أولا: في رصد ظاهرة العنف تسمح الملاحظات والمتابعات اليومية والمتتالية بالمغرب، إلى القول بأن بلدنا يعيش على وقع موجات متعددة من أشكال العنف، سواء اللفظي أو الجسدي أو الرمزي أو حتى العنف المفضي إلى الموت (كما وقع في نهاية الأسبوع الذي نودعه والذي فقد فيه الشاب الحسناوي، الطالب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، حياته على إثر العنف الإديولوجي الاعمى). ومن بين ما يمكن استنتاجه في هذه المتابعات، هو أن العنف أصبح موجها نحو الذات لذاتها (لعل من أبرز معالمه الكبرى، تكرر حالات الانتحار بالوسطين القروي والحضري)، أو العنف الموجه نحو الآخرين، أي المجتمع. و الملاحظ في هذا السياق، أن ظاهرة العنف، لا تشمل الجامعة وحدها، بل إنها تعم كل مجالات المجتمع، وتمس كل الفئات والشرائح، بدء من رموز الدولة (حالة السيد نبيل بن عبد الله"وزير السكنى وسياسة المدينة، أو السيد الوردي "وزير الصحة)، أو حالة الأساتذة في الجامعة المغربية، (ليس آخرها بطبيعة الحال، الأستاذ عبد المالك ورد، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس)، أو الأساتذة في جميع مستويات التعليم الثلاثة. بل إن العنف يمس حتى أفراد المجتمع في الشارع العام وفي المرافق الحكومية وفي الملاعب الرياضية، وحتى داخل الأسر (لعل من أفضح حالاته قتل الأصول). وحتى في الاستحقاقات الانتخابية، نشهد موجات من العنف و"التشرميل" بكل صورهما ومظاهرهما (لعل الانتخابات الجزئية التي مرت في الشهور الأخيرة، وفي الأيام الأخيرة، خير دليل على هذا النموذج الفاقع). ولكي نوضح أكثر طبيعة التطور الذي هم ظاهرة العنف، فإن الأرقام الأخيرة التي أعلنتها مصالح الأمن، تبين إلى أي حد هناك ارتفاع لحالة الجريمة بالمجتمع المغربي، حيث وصل العدد إلى أزيد من 500 ألف حالة مسجلة (هذا مع التأكيد أن هذا الرقم يبقى تقريبيا، و غير دقيق ولا يعبر عن حقيقة الوضع) وعموما هناك العديد من حالات التي يصعب رصدها كلها أو الإحاطة بها جميعها. بمعنى آخر، نحن أمام عنف أفقي وعمودي يحصد الجميع ويتأثر به الجميع. لهذا فنحن نجازف بالقول، من خلال هذه المتابعات العفوية وغير البحثية، إلى أننا اليوم، أمام ظاهرة سوسيولوجية شاملة، أو بتعبير "مارسيل موس" فنحن أمام" fait social total Un ". أو كما قال "جون بودريار":" إنه لا يكفي مصطلح العنف لتشخيص عنف العالم، بل يفترض الحديث عن فيروس العنف، أو حمى العنف. هذا العنف الذي نحياه اليوم فيروسي، يسري كالعدوى، فيقتل تدريجيا كل ما لدينا من مناعة، وما لدينا من قابليات على المقاومة" (بوعزيزي،2009) وعندما نقترب من التفسير السوسيولوجي لظاهرة العنف، فإننا نريد أن نؤكد أن العنف ليس ظاهرة فردية معزولة في الزمان والمكان، بل هو ظاهرة اجتماعية وعامة، وبالتالي فهو وليد شروط ومسببات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية وتنموية حتى، ويتقاطع فيها ما هو محلي بما هو كوني وعالمي. ولعله من خلال هذا التوصيف، تتقاذفنا مجموعة من التساؤلات الحارقة والمقلقة في الآن نفسه: هل نحن أمام تحول جذري في منظومة القيم المجتمعية التي تشكل الروابط الاجتماعية للمجتمع المغربي؟ هل تعبر حالات العنف عن وجود أزمة قيم، أم قيم الأزمة؟ وهل هذه الظاهرة، تنبئ عن إفلاس النموذج التنموي بالمغرب، الذي لم يستطع لحد الآن أن يقدم أجوبة ملموسة وواقعية للكتلة الحرجة، .ونقصد بطبيعة الحال الفئة الشابة من المجتمع المغربي؟ ولهذا نبه الباحث "كورباج" أنه يجب النظر إلى الفئات العمرية للسكان على أنها معامل أساس في نشوء السلوك العنيف"( كورباج،2013). وهل يؤشر هذا العنف عن وجود أزمة ثقة بين المجتمع والدولة؟ وهل العنف الجامعي والمدرسي بشكل خاصا، يؤشر على إفلاس المنظومة التربوية ببلادنا؟ أم أن هذا العنف ليس سوى تعبير عن وجود احتقان اجتماعي كامن يتمظهر في سلوكات وممارسات عنيفة هنا وهناك؟ هذه الأسئلة وغيرها، لا ندعي أننا سنستطيع الإحاطة بها كلها، لكننا سنسعى لإثارة بعض القضايا ومداخل التفكير، لكي نتقاسمها مع القراء الكرام، لأن من طبيعة هذا العمل، أنه يحتاج إلى بحوث ميدانية وإلى مقاربات تمتح من عدة حقول معرفية. ثانيا: في بعض معالم تفسير الظاهرة أ) المدخل القيمي في محاولتنا لتقديم نوع من التفسير –المتواضع- لظاهرة العنف، فإننا نميل إلى تأطيرها في سياق التحولات القيمية التي شهدها ويشهدها وسيشهدها مجتمعنا المغربي، ومن ذلك أن ازدياد وتسارع عمليات التحول والتغير الاجتماعيين، تؤديان إلى وجود مجموعة من الظواهر، على رأسها: ازدياد حالات التوتر والقلق الوجودي والاجتماعي العام، والحيرة، والصدمة، وفقدان الاتجاه، وغياب أو تراجع دور المرجعيات، أو فقدان الاجماع حول قيم مجتمعية معينة. كل ذلك، وغيره يفضي إلى ظهور حالات من العلل النفسية والاجتماعية، التي لا نستطيع حتى فهمها وتفسيرها، نظرا لكونها تعتمل بشكل خفي في وعينا ولا وعينا، ولا تظهر إلا في حالات من التوتر العام والفجائي أحيانا أخرى. وهو ما يمكن أن نقدم بشأنه، تكاثر حالات الانتحار والعنف المجاني أحيانا، ولهذا نفتح قوسا، لنؤكد أننا في رصدنا لبعض أنواع العنف، لا نجد له تبريرا معقولا، بحيث قد يقع لأتفه الأسباب. فمثلا حالة الشغب الكروي في الملاعب الرياضية، التي تتحول من مجالات للفرجة والترفيه، إلى حالات من العنف والدراما والاقتتال غير المفهوم أحيانا أخرى، تقدم النموذج على ما ندعيه. وحتى يمكننا فهم جزء مما تحدثنا عنه، فإننا نشير في هذا السياق، إلى أنه في المراحل الانتقالية التي تمر بها المجتمعات، يحصل نوع من التصدع في الرؤية وفي القيم وفي المرجعيات، التي تخضع بدورها لإعادة الترميم أو الاجماع أو الاتفاق، مما يشرط الأوضاع المجتمعية، ويصيبها بنوع من الأزمات التي تظهر في حالات كثيره كالعنف الذي يشكل موضوع مقالنا هذا، أو غيره من الظواهر والممارسات. ولهذا فأخطر المراحل وأصعبها على المجتمعات، هي مراحل الانتقالات، فهي دائما تكون مثل حالات المخاضات والتوترات والبحث عن الذات سواء الجماعية أو الفردية. في هذا السياق، يشرح الباحث في علم النفس الاجتماعي "حجازي" هذه الظاهرة، قائلا: " بالنسبة للتوتر الوجودي العام، فإن هذه الجنايات التي تبدو مجانية وتثير صدمة المجتمع، تتراوح بين الذهول والذعر، هي في الحقيقة نذائر على ارتفاع درجة التوتر العام إلى حد خطير في المجتمع، ارتفاعا يهدد باجتياح كل الحدود ويتجاوز كل المحرمات. ( وقد وقع نفس الأمر في لبنان: جرائم لأتفه الأسباب...) (حجازي، 2001). ب) المدخل السوسيوسياسي نعتقد أن المدخل الأول، غير كاف للكشف عن الخبايا العميقة لدلالة العنف في المغرب، لهذا نحتاج إلى مدخل –نعتبره أساسيا في فهم الظاهرة- وهو المدخل السوسيوسياسي، والذي يكمن في علاقة المجتمع بالدولة في الأنظمة المتسلطة أو التي في طريقها نحو الديمقراطية، وهذا الأمر يفسر أن البناء الدولتي في مجموعة من الدول العربية، والمغرب منها، انبنى على مفهوم للدولة، يقوم على الصراع مع المجتمع وعلى تهميش المجتمع، وإلى تبعية المجتمع للدولة، وإلى نوع من الإذلال وإهدار كرامة الفرد، خصوصا في الدول التي كانت محتلة في طرف الاحتلال الفرنسي، فهذا النموذج اليعقوبي المتسلط، عمل على القضاء على المؤسسات الوسيطة التي كانت موجودة دون القدرة على تعويضها بمؤسسات اجتماعية منغرسة في قلب المجتمع، تقوم بحاجات الفرد والمجتمع. مما ولد نوع من الغربة بين المجتمع والدولة، أو ما يعبر عنه في بعض الأبحاث بضعف الثقة بين الطرفين. ولهذا ليس غريبا أن يؤكد الباحث التونسي في مقولته التفسيرية الرائعة: "لا دولة تربي المجتمع ولا مجتمع يربي الدولة" وهذه المقولة يمكن أن نفهم منها، مجوعة من حالات التوتر القائمة بين المجتمع والدولة في المغرب، ليس آخرها سوى الهجوم الذي تعرض له الوزيرين في حكومة السيد عبد الاله بن كيران (نبيل بن عبد الله، والوردي). هذا الهجوم يعبر في نظرنا عن وجود واقع سوسيولوجي خفي وغير معلن، مفاده أن هناك علاقة قطيعة بين الطرفين، وأن المجتمع لا يرى نفسه من خلال هؤلاء السياسيين، وبالمناسبة، ليس الأمر وليد اليوم، فواهم من يعتقد أن ذلك مرتبط بشخص الوزيرين، بل إنه يشكل حسب تعبير "بورديو" هابيتوس" الذي يشكل مجموعة من الترسبات العميقة التي تغذي نمط تفكيرنا ونظرتنا للأمور. ويساهم في ترسيخ الصور السلبية للعمل السياسي وللعمل الحكومي، كما هو الحال في مجموعة من السلوكات والمواقف والممارسات التي تظهر هنا وهناك، والتي قد يزيدها الإعلام بوعي أو بغير وعي طينة وبلة. ولهذا من ينظر إلى كيف تجرى الانتخابات في المغرب، يكشف أننا ما زلنا بعيدين عن تمثل ايجابي للعمل الساسي وأن بعض الفاعلين السياسيين هم أشبة بمجموعة "عصابات" تستخدم جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة للوصول إلى البرلمان أو المجالس الجماعية، ولهذا يمكن أن نستنتج أن هناك أزمة نخب في المجتمع المغربي، تؤثر بطريقة مباشرة، وفي أحيان كثيرة بطريقة غير مباشرة، في استدامة وانتعاش أعمال العنف والبلطجة والتشرميل (طبعا لا يفهم من تحليلنا أية حتمية سوسيولوجوية، بل هناك بارقة أمل بدأت تبرز في المشهد السياسي الحالي، يمكنها في حالة نجاحها وايجاد قبول سياسي لها أن تؤسس لمرحلة متقدمة في المستقبل). ج) المدخل الأمني أو تراجع دور السلطة لفهم جزء من هذا التحول الذي عرفه المجتمع المغربي، فإننا نشير في هذا الصدد، إلى موجات الحرية وحقوق الانسان والأفراد والجماعات، والتي انطلقت في نهاية العقد الأخير من القرن الماضي، حيث غيرت السلطة من براديغماتها في التعامل مع المجتمع. وحيث أنه لم يكن ممكنا البقاء في نفس سلطة التحكم التي كانت تميز السلطة بالمغرب، في سنوات الستينيات والسبعينيات. هذا التحول، كان له من التداعيات الشيء الكثير، سواء على المستوى الايجابي أو السلبي (نحن بطبيعة الحال، لا نميل إلى سلطوية مستبدة)، حيث ولد في أحضان هذه الأجواء جيل من المغاربة خصوصا فئة الشباب، التي لم تعرف القمع والمنع والتنكيل، والتي تهاوت أمامها كل السلط، بدء من الأب في الاسرة، إلى المعلم في المدرسة إلى رجل الشرطة في المجال العام. بمعنى آخر، لقد تربى هذا الجيل الذي يقوم جزء منه بالعنف، ويمارسه أو يمارس عليه، في أجواء جد مشجعة عن التعبير عن الذات، وإبراز الذات، والحرية في القول والفعل، بشكل معقول وغير معقول. لدرجة استسهال كل شيء فيما فيه الفعل الاجرامي، ولم يعد فعلا يقابل بالهالة التي كان عليها في السابق، ومن يعاين حالات التعامل مع الأجهزة الأمنية في الملاعب الرياضية، يكشف عن هذا الملمح الجديد الذي نشير إليه. طبعا لا أحد يريد أن يرجعنا إلى عهود بائدة ميزت تاريخ المغرب، وخصوصا بعد أن تصالح مع ذاته ومع من ذاقوا ويلات العنف الدولتي التسلطي المقيت، لكننا نريد أن نؤكد أمرا، -يبدو لنا هاما- وهو أن الأجيال الجديدة التي تلاحقت في مغرب اليوم، بهتت عندها مفاهيم الحق والواجب والمسؤولية، وتضخمت بالمقابل الأنا الفردية في مقابل الأنا الجماعية، وبالتالي انفرط عقد اللحمة الاجتماعية( ليس كليا)، وبدا الفرد وكأنه يعيش لوحده في ظل تراجع أدوار المؤسسات الاجتماعية الأخرى، التي كانت ترفد قيم المسؤولية والحق العام، وهذا شجع على نوع من أعمال العنف اتجاه الذات، أولا، واتجاه الآخر ثانيا. بحيث أصبحنا نرى حمل السلاح الأبيض عند فئة الشباب بشكل ملفت وغريبا أحيانا، ويتم حمله داخل المؤسسات التعلمية، وفي الأماكن العمومية بدون حسيب أو رقيب. وقد انضاف إلى هذه المعطيات، تردد الجهاز الأمني في القيام بمجموعة من التدخلات التي كان يقوم بها في السابق. فرجل الأمن كان أينما حل أو ارتحل إلا وحمل معه، أولا وأخيرا، هيبة الدولة، لكن الآن أصبح يقوم بدور الموظف الذي تنتهي مهمته بانتهاء دوامه. هذا دون الحديث عن تورط بعض أفراد الجهاز الامني في مجموعة من العمليات التي كانت تتواطأ مع المجرمين ومروجي المخدرات والقرقوبي والخمور والدعارة، وما إلى ذلك من مظاهر مشينة، شوشت على صورة الجهاز الأمني بالمغرب، وبدأ الحديث عن مقولة "حاميها حارميها". كل تلك العوامل والمسببات، أعتقد أنها ساهمت بشكل أو بآخر في تغذية مسببات العنف واستدامته والعدم القدرة على اجتثاثه أو على الأقل من التقليل من غلوائه. د) المدخل التنموي السيوسيوثقافي هناك مجموعة من الفرضيات التي تأكدت مؤخرا مع خبراء التنمية، والتي يؤكد البعض منها، أن الاستثمار في المجال الثقافي والتعليمي والصحي والرياضي، يكون له من الآثار الشيء الكثير على مستقبل البلدان والمجموعات البشرية، وهذا أمر معروف ويتداوله الجميع، والمغرب منذ الاستقلال إلى الآن بذل مجهودات في هذه المجالات، لكن آثار ذلك على حياة المواطنين، لازالت دون المستوى المطلوب، يكفي أن نذكر بأن المنظومة التربوية المغربية، تلفظ حوالي 300 ألف منقطع عن الدراسة، وهذا الرقم مهول ومفجع من عدة جوانب، يكفي أنه لا يضاهي حجم الاستثمارات المالية الممنوحة لهذا القطاع، وثانيا وهو الأخطر في اعتقادنا، أنه يغذي أسباب استدامة المأزق الشبابي، ويعرضهم لشتى أنواع الهدر الاجتماعي والتنموي والثقافي. فكيف يمكن أن نتصور في بلد ينشد التغيير وله حاسة ماسة لرأسماله البشري، وسياساته العمومية تلقي بشباب إلى المصير المجهول، الذي لا يعلم أحد حجم الخسارات والأكلاف الذي يتأذى منه المغرب؟ وإذا ما حاولنا ان نتوقف عند بقية القطاعات الاجتماعية التي تعنى بالشباب، فإن الحديث عن القطاع الصحي، ليس بأفضل حال منه في التعليم، فبنيات الاستقبال والطاقم البشري الطبي وآليات العلاج ومساطر التطبيب، كلها، تؤكد أننا ما زلنا لم نرتق بعد، بمكانة المواطن المغربي، للمستوى المطلوب، واللائق بكرامته، والذي يحفظ له ماء الوجه. ولهذا لا يجب أن نستغرب من وجود حالة من الاحتقان الاجتماعي، عند مجموعة من المواطنين. صحيح أنها كامنة، ولا تعبر عن نفسها (ربما بسبب قلة الوعي، وعدم وجود السند المعرفي والمدني للتعبير عن هذه الحرقة)، لكنها بالتأكيد تنفجر في وجوهنا جميعا على شكل حقد وحنق وعنف بشتى أنواعه وأشكاله. أما العامل الثقافي، فهو الآخر غير بارز كرافعة للتنمية بالمغرب، فلا يمكن أن نتحدث في المغرب، عن سياسية عمومية في هذا المجال، لأن هزالة الميزانية المرصودة لهذا القطاع، والتعامل السلبي معه، لا يدع لنا مجالا للشك في كون السند الثقافي هو آخر ما يفكر فيه. هذا على الرغم من صدور العديد من التقارير واللقاءات والمنتديات والتوصيات، تؤكد على الطابع الاستعجالي لأحذ هذا القطاع بكل عناية وشمولية وجرأة في تقديم البرامج والمضامين والأفكار، لكن لا حياة لمن تنادي. وفي هذا السياق، نذكر بالتقرير المتميز الذي كان قد أصدره "المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي" سنة 2012، والموسوم "بإدماج الشباب عن طريق الثقافة" وقد تحدث عن تحول كبير وقع في ثقافات الشباب المغربي اليوم، ولهذا وجب أن يتم بلورة رؤية فلسفية وفكرية وثقافية واضحة المعالم والرؤى، ومحكومة بأجندات التقائية بين جل المتدخلين في صياغة سياسية عمومية للشباب، يتقاطع فيها الجميع ويلتف حولها الجميع، لكننا بكل تواضع لا نرى آثارا لتوصيات هذا التقرير على أرض الواقع، اللهم بعض المحاولات المحتشمة – من برامج وندوات ولقاءات- والتي ينتهي مفعولها بانتهاء لقاءاتها. ولعل الغريب في هذا الشأن هو أنه كيف يمكن النهوض بقطاع الشباب، والمبادرة لا تستطيع أن تشرك الجميع –خصوصا بعض الحساسيات التي لها السبق والريادة في العمل المدني، وأقصد بعض الحركات الاسلامية- لكنها غير ممثلة أو مندمجة في هذه الرؤية. بقي أن نشير في ختام هذه الأسباب والعوامل –التي الا ندعي أننا استطعنا استحضارها جميعها- أنها تعتمل بشكل غير مفصول عن بعضها البعض، فهي أشبه بنسقية تفاعلية، قد يظهر في لحظات ما أن عاملا من هذه العوامل هو الأبرز، أو العكس، لكنها بالتأكيد، تتقاطع في عنوان أبرز، هو أنه لا يمكن أن نتصور مجتمعا بدون عنف، وأن الوعي بهذه العوامل في شموليتها وكافة أبعادها، قد يجنبنا الآثار الخطيرة للعنف، وقد يخفف بعضا من قوته وعنفوانه وفجائيته وشموليته. ثالثا: في بعض مداخل العلاج ربما لن نحتاج إلى التذكير، بأن التفكير الفردي في بعض مداخل العلاج، ليس بالأمر الهين او المتوفر لجهود شخص، مهما بلغ علمه ودرجة تكوينه، لأن الأمر يقتضي إشراك الجميع والقدرة على تدبير النقاش المجتمعي حول ظاهرة العنف الشبابي المغربي، لكننا نريد أن نقدم رؤية –تبقى متواضعة ولا تدعي الكمال أو الاكتمال- بقدر ما نسعى لفتح نقاش عمومي مع كافة الأطراف والفاعلين والمتدخلين، للتداول في هذه المعضلة، وعدم التعامل معها بنوع من اللامبالاة أو السطحية والاختزال اللذين عودهما علينا الاعلام المغربي. فالأمر جلل، إذ عندما يصل العنف إلى حد القتل في الجامعة، كفضاء للعلم والمعرفة والتربية، فهذا دليل على خطورة الأمر، وأنه أصبح غير مقبول أن يسكت عنه. فتصوروا لو استيقظنا ذات يوم وفجعنا بخبر قتل أحد المصلين الذين يرتدون المساجد، كيف سيكون وقع الفاجعة؟ إنني أعتقد أن الأمر سيان: المسجد والجامعة أو المدرسة، فهما يشتركان في شيء واحد وهو القدسية، قدسية الصلاة والتعبد في الأول، وقدسية المعرفة والعلم في الثاني. و لهذا فنحن لا نرى أن الأمر فيه خطورة من وجهين: أولا ما هي الرسالة التي يريد أن ينقلها لنا الفاعل/ الفاعلين لجريمة القتل في الجامعة؟ هل أصبحت الجامعة المغربية، مجالا للعنف والعنف المضاد، وخلت من أدوارها الطلائعية والتنويرية والتثقيفية؟ وثانيا وهو الأبلغ: هو أن هذا الفعل، سوف يشكل عائقا سيكولوجيا أمام الأجيال المقبلة، والتي سيترسخ في ذهنها أن الجامعة ليست بمنأى عن العنف وأنها تشكل خطورة على الأفراد والمجتمع، وبالتالي لم الاستمرار في الاستثمار في التعليم الجامعي، ما دام يخرج لنا القتلة والمنحرفين ؟ بعد هذه الالتفاتة للفعل الشنيع الذي وقع في حرم الجامعة نهاية الأسبوع الماضي، نعود لنذكر ببعض الحلول، والتي نقسمها لنوعين: الأول مستعجل وآني ولا يحتمل التأخر، والثاني استراتيجي وبعيد المدى. بالنسبة لنوعية الحلول المستعجلة لايقاف هذا النزيف العنفي المدمر، ندعو الحكومة إلى استصدار مشروع قانون، يجرم العنف في الوسط المدرسي والجامعي، ويعاقب على كل مرتكب له بأقصى العقوبات، لأنه من اعتدى على الأماكن التعليمية، فكأنما اعتدى على الأمة جمعاء. و نحن نعتقد أن المشروع وجب أن يستدرك فراغا قانونيا موجودا، وهو أن جهاز الامن لا يسمح له بدخول الجامعة أثناء العنف، وهذا نعتقد أنه وجب تغييره، إذ كيف يمكن مواجهة العنف، بدون آليات قانونية جد صارمة، تخول حق التدخل وتعطي الصلاحيات لرئيس الجامعة، ولرئيس الجهاز الأمني، لمتابعة كل من يحاول الاعتداء على الأساتذة أو الطلبة أو الموظفين، فلا يمكن أن نتصور مؤسسة عمومية بدون حماية قانونية –خصوصا إذا كانت من حجم الجامعات؟- و لهذا فالإسراع فاستصدار هذا القانون، ومصادقة البرلمان عليه، يعتبر في نظرنا الجواب السياسي لأزمة العنف في الجامعات المغربية، ودونه الاستمرار في إعادة إنتاج نفس الأوضاع؟ وحتى لا يتهمنا أحد بالتحيز لهذا التيار أو ذاك، فأقول، أن هذا الامر يرتفع عن كل التحيزات الايديولوجية، ولو لم يقع في الماضي، فربما نحتاجه اليوم، لأن القاعدة القانونية، تتفاعل مع التحولات الاجتماعية، وجودا وعدما. و اليوم نريد أن تبقى الجامعة المغربية، فضاء للمعرفة ومكانا مقدسا بكل ما تحله هذه الكلمة من معنى. أما الاقتراحات، ذات البعد الاستراتيجي، فإنها تكون بترسيخ مبدأ الديمقراطية والمضي في الاختيارات الكبرى للبلد التي تعاقدنا عليها في الدستور الجديد، واستثمار حالة الاستقرار للمضي في المشروع التنموي الذي نريد له أن يكون وفق نموذج مغربي، ورؤية مغربية، تستحضر كل التحديات، وعلى رأسها العنصر البشري، فأغلى ما نملك هو الرأسمال البشري، ولهذا وجب تعبئة كل الفاعلين -(عندنا أزيد من 100 ألف جمعية و40 حزبا ونحوهم من النقابات..) وعندنا العديد من المؤسسات والهيئات، سواء الموجودة أو في طريقها للوجود، كالمجلس الاعلى للمجتمع المدني، والشباب، والاسرة والطفولة...- وكل ذلك في سبيل إبداع مبادرات وأفكار خلاقة للخروج من حالة العنف والتخلف والذيلية التي نعيشها إلى حالة العافية والتقدم والازدهار. ولعل من بين الحوامل الأكثر فاعلية في هذه التعبئة هو الحامل القيمي/ الثقافي، الذي يرسخ السلوك المدني، وثقافة الحوار، والعيش المشترك، والتمتع بالحياة، والقبول بالآخر، والمسؤولية والحق والواجب والخير والعدل والحرية والمعرفة، والنقد، وما إلى ذلك من قيم محركة وتثويرية والتي تعالج الاشكالات ذات الطبيعة الفكرية والمنهجية والسلوكية في آن واحد، لأننا نعتقد أن أزمتنا في المغرب، تتلخص في هذه العوامل الثلاثة: الفكر والمنهج والسلوك، وكل محاولة لايجاد مخرج من تلك الأزمة( العنف في حالتنا)، هو الأقوى والأمضى سلاحا في زمن التحديات القيمية والمعرفية والفكرية. ختاما، لا نريد أن يفهم من خطابنا هذا أية دعوى يوتوبية أو حالمة، بقدر ما نريد أن نساهم بدورنا في النظر للأزمات التي يمر بها مجتمعنا، وثانيا المحاولة في اجتراح بعض الحلول التي نراها قيمنة بالتخفيف من شدة التطرفات التي وصلت إلينا في عالم يتموج باستمرار، وليست ظاهرة العنف، سوى إحدى أوجهه الفاقعة.