يوما بعد آخر تكتظ السجون المغربية بالقاصرين. المثال الأبرز يأتي من العاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء حيث يقبع في سجن عكاشة مابين 800 و 1000 قاصر حسب أرقام المديرية العامة للسجون لسنة 2010. بين سنتي 2007 و 2010 ارتفعت نسبة تورط القاصرين في الجرائم المختلفة، من السرقة إلى الاعتداء الجسدي، من 17.6 في المائة إلى 25 في المائة من مجموع الجرائم المرتكبة في المغرب، وفق الإحصائيات الرسمية للمديرية العامة للأمن الوطني. وفي انتظار أرقام سنة 2011 لا بد أن يتوقع المغاربة تطورا أكبر في هذه النسبة بالنظر إلى التنامي الملحوظ في نشاط القاصرين الخارجين عن القانون. ظاهرة اجتماعية جديدة نتجت عن التحولات السوسيو اقتصادية التي شهرها المغرب منذ عقدين كاملين من الزمن وزادت في تسارعها تطور تكنولوجيا المعلومات وانخراط المغرب الكامل فيها دون أن تكون بنية الأسرة أولا مهيأة لهذا التحول، ثم المدرسة العمومية، وفي غياب أية مقاربة رسمية من الدولة المغربية، أمنيا أو تربويا، لمواجهة تبعاتها وتحصين الصغار أمام أعراضها الخطيرة نفسيا واجتماعيا. من خلال التحقيقات والملفات التي أجرتها الأحداث المغربية، ميدانيا حول الظاهرة أو من خلال الاستشارات الأمنية و النفسية والاجتماعية التي باشرتها مع المختصين، يمكن أن نقف عند مجموعة أسباب، نرى أنها تسببت بشكل مباشر أو غير مباشر في تنامي جريمة القاصرين. انحسار القيم الجماعية يجمع الأخصائيون النفسيون الذين سبرت الأحداث المغربية آرائهم عن الظاهرة، على أن انحسار الدور التربوي للمجتمع بكل مكوناته من أسرة وشارع وحي ومدرسة وإعلام عمومي وتلفزيون، يعطي للقاصر اليوم إحساسا بعدم وجود قيم جماعية يتوجب المحافظة عليها، وبالتالي فإن المفاهيم الأساسية لاحترام الآخر والحفاظ على ممتلكاته والعيش السلمي بين أفراد الكتلة البشرية الواحدة داخل المجتمع المغربي آخذة بدورها في التفكك. مشهد يلخصه الباحث الاجتماعي وأستاذ سوسيولوجيا التربية بالمدرسة العليا للأساتذة الخمار العلمي قائلا ‘‘هنا يصبح العنف مثلا وسيلة للإضرار بهذا الآخر الذي لم تعد تربطني به أية صلة ، على أساس أن احقق هدفي الأهم بالوصول إلى ما أريد‘‘ . تمجيد الفردانية والماديات في مقابل هذا التراجع الخطير في الدور التربوي للمجتمع المغربي، تأخذ القيم الفردية التي تشجعها الثقافة العالمية المنتشرة اليوم والتي تتخذ من تكنولوجيا المعلوميات أداتها في الوصول إلى الصغار، مساحة أكبر يوما بعد يوم، وهو ما يعطينا بالمحصلة قاصرين لا يفهمون لغة المجتمع ( أسرة – تربية – مدرسة ) ولا يمكن التواصل معهم لأن أداة التواصل ( الانترنيت ) أصبحت خارج السيطرة الأبوية والمؤسساتية. العرض المستمر، على شبكة الانترنيت أو من خلال المواقع الاجتماعية أو الافتراضية أو حتى التلفزيون لأمثلة دالة على نجاح قيم الفردانية المتوحشة، يعطي للطفل أو القاصر تصورا خاطئا عن مفاهيم النجاح في الحياة، وتحول في مخيلته ( غير المعدة سلفا للتمييز بين الواقع والعالم الافتراضي ) معنى القدوة الصالحة، من بعدها الجماعي المؤسس لبناء الحياة المشتركة بين أفراد مجتمه ما، إلى صورة فردية موغلة في التوحش، بتغذية وهم إمكانية النجاح الفردي المتفكك من أية أواصر مجتمعية. تشجيع النجاح المادي بغض النظر عن مصدره قيمة سلبية أخرى يرسخها المجتمع المغربي في ذهنية الصغار بشكل تلقائي دون الانتباه لخطورتها، وهو سلوك دارج في الحديث العام للمغاربة داخل البيت أو خارجه، خصوصا في حالات الحديث مثلا عن نجاح مرتادي الهجرة السرية، أو عدم محاسبة كبار المرتشين وناهبي المال العام. تراجع دور المدرسة جولة سريعة في محيط المؤسسات التعليمية بالدارالبيضاء، الإعدادية والثانوية تحديدا، تعطي إيحاءا بأن محيطها مكتظ بالتلاميذ أكثر من أقسامها. وبعيدا عن تحميل المدرسة العمومية وأطرها التعليمية ما لاتحتمل، فإن الواضع يؤكد أن دور المدرسة في احتضان روادها من التلاميذ آخذ في التآكل على مر السنوات. بالعودة إلى سبيعينات وثمانينيات القرن الماضي، نجد أن المدرسة كانت قادرة على احتضان التلاميذ في أنشطة موازية تساهم في ترسيخ معاني القيم الجماعية للمجتمع حتى خارج ساعات الدراسة والأمثلة متعددة في هذا الباب ( الأنشطة الرياضية يومي الأربعاء والجمعة – التنشيط المسرحي والموسيقي قبل المناسبات الوطنية والدينية – التشجيع على الإبداع عبر خلق محترفات ثقافية – تمية القدرة والرغبة في القراءة المتعددة …). اليوم لاتبدو الصورة بهذا الألق. الهم الأول للمدرسة الآن هو إبعاد التلاميذ عن ساحاتها وأقسامها بمجرد الانتهاء من حصص الدراسة لعدة أسبابو قد تكون الخارطة التعليمية سببا فيها كما قد تكون مسبباتها أسباب أخرى من خارج المؤسسة التعليمية. انتشار المخدرات إذا كان المتعارف عليه سابقا هو أن المخدرات مسألة ‘‘ بالغين‘‘ فقط، فإننا اليوم قد لا نكون مجانبين للصواب إذا صوبنا هذا التعبير بالقول : المخدرات صارت مسألة قاصرين أيضا. الحشيش … المعجون … الكالا … الشمة الكيميائية عبر ‘‘السيليسون‘‘… وأخيرا وليش آخرا القرقوبي، تحولت إلى مركز للمعيش اليومي للقاصر المغرب، خصوصا في الأحياء الشعبية. سهولة الوصول إلى المخدر أصبحت واقعا، تعترف به المصادر الأمنية المختلفة، التي لم توقع قبل سنوات أن يصبح انتشار المخدرات بهذا الاكتساح الكبير. وبالرغم من الجهود المتكررة والمستمرة لإيقاف ومحاربة المخدرات، لا تزداد الأمور إلا سوءا بمرور الوقت. محيط المدارس العمومية تحول في السنوات العشر الأخيرة إلأى مايشبه القاعدة الخلفية لتجارة المخدرات، لأن المروجين يدركون أكثر من غيرهم الإمكانيات المادية التي تعطيها تجارة المخدرات في محيط المدرسة ومع الاقتراب إلى التلاميذ أكثر من فضاءات أخرى قد تكون خطيرة على نشاطهم. هنا، في محيط المدرسة، هناك أولا العرض المادي المتمثل في امتلاء جيوب التلاميذ خصوصا المنحدرين من الطبقة الوسطى، وهناك إمكانية التخفي في عباءة التلميذ ثم الترويج فيما بعد، ما يضمن فرصا أكثر للاختباء عن أعين المراقبة الأمنية. الهواية الأولى بالعودة إلى المصادر الأمنية، تؤكد المعطيات المتوفرة إلى أن نسبة مهمة من القاصرين الموقوفين ( قد تقارب النصف تقريبا ) في ملفات الإجرام المختلفة، ينحدرون من أسر ميسورة أم يمكن تصنيفها ضمن خانة الطبقة الوسطى، وهو ما يعني أن الحاجة منتفية لديهم للاعتداء على المواطنين من أجل سلب ما بحوزتهم، أو اللجوء إلى السرقات أو النشل لتلبية حاجياتهم اليومية. نفس المصادر تشير إلى أن عددا من القاصرين الجانحين أو الخارجين عن القانون، يدرسون في مختلف الأسلاك التعليمية، من الابتدائي إلى الثانوي، وأنهم غالبا ما يمارسون نشاطهم الإجرامي بالموازاة مع ساعات الدراسة أو بعد الانتهاء منها في الفترة الزوالية. من خلال المعاينات التي باشرتها الأحداث المغربية ميدانيا حول الظاهرة في عدد من الأحياء الشعبية للدارالبيضاء، لا تختلف الصورة كثيرا عن إفادات المصادر الأمنية. العشرات من القاصرين يمزجون بين النشاط الدراسي أو التجاري، مع النشاط الإجرامي. عند الاستماع إلى الأسباب، يسوق القاصرون آراء غير قابلة للتصنيف من قبيل ‘‘ كندبر على راسي ‘‘ … ‘‘ السيمانة ما كتقدنيش ‘‘ … ‘‘ دارنا ما كيعطيوني والو ‘‘ … التنافس السلبي في نفس السياق، لا يخرج النشاط الإجرامي لبعض القاصرين عن المنافسة السلبية بين الأقران. بتحول السرقة بالنشل مثلا إلى ‘‘ الهواية الأولى ‘‘ لمراهقي وقاصري الأحياء الشعبية، بالنظر إلى ‘‘ لاضرورتها‘‘ هذا إذا اعتبرنا مجازا أن هناك ضرورة لبعض الجرائم في بعض الحالات، فإن قاصرين آخرين غير معنيين بالنشاط الإجرامي يصبحون مجبرين على اقترافه لا لشيء، سوى الوقوف مع أقرانهم على نفس الدرجة من ‘‘الخطورة‘‘ و‘‘البأس‘‘ و‘‘الشجاعة‘‘. ‘‘ لا ضرورة ‘‘ الجريمة في هذه الحالات، تجدد مبرراتها عند مسائلة القاصرين المتورطين في الرغبة في الحصول على هاتف نقال من آخر طراز، أو حذاء رياضي متميز وغالي الثمن لماركة عالمية، أو شراء دراجة نارية… الاعتماد هنا يقوم على النفس فقط لأن أغلبية الأسر التي ينتمي إليها المتورطون الصغار إما ترفض توفير هذه الأشياء القيمية المادية لأبنائها أو لا تستطيع بالنظر لظروفها الاجتماعية الصعبة. غياب الأب ‘‘ القدوة‘‘ في غياب دراسات أكاديمية أو إحصائية تهتم بهذا النوع المتنامي من الجريمة، يلاحظ من خلال المتابعات الأمنية والتحقيقات الصحفية أن القاصرين الذين ينزعون نحو هذا النشاط غالبا ما ينحدرون من أسر لا يوجد فيها أب، أو فيها آباء غائبون باستمرار عن البيت، أو ضعاف الشخصية أمام الأم وباقي أفراد الأسرة. قاسم مشترك يعزز من فرص الإفلات من الرقابة الأبوية الصارمة في سن مبكرة والارتماء في أحضان الزنقة أو الشارع، ما مايمثله هذا الارتماء من تبني لقيم مخافة لضوابط التربية في البيت المؤسسة على القيم الجماعية دينية كانت أو مجتمعية أو ثقافية. في ظرفية تحكمها الثقافة العالمية الواردة عبر وسائل التواصل المتطورة يوميا وصورة الفرد القادمة من ثقافة الاستهلاك التي تعزز البعد الشكلاني للإنسان دون التأكيد على قيم أخرى أهم كالثقافة أو المعرفة أو التسامح أو الاندماج المجتمعي، تبدو صورة القدوة اليوم أبعد ما تكون عن صورة الأب العادي العامل أو الموظف. غياب القدوة، في البيت، في الثقافة المؤسسة دينيا أو اجتماعيا، في المدرسة، في الإعلام والتلفزيون… تدفع الصغار إلى تبني تصور مشوه عن القدوة. أمهات ‘‘حاميات‘‘ بالموازاة مع غياب صورة الأب القدوة أو المربي أو تراجعها على الأقل، نستنتج من خلال الحالات التي تتعامل معها السلطات الأمنية أو المحاكم المغربية، أن نسبة مهمة من القاصرين الجانحين، يستفيدون من حماية غير متوازنة من الأمهات. مثال بسيط يؤكد ضلوع هذا المعطى الاجتماعي في تنامي الظاهرة، نجده في حالات أسماء القاصرين المتورطين في النشاطات الإجرامية المختلفة التي تطلع علينا بها وسائل الإعلام بين الفينة والأخرى من أمثل ‘‘ ولد زهرة ‘‘ … ‘‘ ولد عايشة ‘‘… ‘‘ ولد الحسنية ‘‘ … بحكم غريزتها الحامية الطبيعية تعتقد بعض الأمهات، خاطئات قطعا، أن حماية الإبن لا يجب أن تتوقف حتى بعد ارتكابه لأفعال تتنافى معالقانون أو تضر بمصالح الآخرين. بحث بسيط في السير الذاتية لنسبة كبيرة من القاصرين الجانحين يظهر أن ميولاتهم العدوانية تبدأ في المحيط القريب في سن مبكرة ( الأسرة – الحي – المدرسة ) وأنه عوض حصولهم على تقويم صحيح، تحاول الأمهات بكل الوسائل إسقاط العقوبات على أبنائهن ولو تطلب الأمر تقديم الأموال للمتضررين للحصول على تنازلاتهم في الكوميساريات القريبة. أثناء العقوبة الحبسية، لا تتوقف الأمهات عن حماية أبنائهن بطريقة شابهة، غذ تحاولن توفير ‘‘ القفة‘‘ الأسبوعية بما لذ وطاب من الشراب والأكل والملابس في وقت من الأجدر فيه أن تتوقفن عن ذلك، حتى تكون للعقوبة الحبسية فوائدها النفسية والاجتماعية على السجين القاصر. وهو ما يعطي للجانحين من المراهقين إحساسا بالحماية المستمرة، ويهدر فرص الاستفادة من العقوبة الحبسية لتغيير السلوك. أمن غير مهيأ ‘‘ نحن نحاول قدر المستطاع أن نوقف القاصرين الخطرين عند إبلاغنا بمكان الجريمة، غير أنني أجد نفسي أحيانا بدون سلاح أما قاصر ‘‘مقرقب‘‘ وحاملا لسيف قد يضربني به في أية لحظة. وهذا ما يحد أحيانا من فعالية تدخلي ويدفعني للتفكير قبل احتيار شكل التدخل المناسب أمام هذا الخطر المحدق. ومن دون أمر مسبق باستعمال السلاح فإنني أبقى الطرف الأضعف في المواجهة‘‘.الشهادة لأمني من فرقة لأمني من فرقة الصقور قدمها للجريدة أثناء معاينتها لحادث اعتداء قام به قاصر مسلح بسيف على سيدتين داخل سيارتهما قبل مدة قصيرة بإحدى المناطق الشعبية في العاصمة الاقتصادية. شهادة منطقية ومبررة أمام تنامي شكل الإجرام وأدواته الخطيرة، في وقت ماتزال العناصر الأمنية تؤدي مهامها بدون حماية جسدية وفي غياب أسلحة قادرة على ردع الاعتداءات. وغذا كانت الحاجة في السابق لهذه الحماية الجسدية أو الأسلحة غير قائمة بالنظر للشكل التقليدي للجريمة وعدم توقع خطورتها المحدقة برجال الأمن إلى في حالات نادرة، فإنها اليوم أصبحت متوقعة في أي مكان وأي وقت، مع تنامي الاندفاع العنيف لدى القاصرين تحت تأثير المخدرات. سعيد نافع عدم الاستعداد اللوجيستي للعناصر الأمنية، يوازيه عدم استعداد نفسي ومهني أيضا للتعامل مع فئة جديدة من المجرمين : القاصرين. معطي جديد في تطور الجريمة الحضرية، انتبهت له دول أخرى مثل فرنسا مثلا التي قررت، في إطار تبينها لسياسات الأمن المقرب بعد أحداث 2005 في الضاحية الباريسية، إنشاء مؤسسات للتدبير المفوض للشرطة داخل الأحياء الصعبة، تتكون من أبناء هذه الأحياء وذلك لتسهيل عملية التواصل مع الجانحين، بلغتهم ومن داخل ثقافتهم المحلية، وهو ما يتميز عن التدخل الأمني الصرف الذي يقارب الوضع الأمني من زاوية الردع فقط.