كي نقترب من سلوك ما يسمى "بالتشرميل" يجب أن نفهمه في سياق التحولات القيمية التي تجتاح مجتمعاتنا العربية والمغرب واحد منها، وعلى رأسها فئة الشباب والمراهقين، فالجيل الحالي من الشباب، تشبع بثقافة جديدة عنوانها هو التعبير عن الذات، والانحلال من كل القيود المجتمعية والقيمية التي أطرت الأجيال السابقة، وقد غذى هذه الموجة، الأجواء المساعدة على الحرية التعبيرية والمظهرية والفنية والرياضية وغيرها، في ظل تراجع دور المؤسسات الاجتماعية التقليدية. وقد تزامن كل ذلك، بالفورة التكنولوجية الخطيرة، التي نجدها في الشبكات الاجتماعية، والتي بدأت تشكل مجالا للتعبير "المعقول وغير المعقول" عن هواجس ومكنونات مكبوتة يعيشها الجيل الحالي في ظل فراغ قيمي قاتل، وهو ما يظهر في سلوكيات "التشرميل"، التي لا نستطيع أن نقول عنها إنها "ظاهرة مجتمعية" فهي لا تمتلك خصائص الظاهرة، كما ندرسها في السوسيولوجيا، لكنها تؤشر على تحول في منظومة القيم، وهي أيضا مؤشر على بوادر بروز الظاهرة. من جهة أخرى، يمكن أن نفهم أن هذه السلوكات، بربطها بظاهرة المجتمع الاستهلاكي، والذي يعني الارتماء في الإشباع في نمط العيش إلى حد اللاعقلانية، ولهذا هناك توجه عالمي يتسم بارتفاع في الإشباع في عالم-الحياة mode de vie ، غذه بطبيعة الحال ارتفاع الاستهلاك في وسائل الإعلام الجماهيرية، كما أن التقنيات الجديدة للتواصل وتكنولوجيا الاتصال فتحت فرصا غير مسبوقة، للتماهي مع منتجات السوق، في شكلها السوي وغير السوي. إن هذا السلوكات تنبئ عن بروز قيم لم تكن معروفة في السابق، كقيم الاستهلاك المفرطة، والتي تختلف عن الاستهلاك الذي كان سائدا في الماضي، فقد أصبح الاستهلاك بدون هدف وبدون معنى، فإذا كان في السابق، محددا بغاية وبهدف، فإنه حاليا، في ظل التدفق الكثيف لوسائل الإعلام وللإشهار الزائد عن الحد، أصبحت قيم الاستهلاك "نمط في الحياة" « live style »، فالإنسان المغربي(طبعا بدون أن نعمم)، أصبح يلهث وراء المال، ووراء البحث عن الطريف والجديد والصارخ والمتفرد، فبدأ ينغمس في العوالم الافتراضية الوهمية بحثا عن التسلية الواهية، فيحصل له التبدد ثم الضياع. وقد لا يحقق الأفراد، خصوصا المعدمون منهم إشباعا في هذه القيم الاستهلاكية، مما يخلق لهم انفصامات وتوترات وانكسارات عميقة المدى، مما يجعلهم أحيانا يستعيضون عنها بالدخول في دوامة العنف، أو السرقة، أو بيع أجسادهن، (وهو ما يمكن أن نفهم منه تعاظم وثيرة الدعارة في المغرب بشكل رهيب)، أو الارتماء في عالم المخدرات، والمتابعة الهستيرية لمباريات كرة القدم، وفي بعض الأحيان الوصول إلى حد الانتحار أو التفكير في الانتحار... أو حتى في الدخول في حالات من "السكيزوفرينيا" أو "الباتولوجيا" المرضية. ولعل "التشرميل" أحد أوجهها التي طفت في السطح المغربي حاليا، والتي لا يمكن فصلها عن مجموع الظواهر المرضية التي يمر بها المجتمع المغربي الحالي. وبكل تأكيد، فالتخوف مشروع في انتقال الممارسات "التشرميل" إلى بقية أفراد الفئة الهشة على المستوى القيمي الأخلاقي، والتي تعاني من فراغ أو خواء فكري وقيمي، والأخطر روحي وديني وتربوي، مما ينذر بتوحلها إلى نوع من المقبولية الشبابية والمراهقية، والتي تعني أن فئة الشباب والمراهقين، تستهويها مثل هذه التصرفات، إما بدافع المحاكاة-غير الواعية في أغلب الحالات-، أو بدافع الشهرة وإبراز الذات، والتفاخر الطقوسي الغرائبي. "فكل مثير محبوب". وليس غريبا أن يلتقط الشباب هذه الممارسات، التي ظهرت في وسط حضري مثقل بالتوعكات السوسيو-ثقافية والسوسيو-اجتماعية والسوسيو-اقتصادية هو"درب السلطان"، وأن يتم ترويجها على أوسع نطاق، بفضل الشبكات الاجتماعية الحديثة. ولعل ما يثير التخوف، هو أن انهيار السلطة في المجتمع (بمعناه الواسع)، سيعمق أكثر من ذيوع هذه الأنواع من الممارسات المتطرفة والشاذة والغريبة على مجتمعنا المغربي. طبعا نسجل أن هناك رد فعل قوي للجهاز الأمني، في التدخل السريع لإيقاف النزيف، لكنه غير كاف في المسألة. وفيما يتعلق بالحلول، أعتقد أن هذه الظواهر تحتاج إلى عمل نوعي ومتتابع في الزمان والمكان وعبر المراحل السوسيو-تاريخية. ونحن نعتقد أننا بحاجة أولا وأخيرا، إلى رؤية مجتمعية واضحة لما نريده بالمواطن المغربي، وبالشاب المغربي وبالمراهق المغربي. ومن ثم يجب أن تكون لنا القدرة على خلق البيئات الملازمة لصناعة الإنسان/ المواطن، الإنسان المغربي المعتز بهويته الدينية، وبحضارته الثقافية المغربية الأصيلة والمتشبع بالقيم الكونية السامية والنبيلة. وهذا الأمر، نعتقد أنه يجب أن يصبح سيمفونية يعزفها الكل: الأسرة، الروض، المدرسة، الجامعة، الإعلام، المجتمع المدني، وغيرها من المؤسسات المجتمعية، سواء الرسمية أو غيرها.. والأهم من ذلك، أن يكون لنا طموح جماعي يستنهض القيم المحركة والايجابية لربح رهان التحديات التي تواجهنا. أخيرا، هناك مسألة الحلول الاستباقية، وهي الأقدر على تجنبينا أو على الأقل التخفيف من حدة هذه الظواهر والممارسات، التي تكلفنا الشيء الكثير. فعلى سبيل المثال، يمكننا في هذا الصدد أن نطرح فكرة تنموية توصل إليها خبراء التنمية العالميين، وهي أن الاستثمار في الرأسمال البشري، لا يضاهيها أي استثمار، وأنها من الناحية المادية / الاقتصادية الصرفة، تعد أفضل السبل للتقليل من القيود المادية التي تشرط وضعنا الحالي. بمعنى آخر، كلما عبئنا واستثمرنا أموالا وميزانيات مهمة، في توجيهها للكتلة الحرجة وهي الشباب والمراهقين، كلما كانت نواتجه أقل من كل الميزانيات التي قد نحتاجها في المجال الصحي أو في المجال العقلاني بمعناه الضيق "السجن" أو الأمني في تعبئة الكثير من الموارد والطواقم لمواجهة هذه الظواهر. فالأمر من الناحية الاقتصادية بين كلا الاختيارين، يرجح الاختيار الأول، ألاّ وهو تنمية السلوك المدني عند الشباب.