نواصل الحديث عن موضوع شائك قديم وحديث بدأناه قبل اندلاع الأحداث الأخيرة في العالم العربي إذ صدرت أول حلقة منه يوم الجمعة 26 نونبر 2010 . وهو موضوع أزمة القيادة في المجتمعات الإسلامية وما كدنا نعيد تحيين ما سبق نشره في سنة 1970 حتى طفا على السطح ما سمي بفضيحة (ويكيليكس) التي نال منها القيادات في المجتمعات الإسلامية أوفى نصيب ثم جاءت بعد (ويكيليكس) رياح التغيير التي هبت على تونس ومصر وذهبت بطاغيتي البلدين وعنصرين من عناصر أزمة القيادة بين الشعوب والمسؤولين في المجتمعات الإسلامية.. وتحدثنا عن غياب الفكر باعتباره مظهرا من مظاهر الأزمة كما تحدثنا عن الحرية باعتبارها مظهرا من مظاهر أزمة الحكم في المجتمعات الإسلامية وذلك على مستويين المستوى الأول: تأصيل مفهوم الحرية، والمستوى الثاني وضعية الحرية في المجتمعات الإسلامية. وتحدثنا عن الأوضاع الاجتماعية والدينية والسياسية التي أفضت بالعالم الإسلامي إلى الوقوع في يد الاستعمار والصليبية الغربية في القرون الثلاثة الأخيرة: 18 _ 19 _ 20 الميلادية. ونواصل تحليل الأوضاع في العالم الإسلامي في نفس الفترة دون إغفال الإشارة ولو عرضا لما يحصل حاليا بين الشعوب والقيادات في العالم الإسلامي، نظرا للترابط الحاصل بين ما يحدث الآن في العالم الإسلامي أو في أجزاء كثيرة منه وبين الواقع في فترة بداية النهضة التي تحدثنا عنها. تحدثنا في القسم الأول و الثاني من الحلقة السابعة عشرة عن المسألة الدستورية في المغرب. فإننا في هذه الحلقة سنواصل الكلام عن الشرعية باعتبار أن ما تعانيه الشعوب في المجتمع الإسلامي من أزمة القيادة هو جزء من إشكالية الشرعية في المجتمع الإسلامي وإذا كنا خصصنا بعض الحلقات السابقة للحديث عن الشرعية في المجتمع الإسلامي و تساءلنا عن استمرار البيعة الأولى وتناولنا والإشكالات التي طرحت بعد وفاة الرسول عليه السلام. كما تحدثنا عن الشرعية بين الدين والدنيا وعن الشرعية والدولة الدينية والمدنية في الإسلام... فإننا في هذه الحلقة سنتحدث عن الشرعية والشرعية في الدساتير الإسلامية والعربية. انطلقنا في هذه الأحاديث حول أزمة القيادة في المجتمعات الإسلامية في محاولة لإبراز أهم الملاحظات التي سجلها الكثير من الباحثين والدارسين في العالم الإسلامي، وكما قلنا في أحاديث سابقة فإن أهم قضية شغلت الشعوب هي كيف يمكنها أن تجتاز مرحلة الإقصاء في مجال المشاركة في تدبير أمورها إلى أن تنتقل إلى مستوى هذا التدبير بكل أبعاده التي من شأنها أن تجعل الأمة فاعلة ومؤثرة في مصيرها في أبعاده المختلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وفي هذا السياق وبمناسبة المناقشة الجارية في المجتمع المغربي وفي الأوساط السياسية والثقافية والاجتماعية منه بالخصوص فإن حديث الجمعة اليوم سيتناول مكانة الإسلام والشريعة في بعض الدساتير العربية والإسلامية. ومما هو جدير بالتناول في هذا الباب الانطلاقة التي عرفتها الأمة الإسلامية في تقنين الأحكام الدستورية التي كانت ترد في مختلف الكتب الإسلامية المتناولة للفقه السياسي في باب السياسة الشرعية أو في الباب المخصص للإمامة أو الحسبة مع ما يستدعيه ذلك من التأثر بما كان يجري وما يجري في دول اوربا آنذاك وغيرها من دول العالم. ولا شك أن البداية كانت في الدولة العثمانية، وفي النص التالي أسفله الوضعية السائدة لدى تولي السلطان عبد الحميد تدبير أمر الخلافة العثمانية، يقول مؤلف كتاب (الدساتير العربية): »لقد قيل الشيء الكثير عن الأساليب التي ابتكرها السلطان عبد الحميد الثاني للتنكيل بمعارضي حكمه المطلق المكمم للأفواه، ولكن لا بد هنا من الاستشهاد بأقوال اثنين من الثقات المعاصرين لهذا العهد. يقول مترجم ملحمة الإلياذة إلى العربية وعضو »مجلس المبعوثان« سليمان البستاني: »يبيت المرء في منزله وعياله إلى جانبه وهو غير آمن من أن يفاجئه طارق في دياجي الظلام فيختطفه من بين ذويه. إذا خطا نظر إلى ما وراءه خشية أن يكون له من ظله رقيب عليه. وإذا تكلم مع صديق أو رفيق على قارعة الطريق تراه يكاد ليهمس همسا خوف ان تبدر منه كلمة تحتمل التأويل. كأن القسطنطينية رجعت إلى زمن كاليغولا في رومة، والطير نزلت على رؤوس الناس كبيرهم وصغيرهم«. ويشاطره هذا الرأي جبر ضومط، أستاذ اللغة العربية في الجامعة الأميركية في بيروت، الذي يصف لنا عجائب أعمال جواسيس هذا العهد الحميدي بقوله: »كان كثيرون من أعيان العثمانيين وأشدهم محبة وإخلاصا في رفع شأن العثمانية يخاف أن يفلت من صدره زفرة أو يباغته تنهد فينقل عنه خبر تلك الزفرة أو ذلك التنهد جاسوس عليه من المتظاهرين بصداقته، أو ممن في خدمته، بل ربما نقل عنه الخبر أحد بنيه أو امرأته، وهناك الطامة الكبرى والبلية العظمى«. بالإضافة إلى أن ضعف الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر أفسح المجال واسعا أمام الدول الأوروبية الطامعة في الاستيلاء على أملاك »رجل أوروبا المريض« لتنفيذ نواياها العدواني المبيتة فاحتلت فرنساالجزائر (5 تموز 1830) وتونس (نيسان 1881)، وشنت روسيا القيصرية حربين ضاريين عليها: حرب القرم (1856) والحرب البلقانية (1877)، واحتلت بريطانيا مصر (11 تمز 1882). فزادها ذلك ضعفا على ضعف. الإبتهاج بإعلان الدستور عند إعلان العودة بالعمل بدستور 1876 بتاريخ عام 1908 عمت الفرحة جميع العالم العربي. لقد قدمت جريدة المقطم القاهرية بشرى عودة »القانون الأساسي« إلى الشعب بقولها : »إنما يسر العثمانيون هذا السرور العظيم ويبتهجون هذا الابتهاج الذي لم يعرف له نظير لأنهم يشعرون كمن كان ميتاً أمس فعاش اليوم. ومن كان فاقدا كل مزية تحيا بها الأمة منذ أربع وعشرين ساعة فوجد كل تلك المزايا دفعة واحدة. ومن كان يبكي بكاء الذي قضي عليه وعلى حريته وأمته وسلطته ودولته بالذل والفناء والتأخر والضعف والانحطاط فعاشت آماله بالتقدم والارتقاء والعز والمجد والسؤدد بعد اليأس والقنوط. كما بشرتهم جريدة لسان الحال البيروتية بقولها: »فلقد كان لهذه البشرى رنة في البسيطة استفزَّت قلوب ساكنيها طربا، فالأيدي تكتب متمايلة تمايل النشوان وترتجف ارتجافا ولكن ليس من خمرة العنب بل من خمرة الطرب، والعين تدمع دمع الفرح والسرور. أجل لقد تجددت بنا القوى إذ دخلنا في عصر جديد طالما تمنى العثماني الصادق بلوغه«. (الدساتير في العالم العربي نصوص وتعديلات 1839-1987 ص: 3-4 للدكتور يوسف قزماخوري) إن هذا النص رغم ما فيه من اعتداء على السلطان عبد الحميد فإن هذه الوضعية التي تحدث عنها البستاني أعلاه وجريدة «المقطم» هو وصف حقيقي لما كان وما لا يزال يجري به العمل في معاملة المواطنين والمواطنات في كثير من العالم الإسلامي، وهو وضع استدعى ما نشاهده اليوم من ثورات وفوضى وقلاقل في العالم الإسلامي من طنجة إلى جكارتا، وهو ما تسعى الشعوب إلى تغييره للحصول على وضع أفضل، وهو ما اعتبرناه أزمة بين القيادة والشعوب في العالم الإسلامي. وعلى أي حال فإننا فيما يأتي سنعرض بإيجاز وضعية ومكانة الإسلام والشريعة الإسلامية في دساتير بعض الدول العربية والإسلامية حسب ما هو منشور في كثير من المراجع والمصادر في هذا الباب مع العلم أن الوضعية الدستورية ليست جامدة فهي في حركة دائمة ولهذا فإن ما يأتي هو حسب ما تم وفق التاريخ المذكور في صلب النص. الأردن: إمارة شرق الأردن. القانون الأساسي 19 نيسان 1928 المادة1: الإسلام دين الدولة، وتضمن لجميع القاطنين في شرق الأردن الحرية التامة في العقيدة وحرية القيام بشعائر العبادة طبقا لعاداتهم ما لم تكن مخلة بالأمن العام أو النظام أو منافية للآداب الدستور الأردني. المادة 2: المملكة الاردينة الهاشمية دولة مستقلة ذات سيادة دينه الإسلام. المادة 16: تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقا للعادات المرعية. المادة 62: تقسم المحاكم الدينية إلى: 1/ المحاكم الشرعية الإسلامية . 2/ مجالس الطوائف الدينية. دستور المملكة الأردنية الهاشمية 1 كانون الثاني 1952 المادة2: الإسلام دين الدولة. نفس حرية الأديان والممارسة. لا تمييز بسبب العرق أو اللغة أو الدين. البحرين: دستور 20 يونيو1972 المادة 2: دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع. لا تمييز بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. تونس: دستور الجمهورية التونسية في 1 يناير 1959 المقدمة: الشعب التونسي مصمم على تعلقه بتعاليم الإسلام. المادة 1: تونس دولة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها. مساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. الجزائر: في دساتيرها المختلفة دين الدولة الإسلام مع حرية ممارسة الأديان وضمان حقوق الإنسان والمواطن ولا تمييز بسبب الجنس أو العرق أو الحرفة. المملكة العربية السعودية: ينص (النظام الأساسي للحكم) الصادر في 27/8/1412 ه بأن دين المملكة هو الإسلام ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله، تحمى الدولة عقيدة الإسلام وتطبيق شريعته وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر. سوريا: نظرا لكثرة الانقلابات العسكرية تعددت الدساتير ومشاريع الدساتير المؤقتة أو الدائمة وبقي القاسم المشترك بينها: 1 دين رئيس الجمهورية الإسلام. 2 الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع. 3 حرية الاعتقاد مصونة. 4 المساواة في الحقوق والواجبات. العراق: وضعه من حيث الانقلابات وتعدد الدساتير شبيه بوضع سوريا ويبقى الإسلام دين الدولة، وحرية الأديان وممارسة الشعائر مكفولة، ولا تمييز بسبب الجنس أو العرق أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي أو الدين. قطر: الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع ولا تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو الدين. لبنان: لاشيء يتعلق بالدين: ليبيا: دستور المملكة الليبية 7 أكتوبر 1951: المادة 5: الإسلام دين الدولة. المادة 21: حرية الاعتقاد والممارسة. المادة 11: لا تمييز بسبب الدين أو المذهب أو العنصر أو اللغة أو الثروة أو النسب أو الآراء السياسية والاجتماعية. دستور 2 مارس 1977: أولا : الجماهيرية العربية الليبية الشعبية والاشتراكية إعلان قيام سلطة الشعب. ثانيا: القرآن الكريم هو شريعة المجتمع في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية. المغرب: في دساتير 1962 و 1972 والدستور الحالي 1996 يوجد في التصدير: المملكة المغربية دولة إسلامية، وفي المادة السادسة: الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية، وفي المادة الثامنة: الرجل والمرأة متساويان في التمتع بالحقوق السياسية. اليمن: تعددت الدساتير قبل الوحدة حتى انتهت بعد الوحدة لتنص على أن اليمن دولة عربية إسلامية والشريعة مصدر القوانين جميعا واليمنيون متساوون في الحقوق والواجبات العامة. السودان: إن وضع السودان يكاد يكون فريدا؛ فمنذ 1948م عرفت البلاد مجموعة من القوانين الأساسية والدساتير المؤقتة والدائمة، وكان آخرها دستور 1987 الذي جرى تعطيله بسبب انقلاب يونيو 1989 ولا يزال معطلا وتحكم البلاد بمراسيم دستورية بلغت 14 مرسوما من ضمنها إعلان قانون الطوارئ ومرسوم حظر قيام الأحزاب، وفي شهر يونيو 1997 صدر مرسوم بتشكيل لجنة قومية وفنية لإعداد الدستور تضم ما يزيد عن 300 شخصية سودانية تمثل القطاعات الشعبية والمهنية، ويعتقد المحللون السياسيون بأنه من الصعب أن تنجح اللجنة في مهمتها بسبب الحرب الأهلية وقوة المعارضة في الخارج، وتاريخ فشل الدساتير السودانية لا يشجع على أي تفاؤل نظرا لفسيفسائية المجتمع وتعدد مصادر الولاء والانتماء وعدم الثقة بإسلامية حسن الترابي الذي يحكم من وراء الستار باسم الإسلام، والإسلام براء من كل وسائله وتصرفاته، وأي دستور يكتب في ظل تسلطية الترابي لا يعتبر شرعيا أو حاصلا على ثقة الشعب السوداني وفي ابريل 1998 صدر الدستور الجديد الذي ينص على أن الحاكمية لله، والسيادة لشعب السودان المستخلف، والإسلام دين غالب السكان، والمسيحية والمعتقدات العرفية إتباع معبرون، والسودان وطن جامع تأتلف فيه الأعراق والثقافات وتتسامح الديانات، يلازم المسلمون الكتاب والسنة ويراعون ذلك في قوانينهم وأعمالهم كافة. النظام الأساسي لدولة عمان: أصدر السلطان قابوس بتاريخ 6 نونبر 1996 مرسوما يمنح فيه البلاد دستورا أهم ما ورد فيه بالنسبة لدراستنا هو ما يلي: الباب الأول: الدولة ونظام الحكم. المادة1 : سلطنة عمان دولة عربية إسلامية. المادة 2: دين الدولة الإسلام والشريعة الإسلامية هي أساس التشريع. وضمير الحاكم وكثير من البلدان تطالب بالدستور تقليدا لغيرها أو للغرب أكثر من كونه حاجة فعلية عملية لها. وكدليل من عشرات الأدلة نذكر الدستور التونسي لعام 1861، فقد كان للتشبه بالدول المتطورة أو للزخرفة أكثر منه لتحديد الحقوق والواجبات والعلاقات بين السلطات ولو كان المجال يتسع لقدمنا البراهين العديدة والجدير بالذكر وكما ذكرنا سابقا ألغي الدستور عام 1864. دستور الإمارات العربية المتحدة: في الثامن من يوليو سنة 1971 وقع على وثيق الدستور المؤقت للإمارات العربية المتحدة حكام الإمارات الست، أبو ظبي، دبي،الشارقة، عجمان ، أم القيوين، الفجيرة، وبوشر العمل بموجبه في 2 ديسمبر 1976 ألغى حق الإمارات الأعضاء في الاتحاد إنشاء قوات مسلحة وحصر الحق في الحكومة الاتحادية، وفي نفس التاريخ مدد العمل بالدستور المؤقت خمس سنوات أخرى وفي 7 نوفمبر 1981 مدد خمس سنوات أخرى وفي 10 أكتوبر مدد كذلك خمس سنوات أخرى ليتبعها تمديد آخر مماثل في 28 أكتوبر 19991، وفي 2 ديسمبر عام 1996، وبعد أن تيقن الجميع من نجاح التجربة صدر في 2 ديسمبر عام 1996 بتعديل الدستور وإلغاء كلمة مؤقت حيثما وردت وبذلك أصبح دستور 1971 المؤقت دستورا دائما دون تعديلات تذكر خلال 20 عاما. إن أول ما يستلفت النظر في دستور الإمارات العربية المتحدة حقيقتان بارزتان: الأولى لغة الديباجة الأخرى محتوى الدستور. جاء في الديباجة، أي مقدمة الدستور »ورغبة كذلك في إرساء قواعد الحكم الاتحادي خلال السنوات المقبلة على أسس سليمة، تتمشى مع واقع الإمارات وإمكاناتها في الوقت الحاضر وتطلق يد الاتحاد بما يمكنه من تحقيق أهدافه، وتصون الكيان الذاتي لأعضائه بما لا يتعارض وتلك الأهداف، وتعد شعب الاتحاد في الوقت ذاته للحياة الدستورية الحرة الكريمة، مع السير به قدما نحو حكم ديمقراطي نيابي متكامل الأركان في مجتمع عربي إسلامي متحرر من الخوف والقلق«. إن النصوص أعلاه لم تستوعب التعديلات التي يمكن أن تكون قد حدثت بعد التواريخ المذكورة ولكنها تبرز أن الشرعية الدستورية تحاول باستمرار أن تقترب من الشريعة وأن تجد لها مكانة ما في المادة الدستورية وضمن القوانين الأساسية لهذه الدول.