ليس الحديث عن التحولات القيمية، عند فئة الشباب المغربي، و بقية الفئات المجتمعية حديثا جديدا، بل إنه أصبح موضوعا حاضرا بقوة في كل المناقشات العلمية والأكاديمية، وحتى الصحفية، وفي حديث الناس بصفة عامة. وقد يتوارى هذا النقاش أو يبرز بحسب الحيثيات والظروف والسياقات، التي تشرط كل حديث عن طبيعة هذه التحولات. ولعل الحدث الأبرز الذي حفزني للكتابة في الموضوع، هو ما وقع مؤخرا فيما يعرف ب(قضية الاحتجاج عن طريق تقبيل الشباب للشابات في الشارع العام). وهذا الحدث يعد في نظرنا، مؤشرا على تحول عميق وكبير في منظومة القيم التي يحملها الجيل الشبابي الحالي. فلأول مرة في تاريخ المملكة الشريفة يحدث حدث بهذا الشكل. ولهذا فالمناسبة شرط لتقديم وجهة نظر متواضعة في هذا السياق. تتبعت كما تتبع الكثير من القراء، المقالات الصحفية التي كتبت حول الموضوع، بل أكثر من ذلك، فقد انتقل الموضوع إلى المساجد، حيث خصص بعض خطباء الجمعة في مساجد المملكة، حديثا عن تداعياته على النسيج المجتمعي ببلادنا (نموذج خطبة يوم الجمعة بمدينة مكناس، 25 أكتوبر 2013). ويمكن أن نستخلص من هذه القراءات والمتابعات، توجهين في الموضوع: الأول، يستند إلى قراءة "أخلاقوية" مثقلة بلغلة الإدانة والرفض والاستنكار لما وقع، بل إنها (أي هذه القراءة)، ذهبت أبعد من ذلك، عندما اعتبرت أن القضية فيها مؤامرة خارجية تهدد أخلاق المغاربة وأخلاق الشباب بصفة خاصة. خصوصا عندما انتصبت "جمعيات مدنية" للدفاع عن هؤلاء الشباب في التعبير عن سلوكاتهم بكل حرية، بل ودعت إلى الاحتجاج ضد منطق المنع والتضييق. أما القراءة الثانية، فقد استندت في مطارحتها، إلى "المرجعية الكونية"، التي تتحدث عن الحقوق الفردية وعن حق الإنسان في جسده وفي سلوكاته، وعن المعاهدات الدولية التي وقع عليها المغرب، والتي تنص على احترام حق الإنسان في ممارسة حريته. ولهذا انبرى أحد الباحثين للدعوة إلى إزالة مظاهر التناقض بين التشريعات الوطنية (القانون الجنائي) وبين المعاهدات الدولية في الموضوع. طبعا هذين الموقفين، ربما يعكسان جزء مما يرشح به المجتمع المغربي، من اختلاف في وجهات نظر، ومن زوايا المعالجة. وبطيعة الحال، من الناحية الكمية، سنجد أن الفئة الأولى هي الغالبة (الموقف الرافض)، بينما الفئة الثانية، لا تتعدى رؤوس الأصابع. لكن الذي يهمنا في هذا النقاش، ليس هو الإدانة أو التثمين. بقدر ما يهمنا من زواية معالجتنا، هو فهم خلفيات الحدث، وقراءته في ضوء التحولات العميقة التي يشهدها المغرب، وباقي بلدان العالم، وبشكل خاص، فئته الشابة، التي أصبحت عنوانا على بروز قيم جديدة. لا شك أن هذا الحدث (التقبيل في الشارع العام)، ليس سوى مؤشرا من بين مؤشرات على مظاهر الإشكالية القيمية التي يعرفها مجتمعنا المغربي. ذلك أن المغرب، تعرض لموجات من التحديث العنيف والمفاجئ والقوي والمتسارع. و لهذا عندما نتفحص الخلفيات الحاكمة لموجة ما بعد الحداثة، نجدها تتأسس على ثلاثة مفاهيم مركزية: مبدأ التشكيك، ونعني بها التشكيك في كل القيم السابقة، والمرجعيات الدينية أو الثقافية، ووضعها موضع نقد ونقض، (وفي هذا السياق، يمكن أن نفهم التوجهات الجديدة/ القديمة التي تعلن عن تنصلها في كل القيم الدينية ومن الميتافزيقا). أما المبدأ الثاني، فهو رفض كل الأنساق المستقرة والمحافظة، والأخطر من كل ذلك تحطيم كل المرجعيات التي تحكم قيم الناس، سواء كانت مرجعية دينية أو ثقافية، أو حتى قانونية. ولهذا اعتبر الباحثان الألمانيان "لوكمان، وبيبرغر 1966" أن سبب الأزمات التي تقع فيها المجتمعات، يعود إلى ضياع المرجعيات. و لعل هذا المبدأ الثاني، يذكرنا بالتيار الفوضوي الذي دعا له المنظر الألماني "ماكس ستيرنر"، عندما اعتبر أن على الأفراد أن ينتفضوا ضد المجتمع وقيمه وثقافته لأنها تحد من حرياتهم. في حين يشكل المبدأ المركزي الثالث، في هذه القيم التي تدعو إليها موجة ما بعد الحداثة، الاعتراف، ويقصدون به الدعوة إلى "الحرية والتعددية غير المتناهية، ولذلك يؤكد هذا المبدأ على تقبل كل الأذواق الفنية، سواء كانت "وضيعة" أو رفيعة أو "سوقية"، ويهتم أساسا هذا الخطاب، بكل ما هو هامشي ومحظور ومقصي" (خالد ميار الإدريسي، 2011). وقد يتهمنا البعض بأننا نحاول أن نختلق إشكالات لا أصل لها في البيئة المغربية، وربما تستند هذه الحجة، بكون المغرب لم يدخل بعد مرحلة الحداثة، فما بالك تتحدث عن موجة ما بعد الحداثة؟ كرد على هذه الحجة، أقول أن مسألة الدخول الدخول إلى الحداثة أو إلى ما بعد الحداثة، ليست باختيارنا وليست مسألة مرتبطة بمراحل معينة ينتظر أن يقطعها مجتمع معين ليصل إلى تلك المرحلة، والمسألة، ثانيا ليست خطية ونمطية، بل إن موجة التحولات وسرعتها لا تعرف التوقف، وبالتالي فهي موجات عالمية وكونية، تؤثر وتتأثر بمجموعة من العوامل والإشراطات. وبالتالي فنحن في المغرب رغم أننا لا زلنا نحافظ على مجموعة من القيم التقليدية/ الثقافية المحافظة، فإننا بالمقابل نتعرض صباح مساء لموجات من القيم الحداثية وما بعد الحداثية التي قد لا نأخذه في جوهرها وفي منظورها الكلي، لكنها بالتأكيد تزحف على نسيجنا المجتمعي، مولدة لتوجهات وقيم وممارسات وسلوكات ورؤى للعالم، مغايرة أو متعايشة أو متناقضة مع قيم المجتمع الأصلي. بل إن هذه القيم الجديدة، اخترقت حتى تلك المجتمعات، التي كنا نعتقد أنها عصية على التغيير (نموذج دول الخليج العربي). ولذلك عبر المفكر المغربي "محمد سبيلا،2010" عن توصيف ذكي لهذه الازدواجية، عندما أكد أن عمليات التحول القيمي، تتميز بدينامية التقليد والحداثة، فلا القيم التقليدية تموت كلية، ولا القيم الحداثية تحل محلها، بل إنهما يتمازجان بشكل فيه من التداخل والترابط والقطائع أحيانا الشيء الكثير. تساوق مع هذه التحولات، تصاعد موجات الحرية، وانهيار مجموعة من السلط، سواء الدينية أو الاجتماعية أو حتى السياسية، في إطار ما يعرف بتحول السلطة، وبروز ما سمي بالفرد/ الذات. هذه الذات، التي تعلي من قيمة الحرية ومن قيمة الأنا المتكلمة بدل "نا" الدالة على الجماعة، فقد وقع ما يشبه تفكك النسيج الاجتماعي، بين المجتمع ومؤسساته وبين الأفراد. من خلال كل ما سبق من عوامل، سواء منها ما هو ذاتي موضوعي وما هو خارجي كوني، يمكن أن نفهم سر هذه التحولات القيمية، والتي قد لا نفهم تفاصيلها بسبب هيمنة الخطاب الأيديولوجي سواء منه الأخلاقوي أو المتماهي مع القيم الكونية، ولهذا فنحن بحاجة مقاربة علمية تمتح من حقل السوسيولوجيا لتفك السحر عن الظاهرة. إن قضية تبادل القبل في الشارع العام، لم تكن حدثا فريدا من نوعه، فهناك العديد من المشاهد التي تعج بها مؤسساتنا ومنتدياتنا وأزقتنا وحدائقنا ومحلاتنا...، مما لا تخلو من لحظات سرقة لقبلة منتزعة هناك وهناك. لكن الجديد في نظرنا، هو قبول فئة من المجتمع لهذا السلوك، بل والدعوة إلى ترسيمه، وإلى تحدي كل القيم والمرجيعات، باسم الحريات الفردية وما إلى ذلك. ولهذا فالمشتغلون بحقل القيم وتحولاته، كثيرا ما يلتفتون إلى بعض الأحداث التي تشكل شبه قطيعة مع قيم المجتمع، ويحاولون أن يبحثوا عن تفاصيل التفاصيل، لفهم كيفية ترويج قيمة من القيم، ولماذا تضمر قيم وتحيا أخرى؟ وكيف يواجه المجتمع تحول القيم من جيل إلى آخر؟ وما هي العوامل المتحكمة في تراتبية هذه القيم؟ نقول هذا الكلام، ونحن نعاين –كما يعاين أغلب الباحثين- أن المغرب، يعيش على وقع تحولات عميقة، لعل من بين مؤشراتها الكبرى، تضخم المسألة الجنسية، وكيفية تدبيرها من طرف المجتمع، ولماذا بدأنا نلاحظ انفجارا جنسيا مهددا بتغيير في بنية المجتمع، وفي أشكال علاقاته. فالجيل الشبابي الحالي، الذي عايش ظروفا أقل ما يقال عنها أنها تغري بممارسة الجنس، فالإعلام والأنترنيت وأشكال الموضة الحديثة وتقينات التواصل السريع، سرعت من حضور الهواجس الجنسية أكثر من الأجيال السابقة. هذا في الوقت الذي يعرف فيه هذا الجيل تحللا أو تراجعا أو ضعفا لمجموعة من المؤسسات والمرجعيات والتقاليد، وعلى رأسها مؤسسة الأسرة. وقد يتولد عن ذلك، بروز ثقافة النفاق الاجتماعي، ففي حين يعبر الشباب عن رفضهم لبعض مظاهر "المخلة بالآداب العامة" (كما تشير إلى ذلك بعض استطلاعات الرأي)، لكنه في نفس الوقت يقبلها بمبررات عديدة، والغريب أنه يجد لها نوعا من القبول الاجتماعي. وهذه من أعوص الإشكاليات التي تشرط المنظومة القيمية، والتي تتداخل فيها العديد من العوامل وعلى رأسها المؤسسة التعليمية. ختاما، نعتقد أن التحول في مجال القيم، ليس بالأمر الهين أو الثانوي، بل إنه التحول الذي يمكنه أن يؤثر في بقية الحقول، سواء السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، وواهم من يعتقد أن المسألة بسيطة وعادية، بل إنها محك لتحول مجتمعي عميق وممتد في الزمن، وله تداعيات وأكلاف وتبعات، وهو الحقل الذي يتأثر بشكل كبير بما يرشح من تحولات عالمية أو إقليمية أو محلية. وأحسب أننا في المجتمع المغربي، بحاجة لفتح نقاش هادئ وعلمي ورصين في المسألة القيمية، بعيدا عن كل تشنج أو تنطع أو انغلاق أو تماه مجاني مع ما يسمى بالقيم الكونية، فالمسألة تقتضي التفكير في المشروع المجتمعي الذي نروم تحقيقه وتنزيله على أرض الواقع، والذي يخدم بالدرجة الأولى قيم الكرامة الإنسانية، سواء في شقها الفردي أو الجماعي. ولهذا فأي مقاربة تنحو نحو تجزيء الحريات أو الحقوق إلى ما هو فردي أو جماعي، فهي مراهنة خاسرة للوطن وللمجتمع وللأفراد وللتاريخ. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.