أولا في تأطير الممارسات أو الظاهرة الجديدة «التشرميل» هناك العديد من الظواهر والممارسات الشبابية الحالية، والتي تثير استغرابنا ودهشتنا، كممارسة ما سمي ب»التشرميل»، والتي تحتاج في نظرنا -المتواضع- إلى تأطيرها في سياق التحولات القيمية التي تجتاح مجتمعاتنا العربية والمغرب واحد منها، وعلى رأسها فئة الشباب والمراهقين، فغني عن البيان أن الجيل الحالي من الشباب، تشبع بثقافة جديدة عنونها العريض هو التعبير عن الذات، والانحلال من كل القيود المجتمعية والقيمية التي أطرت الاجيال السابقة، وقد غذت هذه الموجة، الأجواء المساعدة على الحرية التعبيرية واللباسية والفنية والرياضية وغيرها، في ظل تراجع دور المؤسسات الاجتماعية التقليدية، سواء منها الأسرة أو المدرسة او المساجد او غيرها من المؤسسات الاخرى، كالأحزاب والجمعيات وغيرها من الأطر التي كانت تساهم في التنشئة الاجتماعية والقيمية والتوعية وما إلى ذلك. وقد تزامن كل ذلك، بالفورة التكنولوجية الخطيرة، التي نجدها في الشبكات الاجتماعية، والتي بدأت تشكل مجالا للتعبير «المعقول وغير المعقول» عن هواجس ومكنونات مكبوتة يعيشها الجيل الحالي. ولهذا نفهم المقولة التفسيرية التي عبر عنها الباحث والمؤرخ «إيريك هوبزباوم» عندما تحدث عن كون المجتمعات التي تعيش على وقع التحولات المتسارعة والقوية والعنيفة (كالمجتمعات العربية والاسلامية)، تشهد حالات من القطائع في منظومة القيم المجتمعية، بحيث تصبح هذه المنظومات القيمية غير مجمع عليها، أو في أسوأ الحالات، تعيش هذه المجتمعات، في فراغ قيمي قاتل. ولعل هذه المقولة، تمتلك صلاحية لفهم مفاعيل هذه السلوكات، التي لا نستطيع أن نقول عنها إنها «ظاهرة مجتمعية» فهي لا تمتلك خصائص الظاهرة، كما ندرسها في السوسيولوجيا، لكنها تؤشر على تحول في منظومة القيم، وهي أيضا مؤشر على بوادر بروز الظاهرة. من جهة أخرى، يمكن أن نفهم أن هذه السلوكات، بربطها بظاهرة المجتمع الاستهلاكي، والذي يعني الارتماء في الاشباع في نمط العيش إلى حد اللاعقلانية، ولهذا هناك توجه عالمي يتسم بارتفاع في الاشباع في عالم-الحياة mode de vie، غذته بطبيعة الحال ارتفاع استهلاك في وسائل الاعلام الجماهيرية،كما أن التقنيات الجديدة للتواصل وتكنولوجيا الاتصال فتحت فرصا غير مسبوقة، للتماهي مع منتجات السوق، في شكلها السوي وغير السوي، مما يخلق حالات من الباتولوجيات (الأمراض السيكولوجية)، والتي تعبر في اعتقادنا على «انهيار المعنى الفطري للثقافة والبيئة الاجتماعية، ويعري ثقافة الاحتقان» إن هذا السلوكات تنبئ ، عن بروز قيم لم تكن معروفة في السابق، كقيم الاستهلاك المفرطة، والتي تختلف عن الاستهلاك الذي كان سائدا في الماضي، فقد أصبح الاستهلاك بدون هدف وبدون معنى، فإذا كان في السابق، محددا بغاية وبهدف ، فإنه حاليا، في ظل التدفق الكثيف لوسائل الإعلام وللإشهار الزائد عن الحد، أصبحت قيم الاستهلاك «نمط في الحياة» » live style «، فالإنسان المغربي(طبعا بدون أن نعمم)، أصبح يلهث وراء المال، ووراء البحث عن الطريف والجديد والصارخ والمتفرد، فبدأ ينغمس في العوالم الإفتراضية الوهمية بحثا عن التسلية الواهية، فيحصل له التبدد ثم الضياع، كما قال بذلك «خالد ميار الإدريسي،2012»، ورغم أن الباحث يتحدث عن قيم العالم الغربي ما بعد الحداثي، فإننا نعتقد، أن هذه القيم بحكم طابعها العولمي، أصبحت تغزو كل المجتمعات والأفراد والخصوصيات، بل إننا نعاين أن هذه القيم الجديدة، والتي تسللت لنا من خلال العوالم الإفتراضية، التي فتحت أعين المغاربة، حتى وسط الفئات الفقيرة، على مظاهر الترف «le luxe ««، ومن يعاين كيف أصبحت ثقافة جيل الشباب الحالي، خصوصا في مظاهر اللباس والماكياج، ، يفهم أحد المعاني التي تحدثنا عنها.. وقد لا يحقق الأفراد، خصوصا المعدمون منهم إشباعا في هذه القيم الإستهلاكية، مما يخلق لهم انفصامات وتوترات وانكسارات عميقة المدى، مما يجعلهم أحيانا يستعيضون عنها بالدخول في دوامة العنف، أو السرقة، أو بيع أجسادهن،(وهو ما يمكن أن نفهم منه تعاظم وثيرة الدعارة في المغرب بشكل رهيب)، أو الارتماء في عالم المخدرات، والمتابعة الهستيرية لمباريات كرة القدم، وفي بعض الأحيان الوصول إلى حد الإنتحار أو التفكير في الإنتحار... أو حتى في الدخول في حالات من «السكيزوفرينيا» أو «الباتولوجيا» المرضية. ولعل «التشرميل» أحد أوجهها التي طفت في السطح المغربي حاليا، والتي لا يمكن فصلها عن مجموع الظواهر المرضية التي يمر بها المجتمع المغربي الحالي. ثانيا: هل يمكن اعتبار ممارسة أو «ظاهرة» «التشرميل» ، ممارسة قابلة للذيوع والانتشار في إطار ما يعرف بانزياحات القيم المجتمعية؟ هذا السؤال، أو التساؤل، يصعب من الناحية المنهجية، المجازفة بالجواب عنه، نظرا لغياب دراسات بحثية معمقة حول نوعية هذه الظواهر، أو الممارسات، لكن ذلك، لا يمنعنا من الادلاء ببعض الفرضيات التي تبقى قابلة للتفنيد، كما أنها قد تمتلك بعض من المعقولية السوسيولوجية- النسبية. ولعل من بين هذه الفرضيات، التدفق الهائل للوسائل التكنولوجية، ومنها الشبكات الاجتماعية، والتي قد تستميل فئة، تعيش على وقع الهشاشات المتعددة والمتنوعة. وفي ظل تحرر جزء من الجيل الشبابي الحالي، من مجموعة من القيود والإشراطات، يمكن ان نلحظ تموجات في استلهام هذا النموذج الجديد في القيم المنفلتة من كل عقال، والتي تؤكد مقولة «هوبزباوم» بكوننا نعيش مرحلة الزلازل والتصدعات، في كل الأشياء، وعلى رأسها التصدع في المنظومة القيمية. لكل ما سبق، فإننا نرى بكل تأكيد، أن التخوف مشروع في انتقال الممارسات «التشرميل» إلى بقية أفراد الفئة الهشة-ليس اقتصاديا- ولكن الهشة على المستوى القيمي الاخلاقي، والتي تعاني من فراغ أو خواء فكري وقيمي، والأخطر روحي وديني وتربوي، مما ينذر بتحولها إلى نوع من المقبولية الشبابية والمراهقية، والتي تعني أن فئة الشباب والمراهقين، تستهويها مثل هذه التصرفات، إما بدافع المحاكاة-غير الواعية في أغلب الحالات- ، أو بدافع الشهرة وإبراز الذات، والتفاخر الطقوسي الغرائبي. «فكل مثير محبوب». وليس غريبا أن يلتقط الشباب هذه الممارسات، التي تخلقت في وسط حضري مثقل بالتوعكات السوسيوثقافية والسوسيواجتماعية والسوسيواقتصادية، «درب السلطان»، وأن يتم ترويجها على أوسع نطاق، بفضل الشبكات الاجتماعية الحديثة. ولعل هذا ما يسلمنا للحديث عن انحسار المقاربة التنموية في رفد الكتلة الحرجة من المجتمع وهي الشباب. ولعل ما يثير التخوف، هو أن انهيار السلطة في المجتمع (بمعناه الواسع)، سيعمق أكثر من ذيوع هذه الأنواع من الممارسات المتطرفة والشاذة والغريبة على مجتمعنا المغربي. طبعا نسجل أن هناك رد فعل قوي للجهاز الأمني، في التدخل السريع لإيقاف النزيف، لكنه غير كاف في المسألة. ثالثا: وقفات مع مقاربات العلاج، وفي ضرورة التفكير في الحلول الاستباقية ربما ليس جديدا أن نقول أو يعبر البعض أن هذه السلوكات أو الظواهر التي بدأت تنخر المجتمع المغربي، تحتاج إلى مقاربات وإلى رؤية شمولية وإلى ما هناك, لكن الإشكال هو في كون طبيعة هذه الظواهر أنها تتفاعل وتعتمل بشكل خفي غير معلن، بمعنى آخر، إننا أمام ظواهر غير مرئية و غير مباشرة، حتى نستطيع التحكم في مساراتها وجذورها ومن تم توقيفها بتقديم علاجات اختزالية وتبسيطية كالتي يعتمدها بعض صناع القرار في بلادنا. إن الأمر أعمق من ذلك، فهذه الظواهر تحتاج إلى عمل نوعي ومتتابع في الزمان والمكان وعبر المراحل السوسيوتاريخية. ونحن نعتقد أننا بحاجة أولا وأخيرا، إلى رؤية مجتمعية واضحة لما نريده بالمواطن المغربي، وبالشاب المغربي وبالمراهق المغربي؟ ومن ثم يجب أن تكون لنا القدرة على خلق البيئات التمكينية والمحايثة والملازمة لصناعة الانسان/ المواطن، الإنسان المغربي المعتز بهويته الدينية، وبحضارته الثقافية المغربية الأصيلة والمتشبع بالقيم الكونية السامية والنبيلة. وهذا الأمر، نعتقد أنه يجب أن يصبح سنفونية يعزفها الكل: الأسرة، الروض، المدرسة، الجامعة، الاعلام، المجتمع المدني، وغيرها من المؤسسات المجتمعية، سواء الرسمية او غيرها. والأهم من ذلك، أن يكون لنا طموح جماعي يستنهض القيم المحركة والايجابية لربح رهان التحديات التي تواجهنا. طبعا لا يمكن أن نفهم من هذا التحليل المتواضع، أية رؤية مثالية /يوتوبية، تنشد مجتمعا متخيلا ملائكيا؟ هذا لا يقول به الباحثون والمتتبعون للشأن المجتمعي، لكننا نريد أن نوضح مسألة في غاية الأهمية، وهي أن المجتمع ينشد دائما التماهي مع قيم في صيغتها المثالية، لأنها هي التي تمكننا من معالجة العلل الاجتماعية والنفسية التي تعترينا، ولهذا فهذه الاقتراحات أو اليوتوبيات، هي مشروعة من هذه الوجوه المتفائلة. أخيرا، هناك مسألة الحلول الاستباقية، وهي الأقدر على تجنيبنا أو على الأقل التخفيف من حدة هذه الظواهر والممارسات، التي تكلفنا الشيء الكثير. فعلى سبيل المثال، يمكننا في هذا الصدد أن نطرح فكرة تنموية توصل إليها خبراء التنمية العالميين، وهي أن الاستثمار في الرأسمال البشري، لا يضاهيها أي استثمار، وأنها من الناحية المادية / الاقتصادية الصرفة، تعد أفضل السبل للتقليل من الأكلاف المادية التي تشرط وضعنا الحالي. بمعنى آخر، كلما عبأنا واستثمرنا أموالا وميزانيات مهمة، في توجيهها للكتلة الحرجة وهي الشباب والمراهقين، كلما كانت نتائجه أقل من كل الميزانيات التي قد نحتاجها في المجال الصحي أو في المجال العقابي بمعناه الضيق «السجن» أو الأمني في تعبئة الكثير من الموارد والطواقم لمواجهة هذه الظواهر. فالأمر من الناحية الاقتصادية بين كلا الاختيارين، يرجح الاختيار الأول، ألا وهو تنمية السلوك المدني عند الشباب، بتعبئة كل الحوامل القيمية والمؤسساتية التي لها من الفعالية الشيء الكثير. وأعتقد أننا بحاجة إلى تغيير منظورنا القديم في التعامل مع المسألة الاجتماعية، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فالمسألة الاجتماعية، كما يقول بذلك السوسيولوجيون، تعد إحدى المسائل التي تتطلب منظورا شموليا في التعاطي والمقاربة والتدخل. ونظرا للحيز الضيق المرتبط بهذا المقال، فإننا نلمح إلى مسألة إدخال تغيير جذري في المناهج التربوية المغربية، عبر استدماج التربية الموسيقية، كمادة أساسية في التكوين الأساس للتلاميذ، وليس كما هو عليه الحال في المدرسة المغربية الحالية. ولعل اقدامنا على طرح هذا المقترح -الذي قد يعتبره البعض اختزاليا، وغير ذي معنى، في موضوع شائك- أقول، إن المجتمع المغربي، وبشكل خاص فئته الشابة والمراهقة، تعاني من توتر وصدمة ولا معيارية حقيقية، وربما يشكل التهذيب الموسيقي، وسيلة لعلاج العديد من هذه الأعراض، هذا بالاضافة إلى وجود برامج نوعية في كل المشاتل التنشئوية التي يحتك بها الجيل الشبابي الحالي. * (باحث ومتخصص في سوسيولوجيا القيم)