الحديث عن العُنف في مجتمعات "الحداثة السائلة" اليوم هو بالتدقيق عُنف مُؤَمَّم، وقد لا أعلم حقيقة هل يكون هذا التوصيف مُوفقا إلى حد ما؟ وفي جانب منه، عُنف مُركب، مثل أي سِلسلة غذائية يتحدث عنها علماء الاحياء. من شأن استجلاب عنصر واحد دون باقي العناصر الأخرى أن يوُلد تحليلا مَعيبا ومُبتذلا…يجب أن ننطلق من تفصيل جوهري، أن العُنف لا يمكن أن يُقرأ كجريمة فردية معزولة، وإنما كفشل جماعي يُسائل الجميع، مؤسسات حكومية وغير حكومية، أفراد وجماعات وِفق ما تنتهي إليه الصحافية المغربية هاجر الريسوني في تدوينة أخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي…علينا أن نفتح أعيننا جميعًا على كمية العنف التي بدأت تكبر داخل البالونة المغربية، بالنظر إلى حجم الضغط النفسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يزحف على الجميع، ويُفرز اختلالات عميقة في السلوك، ويزيد من أدرينالين التوتر والاحتراق النفسي والمهني…لأن العُنف، لا يسقط سقوطا مِظليا، ثَمَّة موجبات، في الاجتماع، في السياسة، في الاقتصاد، في التربية…يتعلق الأمر، بسرطان يتمدد داخل الجسد دون تدخل جراحي. هنا يطرح السؤال: من يستفيد من العنف؟ كيف يُفسَّر هذا السكوت؟ وإلى متى سنساهم بفرجويتنا في تضييق أقواس العنف؟ العنف كما يظهر اليوم هو تجَلٍّ واضح وفاضح لفشل السياسات العمومية ولاختيارات الفاعلين السياسيين وسياسات التهميش والاقصاء التي وَلدَّت الاحتقان…وهناك قراءة أخرى، تَقرأ العُنف على أنه عُنف سيميائي، ينطلق من كاميرا التسجيل ليصل بسرعة قياسية إلى الجميع، ويخلق نوعا من الفلكلورية التي تُحقق المتعة والفرجة والانتشاء…متى انطلقنا من هذه التدقيقات، يصير العنف التربوي مثلا امتدادا طبيعيا لإعادة انتاج العنف المجتمعي الشامل، وربما بنوع من الانزياح إن أمكن، يُمكن توصيف ظاهرة تعنيف الأساتذة مثلا التي صارت طقسا يوميا بمثابة قتل الأب، الأب السلطوي، بما هي صورة تستضمر في مِخيال الطفل السلطة والنفوذ… والحال، أننا صِرنا لا نتحدث عن ظاهرة مُحددة في الزمان والمكان والفاعلين، تتضمن خصوصية معينة، بل أمام معاينات لتشكلات بِنية استعراضية يصعب القبض عليها، واختزالها في عناصر فهم دقيقة والوصول بها إلى مرحلة فرز توصيات قابلة للتنزيل…صحيح أن العُنف من حيث النشأة ممارسة تاريخية قديمة، وجوهر العملية المُحركة للفعل التاريخي، لكن الاجتماع البشري منذ عهود قديمة كان قد أوجد صيغا قانونية وأخلاقية تلجم السلوكيات العنيفة وتجعلها خاضعة لسلطة القاعدة القانونية محققة لفعل التوافق السياسي… واضح اليوم، أن القواعد القانونية لم تَعد تفي بالغرض، خاصة حينما يتعلق الأمر، بالجانحين ومُمتهني العمليات الاجرامية وذوي السوابق والمنتسبين إلى التنظيمات السرية والمقصيين مما يُطلق عليه تلطفا ب"سياسات الادماج الاقتصادي"…هنا في المغرب، وأمام وجود استراتيجيات الإدمان التكنولوجي يبدو أن هناك تطبيع مع مَشهديات العنف: عنف أسري، عنف جنسي، عنف مدرسي، عنف اجتماعي، عنف اقتصادي، عنف بيئي، عنف ديني…وقد نُجازف بالقول أننا أمام سلوكات عادية جدا في معاش الأفراد، يلتقون معها في الشوارع، في المدارس، في الأسر…وحتى على مستوى الخطاب اليومي، يُمكن أن نصل إلى أن هناك كمية زائدة من العنف في جينات المغاربة، عنف ممأسس في الفضاءات العمومية، وآخر ناشئ ومتمدد في الفضاءات الافتراضية… عمليا، تتسع هوامش العنف في المجتمعات التي يتعثر مشروعها السياسي والاقتصادي، وتضيق فيها أقواس الحوار والتواصل، وتتقلص من داخلها مساحات التعبير والابداع…هنا، يبحث العنف عن فجوة للتمدد، ويفرض نفسه كفاعل كبير، وكسلاح لإثبات الذات، وكممارسة متوجهة رأسا نحو تقويض مكتسبات الاجتماع البشري. وإذا أردنا أن نقترب أكثر من هذه البِنية علينا أن نطرح الأسئلة التي تجعل الشباب ينتهجون العنف من أجل تدبير معاشهم الوجودي…هناك اقتناع كبير عند البعض بأن الشخص العنيف يرغب في اظهار القوة لترهيب السلطة، السلطة هنا، قد تكون سلطة أمنية، أو سلطة تربوية…يعتقد الشخص أنه بالتعبير الدارجي "واعْر" ويُحسن "لمعاطية"…وبمقدوره أن يتحدى الجميع، ولا يهاب من سلطة القانون…وبتتبع السلسلة من الجِذر كما يقال، فنزع السلطة من الأب، من الأسرة، من المدرسة، من الفقيه، من الشرطي، من الدركي…كلها مُمهدات لارتقاء العنف نحو مستويات عليا من شأنها تهشيم بُنيان العمران البشري، والعودة بالأمور إلى أزمنة الاحتراب والتدافع العنيف من أجل تأمين البقاء البيوكيميائي. والحق، أن للعنف سياق عام حاضن، يتغدى من أزمة القيم التي ولجتها بشرية اليوم بشكل غير مسبوق، والتي من مظاهرها تراجع دور الأسرة في التربية، وعدم قُدرة المدرسة على الصمود أمام العنف المركب، والتمدد السريع لوسائل الإعلام ومواقع التواصل الحديثة في تسويق النماذج العنيفة داخل المجتمع والاحتفاء بها علنا وضرب الرموز وتعويضها بالمؤثرين وصناع المحتوى الهابط… أعتقد، أنه من الخطأ، أن نراهن على المقاربة القانونية والأمنية في الحد من خطورة التمدد، لأنها أظهرت وستظهر بأنها غير كافية لمعالجة النزوعات العنيفة…والحقيقة، أن الأمر يتطلب اصلاحا عاما وشموليا، يبدأ من الأسرة من خلال الاهتمام ببِنيتها ومشاكلها النفسية والاجتماعية والاقتصادية، ويصل إلى المدرسة من تكاثف جهود الفاعلين التربويين من أجل صياغة ترسانة تربوية تساعد على الادماج الآمن للمتعلمين في بيئة سليمة للتعلم، وترتقي بعدها إلى معالجة مشاكل الاكتظاظ والخريطة المدرسية ونقص الموارد البشرية…وبالشكل الذي يُعزز من قيمة الممارسات المهنية الفاعلة، وينهض بالوضع المادي والاجتماعي لهيئة التدريس…إلى أن يصل الأمر، نحو الاهتمام بالصحة النفسية للمجتمع المدرسي التي تُصرَّف في اختيارات اقتصادية واجتماعية واضحة تُحقق بقدر الإمكان "التمكين الاقتصادي" للأفراد، وتؤهلهم للاندماج الشامل في النسيج الاقتصادي… هناك حاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى إلى فتح نقاش عمومي مَُّوسَّع حول بِنية العنف وما يقتضي ذلك من تدقيق المسؤوليات وتنظيم العلاقات المهنية تنظيما قانونيا يراعي حق المتعلم في التمدرس، وحق الممارسين في الاشتغال ضمن بيئة آمنة ومحترمة للكرامة ومستوعبة للحق في الحياة كحق مقدس يعلو على كل شيء. باحث وناقد