفتاء على الدستور الجديد، ومن بينها تعيين حكومة برئاسة وزير أول من الأغلبية البرلمانية وإن لم ينص على ذلك في الدستور، ومن بينها اشتغال المغرب بأوراش مختلفة تمهد للانتقال -تدريجيا- إلى ديموقراطية حقيقية، ولكن عدول الملك محمد السادس عن تعيين وزير أول من الأغلبية البرلمانية وتعيينه لوزير أول من التقنوقراط بعد الانتخابات البرلمانية لعام 2002، اعتبر تراجعا عما دشن به الملك الراحل الحسن الثاني عهد الوفاق الوطني قبل وفاته، وعما وعد به بشأن الإصلاحات السياسية والدستورية بصفة عامة. وفي ظل الدستور الجديد جرت انتخابات برلمانية عام 2007 حصل فيها حزب الاستقلال على الأغلبية، فتم تعيين أمينه العام وزيرا أول لحكومة ائتلافية حظي الاتحاد الاشتراكي وحز ب التقدم والاشتراكية ببعض الحقائب الوزارية. وهكذا ترأس عباس الفاسي حكومة ائتلافية «برلمانية» من أحزاب بعضها لم تنفك جرائده تنوه بإنجازات الوزراء المنتمين إليها، كما لا يفوتها أن تتبع أنشطة وزراء الأحزاب الأخرى بالمؤاخذة والانتقاد، ما جعل البعض ينعت الأحزاب المشاركة في هذه الحكومة ب»الحاكمة/المعارضة» وهناك عنصر لفت أنظار المهتمين وآثار استغرابهم -عن خطأ أو صواب، أو عن حق أو باطل كما يقال- ألا وهو تحرك المؤسسة الملكية، وحضورها في أغلب الأوراش التنموية التي ترافق زيارات جلالة الملك محمد السادس أينما حل وارتحل عبر أقاليم المملكة. وقد يقال إن ما تقوم به المؤسسة الملكية يدخل في صميم ما ينبغي أن تتكفل الدولة بالقيام به والاضطلاع بمسؤوليته، ولكن إذا جاز الاكتفاء بما تنجزه المؤسسة الملكية في مضمار التنمية، فما فائدة وجود الحكومة إن لم تقم بدورها المنصوص عليه في الباب الرابع من الدستور على الأقل. قد يظن أن وزراء الأحزاب المشاركة في التشكيلة الحكومية، وعلى رأسها الوزير الأول، ليسوا بواعين بهذه الوضعية المحرجة، والواقع ليس كذلك، فالذي يتتبع مواقف الأحزاب التي ينتمون إليها يخلص من خلال ما يصدر عن قادتها من بيانات تنم -تصريحا أو تلميحا- عن مدى شعورهم بأن وزراءهم لايزالون مقيدين بإكراهات يعود جانب منها إلى «بقية من تقاليد المخزن التي لاتزال متحكمة في بعض مفاصل الدولة، لدرجة أنهم لا يخفون قلقهم من الحرج الذي يعانون منه جراء وجودهم بين اختيارين، الانسحاب من الحكومة استجابة لضغط القواعد الحزبية، أو الاستمرار في تحمل المسؤولية في تدبير الشأن العام، حفاظا على استقرار الأوضاع الذي صارت البلاد في أمس الحاجة إليه». استشرى هذا الشعور في أوساط أحزاب الكتلة خاصة، وفي فريقيها «الاشتراكيين» بالأخص، وليس خفيا، كما وليس عيبا، أن يشار إلى أن ما من حزب كيفما كان مستواه أو نعته لا يسلم عندما تتاح له فرصة المشاركة في الحكومة من بروز نخبتين إحداهما متأكدة من أن لها حظوظا في الاستفادة من هذه المشاركة فتراها متحمسة للدعوة إلى ذلك، وفي هذه يوجد من يدعو إلى المشاركة لفائدة الحزب ولمصلحة البلاد، ومن يرى أن في هذه المشاركة غنيمة له، والثانية تعارض المشاركة وهذه أيضا لا تخلو من عناصر تفعل ذلك بناء على عدم توفر شروط ملائمة تساعد الحزب على تنفيذ برامجه، كما لا تخلو من آخرين متأكدين من عدم استفادتهم الشخصية من هذه المشاركة... وإذا شاركالحزب في الحكومة وتبين له في ما بعد أن الشروط المطلوبة أو المتفق عليها غير متوفرة، هنا يجد نفسه أمام الاختيارين سابقي الذكر: الاستمرار في الحكومة، أو الانسحاب منها إرضاء للقواعد... وهكذا فضلت الأحزاب المشاركة في الحكومة المحسوبة على الكتلة الديمقراطية، الجمع بين الاستمرار فيها باعتباره مكسبا يمكن تطويره وبإرضاء المطالبين بالانسحاب وذلك بتجديد مطالبتها بالإصلاحات السياسية والدستورية، واختراقها سقف المقترحات التي تضمنتها مذكرة الكتلة الديمقراطية لعام 1996، حيث تحولت بياناتها وتصريحات قادتها من مجرد مقترحات حول إصلاحات سياسية ودستورية إلى المطالبة بتغيير جذري يطال المؤسسة الملكية لتتحول من ملكية دستورية رئاسية إلى ملكية يسود فيها الملك ولا يحكم، أي ملكية برلمانية حسب تعبيرهم وتعبير كثير من الباحثين في الفقه الدستوري، الذين ساهموا في الكتابة عن هذه المسألة أو بمداخلات في وسائل الإعلام.