نواصل الحديث عن موضوع شائك قديم وحديث بدأناه قبل اندلاع الأحداث الأخيرة في العالم العربي إذ صدرت أول حلقة منه يوم الجمعة 26 نونبر 2010 . وهو موضوع أزمة القيادة في المجتمعات الإسلامية وما كدنا نعيد تحيين ما سبق نشره في سنة 1970 حتى طفا على السطح ما سمي بفضيحة (ويكيليكس) التي نال منها القيادات في المجتمعات الإسلامية أوفى نصيب ثم جاءت بعد (ويكيليكس) رياح التغيير التي هبت على تونس ومصر وذهبت بطاغيتي البلدين وعنصرين من عناصر أزمة القيادة بين الشعوب والمسؤولين في المجتمعات الإسلامية.. وتحدثنا عن غياب الفكر باعتباره مظهرا من مظاهر الأزمة كما تحدثنا عن الحرية باعتبارها مظهرا من مظاهر أزمة الحكم في المجتمعات الإسلامية وذلك على مستويين المستوى الأول: تأصيل مفهوم الحرية، والمستوى الثاني وضعية الحرية في المجتمعات الإسلامية. وتحدثنا عن الأوضاع الاجتماعية والدينية والسياسية التي أفضت بالعالم الإسلامي إلى الوقوع في يد الاستعمار والصليبية الغربية في القرون الثلاثة الأخيرة: 18 _ 19 _ 20 الميلادية. وفي الحلقة الثامنة عشرة نواصل تحليل الأوضاع في العالم الإسلامي في نفس الفترة دون إغفال الإشارة ولو عرضا لما يحصل حاليا بين الشعوب والقيادات في العالم الإسلامي، نظرا للترابط الحاصل بين ما يحدث الآن في العالم الإسلامي أو في أجزاء كثيرة منه وبين الواقع في فترة بداية النهضة التي تحدثنا عنها. وإذا كنا تحدثنا في القسم الأول و الثاني من الحلقة السابعة عن المسألة الدستورية في المغرب ورأي قائد متميز من قيادات الشعوب الإسلامية التي تشكل جزء من الاستثناء، فإننا في هذه الحلقة نقدم نموذجا آخر من القيادات العلمية والشعبية الوفية والمخلصة لأمتها. مؤتمر الانبعاث والاستمرار في شهر أبريل من سنة 1958م التأم بمدينة طنجة مؤتمر ضم أحزاب ثلاثة هي: حزب الاستقلال من المغرب والحزب الدستوري التونسي وجبهة التحرير الجزائرية، وكان المؤتمر بدعوة من حزب الاستقلال وترأس المؤتمر الزعيم علال الفاسي، وقد كان المؤتمر في الواقع بعثا واستمرار للتنسيق الذي كان سائدا بين الأحزاب الثلاثة منذ أوائل الكفاح الوطني وتعمق بما اتخذ من قرارات على مستوى مكتب المغرب العربي بالقاهرة ومن هنا كانت الآمال المعقودة على هذا المؤتمر عريضة لدى شعوب المغرب العربي، لأن المؤتمر انعقد والمغرب وتونس استرجعا استقلالهما والجزائر بمساعدة القطرين الشقيقين المستقلين تخوض حربا ضروسا ضد الاستعمار الأجنبي الذي كان بدوره يخوض حربا يائسة كان لها انعكاس على وضعه الداخلي واستقراره إذ في نفس السنة عرفت فرنسا البلاد المستعمرة بالإضافة إلى ما تعانيه من حربها في الجزائر قلاقل داخلية بسبب هذه الحرب، وقد كانت سعت من خلال الاعتراف باستقلال المغرب وتونس إلى تخفيف الضغط عنها من لدن المغرب وتونس لتتفرغ للجزائر بكل قواتها وإمكانياتها وإمكانيات حلفائها. خريطة الطريق للتنمية والوحدة لقد كان الرأي العام في المغرب العربي ينظر إلى المؤتمر بتفاؤل كبير ولاسيما وقد جاء مباشرة بعد الوحدة بين مصر وسوريا وتأسيس الجمهورية العربية المتحدة وسعي الأردن والعراق لتأسيس وحدة مماثلة بين المملكتين الهاشميتين. كانت الشعوب في هذه المرحلة تواقة للوحدة ومؤمنة بها وترى فيها الإنقاذ للبلدان المغاربية من الاستعمار ومن التجزئة وطريقا من اجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والخروج من وهدة التخلف، والانتقال إلى مصاف الدول التي تبني اقتصادها بمنهج جديد وفكر جديد ويمكن النظر إلى المؤتمر على أنه خطة طريق للتنمية والوحدة. وكانت أدبيات المرحلة غنية بهذا التوجه الوحدوي التحريري وكان الناس يعيشون أجواء خاصة طافحة بالتفاؤل بالمستقبل الموحد للمغرب العربي وللعالم العربي والإسلامي، ولاسيما ووفود الشرق تأتي لزيارة القطرين المستقلين وأواصر الثقافة والوحدة بادية من خلال تلك الزيارات وما يعبر عنه المسؤولون في تصريحاتهم وما يكتبه الأدباء والصحفيون في الصحف والمجلات كل ذلك كان زاد محركا لروح الوحدة في النفوس. أدبيات المرحلة والتفاؤل والواقع أن هذه الروح لم تكن وليدة اللحظة لتي انعقد فيها المؤتمر أو أعلن فيها عن خطط الوحدة واتفاقياتها بين الحكومات والهيآت وإنما جاء كما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه نتيجة طبيعية للعمل الذي قام به المناضلون والمفكرون والأدباء وهيآت الطلبة والشباب ومختلف القوات الحية في الأمة طيلة بداية الكفاح الوطني في أقطار المغرب العربي بل و في غيرها من الأقطار العربية الأخرى. فإذا نحن تصفحنا دواوين الشعر التي أنتجت في تلك المرحلة أو رجعنا إلى الدوريات والصحف على قلتها وما نشر من أبحاث وتم من تزاور بين مختلف الشخصيات وعقد من مؤتمرات وندوات للجمعيات المشتركة بين أقطار المغرب العربي أو التي تعمل في نفس المجال كالطلبة والشبيبة والكشفية والأحزاب والهيئات النقابية والجمعيات الدينية وغيرها كل ذلك مهد لهده الروح الوحدوية التي تجمع بيم الشعوب في المغرب العربي. دور المؤسسات العلمية وكانت المؤسسات العلمية مثل القرويين والزيتونة و ما يشبههما من مدارس ومعاهد أسست حديثا في الجزائر من اجل التحضير للدراسة في الجامعتين العرقيتين أو لحذو حذوهما مثل دار الحديث التي أسستها جمعية العلماء المسلمين بالجزائر والمعهد الذي أسسه أحد مؤسسين الجمعية وأول رئيس لها الشيخ عبد الحميد بن باديس، كل ذلك جعل الروح النضالية السائدة متجانسة والأرواح إذا كانت متجانسة ومتعارفة فليس لها من سبيل أو طريق إلا الائتلاف وصدق من قال الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وقد تعارفت بالفعل هذه الأرواح في مجال النضال والعمل الدؤوب من أجل تحقيق الحرية والوحدة وتجاوز ثقافة التجزئة وبواعث الفرقة إن الإنسان وهو يطالع هذه الصفحات المشرقة من نضال تلك الصفوة من الشباب في تلك المرحلة وحتى عندما تجاوزت مرحلة حماسة الشباب إلى مرحلة متقدمة في العمر فإن ذلك المدى الذي مر من العمر مكن من ترسيخ وحدة العمل ووحدة الأمل ووحدة المصير في النفوس. التذكير بشخصية من المرحلة وقد رأيت من المناسب في هذه الذكرى جعل حديث الجمعة يتناول موضوع التذكير بشخصية من شخصيات العلم والثقافة والوحدة في المغرب العربي بل في العالم الإسلامي، وإذا قلت التذكير فإنني أعني ما أقول فليس بإمكاننا في هذا الحديث ذي الحيز المحدود ان نلم بحياة شخصية من مستوى هذه الشخصية العلمية الفذة والشخصية الوطنية المتميزة لقد اعتاد الناس ان يقولوا عن بعض الشخصيات ان السياسة حالت بينهم وبين البروز في الأدب أو الثقافة أو الفكر لأن مباشرة العمل السياسي يحجب أو يؤثر في العمل في هذه المجالات، أما هذه الشخصية التي نذكر بها اليوم وبدورها فإن العكس هو الذي حصل فقد غطى جهادها العلمي والثقافي عن جهادها ونضالها السياسي، فالناس عندما تحدثهم عن هذه الشخصية التي برزت في العمل السياسي والعمل النقابي وكان لها الفضل في تأسيس الاتحاد العام للعمل التونسي وتولي الرئاسة الشرفية للتنظيم في مؤتمر 46 وتولى فرحات حشاد الكتابة العامة يستغربون فهذه الشخصية المعممة والتي تغدو وتروح بين المساجد والمعاهد العلمية محاضرة وواعظة وموجهة كانت مؤسسة للعمل النقابي مع ما يتطلبه العمل في هذا الميدان من صفات ومؤهلات قد لا تكون الثقافة في تلك المرحلة من شروط الوجود فيها وبصفة خاصة الدينية من بينها. الثقافة الإسلامية والنضال الاجتماعي وهذا في الواقع إنما يأتي من قلة إدراك الناس لعمق الثقافة الإسلامية وما تتضمنه من قيم النضال والعمل في سبيل إسعاد الناس وإنصاف العمل والعاملين والذين يستغربون لاشك أن استغرابهم سيزول أو يزداد عندما يعرفون كذلك أن العمل النقابي في المغرب الأقصى عرف انطلاقته الأولى والأساس على يد العلماء علال الفاسي بوشتى الجامعي وعبد العزيز بن إدريس ...الخ. ولذلك فإن هذه الشخصية التي نتحدث عنها ونحن نستقبل فاتح مايو عيد العمل والعاملين كان العمل النقابي جزء من نشاطها المتميز وقد كان نشاطها السياسي بارزا وقد بلغ في هذا المجال كذلك نشأوا كبيرا في مؤسسات الحزب الحر الدستوري الجديد. وفي هذا الصدد يقول علال الفاسي: (ومن المعلوم أن الفقيد انتخب مستشارا أمينا في الديوان السياسي، كما كان له وإخوانه طلبة الزيتونة موقف حاسم من المؤامرات الاستعمارية على الإسلام والقومية التونسية وغارة منظمة على العالم الإسلامي. أما بعد الاستقلال، فقد بذل جهودا مشكورة في التوفيق بين تعاليم الإسلام ومقاصد الدولة في إصلاحاتها، وكان في دلك مرنا واسع الأفق وقد مثل تونس في كل المؤتمرات والمجتمعات التي تعمل للإسلام، ولإيقاظ الشعوب الإسلامية وتوحيدها.) من كلمته في تأبين الفقيد بتونس «اعلام من المغرب العربي والمشرق» ص: 242 . شهادة ومعاينة وهكذا يتضح أن شخصية الرجل شخصية فذة ومتميزة يشهد له بهذا التميز الكثيرون ولقد كانت هذه الشخصية تبهرنا بطريقتها المتميزة التي كانت تلقى بها المحاضرات والدروس في المغرب أثناء مساهمتها في الدروس الحسنية، وإذا كان الفضل يعرفه ويعترف به ذوو الفضل لاخوانهم ورفاقهم في الفصل فإن هذه الشخصية نالت إعجاب الكثيرين وقد أشرنا إلى ما قاله الزعيم علال الفاسي في شأنه من الوجهة السياسية، ونغتنم هذه الفرصة لتسجيل جزء من الشهادة التي أدلى بها الأستاذ علال الفاسي في تأبين الفقيد بتونس بمحضر والده الشيخ الطاهر بن عاشور فهو يرى أن أهم ما ميز شخصية الفاضل بن عاشور جوانب ثلاثة: الجانب الأول: ما يرجع لثقافة الأستاذ فقد كان رحمه الله مثقفا بكل معنى الكلمة مطلعا على شتى العلوم الإسلامية مقتدرا جادا في إبرازها درسا وإملاء وكتابة. أما الجانب الثاني: ففي روحه الوثابة التي دفعته للمساهمة في بناء وطنه داخل الحركة الوطنية الدستورية، طيلة أمد الكفاح الأول من اجل الإصلاح وفي سبيل الاستقلال. وكان- رحمه الله- يؤمن بضرورة الوحدة المغربية ويعمل لها. ويرى في بعث اللغة العربية وإنمائها خير رباط لهده الوحدة. أما الجانب الثالث: فهو تدينه الصادق، ومواظبته على القيام بشعائر الإسلام على الصفة التي يجب أن يقوم بها المؤمن التقي والعالم العامل. وقد جمعني الله به في مواسم الخير. فحججنا معا مرتين، واشتركنا في أداء العمرة مرارا. وكان نزل الرابطة يجمع بيننا في بيت واحد بمنى، فكنت أرى من حرصه على أداء الصلوات في أوقاتها، ومن القيام بالنوافل وتلاوة القرآن، وقراءة الدعوات النبوية الصالحة، ما حببه إلى قلبي، ورفع من قيمته في نفسي. ولقد كتب الرجل وحاضر وخطب في الدعوة إلى الوحدة بين المسلمين كما عمل نفس الشيء في الدعوة للوحدة العربية وللوحدة المغاربية وكتب في ذلك فصولا رائعة وممتعة وهو في هذا يكتب مدافعا ومؤيدا لوحدة المغرب العربي وعندما يكتب يؤصل لهذه الوحدة من البداية ويرى أن عوامل الوحدة المغاربية أقوى من غيرها ولعل البرور بالرجل وذكراه أن نستحضر بعض ما كتبه في هذا الصدد: تأسيس فاس ومقاومة العبيديين: يقول في بحث له عن وحدة المغرب العربي تحت عنوان (وحدة المغرب العربي بالثقافة الإسلامية)، وهو يرجع بهذه الوحدة إلى أصولها مبتدئا بفاسوالقيروان. «وقد كان في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث رحل من القيروان إلى البلاد المغربية القاصية رجل من السلالة العلوية الطاهرة: هو الإمام إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فأسس مدينة تلمسان، وصمم على تأسيس مدينة فاس، ثم ترك تحقيق هذا القصد لابنه المولى إدريس الأزهر، وأسست مدينة فاس فعلا وتعاقب فيها الأمراء الأدارسة من محمد بن إدريس وعلي بن محمد ويحيى بن محمد الذي بني في عهده جامع القرويين في منتصف القرن الثالث وشع نوره في القرن الرابع باستقرار الإمام إدريس بن إسماعيل الذي به تكوّن المركز العلمي بمدينة فاس وجامع القرويين في أوائل القرن الرابع. وكان القرن الرابع قرن الفتنة العبيدية التي أقلقلت البلاد المغربية بأسرها وقامت في وجهها مراكز الثقافة الإسلامية فثبتت وصمدت حتى قهرتها واكتسحتها بحركات المقاومة المثالية التي ظهرت في تونسوفاس وقرطبة في وجه العبيديين، وبذلك برزت الوحدة الفكرية بين هذه المعاهدة». وبعد ذلك ينتقل الباحث لدور أبي عمران الفاسي في تشكيل الوحدة المذهبية بعد الانتصار على العبديين فيقول: أبو عمران وتشكل الوحدة المذهبية: وكان عمل القيروان في إتمام إسلام صنهاجة بدعوة الإمام أبي عمران الفاسي وظهور حركة المرابطين في أواخر القرن الرابع، فأصبحت الدعوة موجهة على المنهج المالكي الذي هو منهج الفقه بالحديث. وظهر من أيمة هذا الدور من رجال الأندلس العالمان المشار إليهما في الفقه والحديث وهما القاضي أبو الوليد الباجي والإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر، إلا أن روح الجدل والمناقشة والكلام في الأصول والعقائد التي اضطر إليها رجال الفقه والحديث في عهد المقاومة للدولة العبيدية وجهت التفكير الإسلامي في المغرب توجيها جديدا صوب علم الكلام وعلم أصول الفقه. الغزالي والاشعرية بالمغرب: ويربط الباحث الفقيد بين تطور الاجتهاد الفقهي وعلم الكلام بما حصل في الشرق على يد أبي حامد الغزالي فيقول: وكان هذا الاتجاه الجديد في الوقت الذي حمل فيه هذين العلمين الأصول والكلام، حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي في الشرق، وتأثر به الإمام أبو عبد الله المازري في المغرب، وتكون على هذه الطريقة الإمامان الأندلسيان المغربيان العظيمان القاضي أبو بكر بن العربي والقاضي عياض، فجاءت العناصر الكلامية الأصولية على يد هؤلاء تنضم إلى العناصر الفقهية الحديثة، وجاءت العقيدة الأشعرية تكون عنصرا جديدا منسجما مع العنصرين الفقهي والسني اللذين قامت عليهما الطريقة المغربية. هكذا أمكن الجمع بين الأشعرية والمالكية، والجمع بين الاعتماد على الكلام من جهة والاعتماد على الحديث من جهة أخرى، وظهرت روح الثقافة الإسلامية في المغرب التي تولدت عنها الدولة الموحدية، وقامت على أصولها جامعة أقطار المغرب الخمسة الأندلس والمغرب الأقصى والجزائروتونس وليبيا. التصوف الرشيد وتلافي المقومات المذهبية: وتحدث الفقيد في هذا السياق عن العنصر الثالث الذي يجمع أقطار المغرب العربي من الوجهة المذهبية والروحية فقال: وبسقوط الأندلس، وبالحروب الداخلية التي قامت بين الدول المتفرعة عن الدولة الموحدية، والانحلال الاجتماعي الذي ظهر إثر فتور العاطفة الدينية، أتى عنصر جديد هو العنصر الرابع، وهو التصوف الرشيد، ونعني به التصوف الذي يسند الفقه ويعتمد على السنة ولا يجافي السلفية، وهو المنهج الصوفي الذي عليه الإمام أبو القاسم الجنيد، والذي خططه الإمام القشيري في الرسالة، والذي أقام عليه الطريقة الصوفية الإمام عبد القادر الجيلاني وبه تكون الإمام أبو مدين دفين تلمسان. وعلى طريقة أبي مدين تخرج أصحابه من أمثال أبي سعيد الباجي التونسي دفين جبل المنار والشيخ أبي محمد عبد العزيز المهدوي دفين ضاحية المرسى، وهؤلاء هم الذين تكون وتخرج عليهم الإمام أبو الحسن الشاذلي الذي أصبحت طريقته دعوة صوفية سليمة رشيدة تحاول أن تعالج في نفوس الناس التحلل الخلقي والفساد الاجتماعي والفتور الاعتقادي الذي لا يمكن أن يعالج إلا من هذا الطريق. بذلك تلاقت كل المقومات الذهنية المغربية والعربية، هذه العناصر التي كانت متباعدة فيما بينها من الفقه والحديث والأصول والتصوف، وبها برز أعلام جمعوا من هذه النواحي ما لم يجمع غيرهم منها في عصر آخر ولا قطر آخر. الاحتلال الأجنبي من جديد ويستعرض المؤلف ما عرفته أقطار المغرب العربي من تطور فكري وثقافي وما عاشته من صراعات داخلية ومع الغزو الأوروبي وما كان بينها وبين هذا الغزو من حروب لينتهي إلى عودة الاحتلال الأجنبي باحتلال فرنسا للجزائر وفي هذا يقول: «وعاد الاحتلال الأجنبي من جديد يبدي أمام الأبصار الشبح المزعج الذي عرفه الناس من الاحتلال الاسباني، وذلك باحتلال فرنسا للجزائر. فكان ذلك محركا لأن ينظر أصحاب القلوب الواعية والنفوس الشاعرة إلى ما أصاب الإسلام من تقهقر وانخذال، وأن يجمعوا بين مشاهدة الواقع المادي من جهة وبين ملاحظة الحقيقة الإيمانية من جهة أخرى فحين أرادوا أن ينظروا إلى أن الله تعالى قد وعد المسلمين بالنصر وكتب لهم العزة مع أنهم ليسوا بمنصورين في الواقع ولا بأعزاء». انتباه القلوب المشرقة ان هذا الواقع الجديد الذي فرض على الأقطار المغاربية أثار انتباه المسلمين وتساؤلاتهم عن أسبابه ودوافعه، وعندما أدرك الناس الأسباب والعوامل التي أفضت إلى هذا الواقع يقول الفقيد: «انتبه أصحاب القلوب المشرقة منهم وقليل ما هم إلى أن هذا الأمر الذي أصاب المسلمين إنما هو أمر ناشئ من كونهم لم ينصروا الإسلام أو لونهم ابتعدوا عن الإسلام أو لأن الحقيقة الإيمانية الأولى التي كونت المجتمع الإسلامي قد أصبحت حقيقة مطموسة، وأن هذه الحقيقة ينبغي أن تجدد في النفوس أولا ثم تجدد في معالم السلوك ثانيا. فإذا ما تجددت العقيدة الإسلامية في النفوس ثم ظهرت في معالم السلوك فإن المسلمين يكونون يومئذ أحقاء بأن ينالوا النصر الذي ضمنه الله تعالى لهم إذا أعطاهم نصرا بنصر «إن تنصروا الله ينصركم»، والعزة التي جعلها معلقة على الإيمان، إذا كان الإيمان كاملا كانت العزة كاملة وإذا كان الإيمان ناقصا أصبحت العزة ناقصة. السنوسي والقرويين ان الداء الذي أصاب المسلمين أصابهم في عقيدتهم وفي سلوكهم هذا ما يقوله المؤلف وهو ما أدركه دعاة تجديد أمر الدين ودعاة الإصلاح الاجتماعي في مراحل مختلفة وفي أقطار إسلامية متعددة ولكن الفقيد وهو يتحدث عن وحدة المغرب العربي فهو يختار شخصية مغاربية لها باع طويل ومكانة متميزة في حركة التجديد والإصلاح فيقول: وهذه هي الشعلة الإيمانية والاعتقادية التي خرج بها الإمام العظيم محمد بن علي السنوسي من جامع القرويين في المغرب الأقصى فعاد إلى وطنه الجزائري، ثم دخل البلاد التونسية، ثم صمم على أن يطلب بهذه الحقيقة الإيمانية المستودع المأمون عليها في البلاد الليبية، فاجتمعت بذلك أقطار المغرب العربي الأربعة في شخصه، وتجددت الثقافة الإسلامية على منهجها الذي زايلها منذ قرون: صوفية سلفية غير ضيقة، وفقه حديثي على الأدلة لا يلتزم التقليد. وعلى ذلك المنهج تتابعت الحركات الإصلاحية تسعى إلى تجديد وحدة المغرب العربي بجمع شتات ثقافته الإسلامية». على منهج التجديد والاشراقات الروحية ان هذه الروح الإسلامية الفياضة التي تنبع من هذه التحليلات الرائعة لفكرة الإصلاح والتجديد كان الرجل مشعا بها وعاملا من أجلها وقد توفر له من روح الإيمان الصحيح والربانية الخالصة ما ساعده على القيام بدوره، ونختم هذه الشذرات بفقرة من شهادة المرحوم علال الفاسي في الفقيد من الوجهة الروحية يقول وهو يتحدث عن مصاحبة الرجل في اجتماعات رابطة العالم الإسلامي (... وكان نزل الرابطة يجمع بيننا في بيت واحد بمنى، فكنت أرى من حرصه على أداء الصلوات في أوقاتها، ومن القيام بالنوافل وتلاوة القرآن، وقراءة الدعوات النبوية الصالحة، ما حببه إلى قلبي، ورفع من قيمته في نفسي). ثم يقول: إن شخصية الشيخ ابن عاشور تتمثل أكثر في هذا الجانب الديني الذي أصبح التمسك به اليوم غريبا وعزيزا. وإنه ليلذ لي أن أروي هنا تجربة روحية جرت لنا معا. ففي شهر رجب من السنة الفارطة، اعتمرنا واجتمعنا في الرابطة ثم دعانا الأمير مشعل للمشاركة في غسل الكعبة المشرفة، كالعادة في مثل هذا الوقت من كل عام، فدخلنا الكعبة، وصلينا ركعتان في جوانبها الأربعة، تحقيقا لقوله تعالى: «فأينما تولوا فثم وجه الله». ثم بدأنا نفيض على الأرض من الماء الطيب، في خضوع يذهل الواحد منا عن الآخر. وأخذت مكنسة من ذوات العصا لأعمم بها الماء المطيب بالورد والزهر على الأرض الطيبة، وإذا بالفقيه يبحث عن مكنسة مثلها، فأخذت بيده، وقلت له: لنشترك معا في هذه. وأخذنا نواصل العمل معا. وإذا بالشيخ يخشع ويأخذه البكاء ويأخذ بيدي يقبلها. فقبلت يده، وأصابني من الوجد والبكاء ما أصابه. ووفقنا نسبح ونحمد الله. ودعوناه سبحانه للإسلام والمسلمين بما نرجو من الله قبوله. وقد استحضرت بعد ذلك قول الشاعر: فلو قبل مبكاها بكيت صبابة بسعدي، شفيت النفس قبل التندم ولكن بكت قبلي، فهيج لي البكا بكاها، فقلت: الفضل للمتقدم هكذا تحدث علال الفاسي عن الفاضل بن عاشور ولا يعرف الفضل لذويه إلا ذووا الفضل وقد كان الفاضل أسمى على مسمى رحم الله الجميع.