تواترت في الأسابيع الماضية، حوادث تعنيف أساتذة من طرف تلامذتهم داخل حجرات الدرس، وفي حرمة المدارس. وقد كان ذلك مناسبة لإثارة نقاش عمومي أعاد طرح سؤال مآل المدرسة العمومية في المغرب، في ظل ما تعيشه من تفاقم "الأزمات المزمنة" وتراكم أشكال المقاومات، التي تجعل الإصلاح الحقيقي يبقى عصيا وبعيد المنال. وقد كانت لهذه الحوادث، التي ركز عليها كثيرا الإعلام الوطني وشبكات التواصل الاجتماعي، تداعيات طالت الجسم التعليمي برمته محدثة، لدى المدرسين على الخصوص، حالات قلق وغضب وخوف من أن تتجاوز الظاهرة حدود السيطرة. كما دخلت على الخط مؤخرا النقابات التعليمية التي توحدت في تظاهرة احتجاجية أطلقت عليها " مسيرة الكرامة " للتنديد بظاهرة تعنيف الأساتذة والمطالبة بإصدار قانون حمائي، يصون الكرامة ويحد من استفحال الظاهرة، وكأن الأمر يمكن الحد منه ببعض القوانين الردعية. غير أن ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن العنف في الوسط المدرسي بأشكاله الرمزية والمادية، وبتنوع ممارسيه ( التلاميذ، الأساتذة، المنهاج، الدولة ) ليس ظاهرة جديدة في المشهد التعليمي المغربي، كما حاولت أن تبين ذلك أغلب التحليلات التي عالجت، مؤخرا، إشكالية العنف المدرسي في المغرب، بل كان حاضرا باستمرار يكتوي به التلاميذ والمدرسون معا، لكنه كان يدخل في دائرة ما هو مسكوت عنه في المدرسة. أما الجديد اليوم فهو دخول الإعلام الالكتروني على الخط، ونجاحه في جعل بعض القضايا التي كانت تقع في السابق وتتوارى بسرعة في عالم النسيان، قضايا وطنية تحضر في النقاش العمومي... فقد كان التعنيف مثلا أسلوبا للجزاء التربوي في التعليم التقليدي ( المسيد )، ولم تشفع حداثة بنية المدرسة، حينما تم إدماجها في المغرب خلال المرحلة الكولونيالية، في طي صفحة العنف، بل تعمقت الظاهرة في رحاب المدرسة الحديثة واتخذت عدة أشكال؛ كما أن الأدوار في فعل التعنيف تتغير، بحيث قد يتحول المعنَّف إلى معنِّف. بل حتى المنهاج، سواء منه الرسمي أو الضمني، قد يمارس، في بعض الحالات، عنفا رمزيا على المتلقي، الذي لا تتوفر لديه الشروط الضرورية للمثاقفة. وفي سياق رغبة وزارة التربية الوطنية في محاصرة استفحال ظاهرة العنف المدرسي تم إصدار مذكرة (15 x002 ) لنبذ العقاب البدني كأسلوب تربوي في المدارس، لكن دون أن يؤدي ذلك، فعليا، إلى تراجع العنف المادي المرادف للشدة والقسوة والإكراه البدني، بل زاد توتر العلاقة التربوية بين طرفيها، في الوسط المدرسي، بفعل الارتفاع الملموس لظاهرة اللجوء لأشكال العنف المختلفة، بما في ذلك المادي و الرمزي، سواء كان لفظيا أو غير لفظي . وإذا كانت المدرسة قد تحولت فعلا إلى حلبة لممارسة بعض السلوكات غير المدنية ومنها العنف بمختلف أشكاله، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن المدرسة كمؤسسة تربوية هي الآلة المنتجة لهذا العنف. صحيح أن بعض النظريات السوسيولوجية كشفت أن الفعل التربوي هو في جوهره فعل يحيل على "ممارسة ناعمة للإكراه"؛ وذلك بفعل أن كل تنشئة تربوية هي "تطبيع" اجتماعي. لكن تحول المدرسة لساحة لممارسة العنف المادي والرمزي من طرف أي طرف كان، هو ظاهرة لا تنتجها المدرسة بحد ذاتها، بقدر ما هي ضحية لها. فما يحدث داخل المدرسة من توتر وعنف هو عبارة عن رجع الصدى لهذا العنف المجتمعي المتنامي والمتعدد الأشكال... أما المصدر الحقيقي لهذا العنف المتنامي في المدرسة فيعود، في نظرنا، إلى ثلاثة عوامل أساسية هي: 1 العامل المجتمعي: ويحيل على الخصوص لحالة "الأنوميا" كما حددها "دوركايم" والتي تنطبق، إلى حد ما، على حالتنا الراهنة، حيث نعيش وضعية فقدان المعايير الرائجة في مجتمعنا للبوصلة القيمية الموَجِّهة، وأيضا تدني المعايير الاجتماعية وسيادة النزعة الفردية والميل للترميق(bricolage)، الذي يفضي إلى تفضيل الأفراد لسلوكات غير متناغمة، وأحينا متناقضة وتفتقد للوازع القيمي. وفي سياق سيادة هذه القيم الرخوة أو "السائلة" على حد تعبير " زيجمونت باومان" تتحكم في سلوكات الأفراد معايير غير عقلانية؛ فتصبح العلاقات بينهم صدامية ويغلب عليها العنف والشدة والقسوة والتقريع. وتتم تنشئة الأجيال الجديدة منذ الطفولة الأولى في الأسر المغربية على استبطان هذه العلاقات المتوترة والعنيفة، واستدماجها لتشكل جزءا من " الأبيتوس" الراسخ في شخصية الأفراد. فبسبب فشل المدرسة في وظيفتها الاجتماعية المتمثلة في بلورة مشروع تربوي جديد شامل ومتكامل، ونظام قيمي جديد يمكن نقله للمجتمع وصولا لتطويره؛ فإنها أصبحت هي التي تستقبل الثقافة والقيم السائدة في المجتمع، بما فيها القيم السلبية وغير العقلانية. فالتلاميذ والفاعلون التربيون يتصرفون، حينما يوجدون في السياق المدرسي، وكأنهم في المجتمع العام، يقعون تحت تأثير الأطر الاجتماعية السائدة، وليس تحت تأثير الأطر والمرجعيات التربوية العقلانية. فبدلا من قيام المدرسة بالتأثير على المجتمع بتحديث بنياته العتيقة واختلالاته، ودفعه لبناء علاقات اجتماعية عقلانية، تعيد المعنى للقيم والمعايير الاجتماعية، فإنها تكتفي بإعادة إنتاج ما هو سائد بكل أعطابه. وارتباطا بذلك يشكل العنف جزءا من الثقافة الاجتماعية التي تتسلل لتعبر عن نفسها في الفضاء المدرسي، متجلية في سلوكيات التلاميذ والمدرسين. فكل طرف منهما يحضر للمدرسة وهو حامل لميراث اجتماعي وأسري، تتفاعل فيه الثقافة التي نشأ عليها بقيمها ومعاييرها، وهي التي يحضر فيها العنف كممارسة راسخة في العلاقات الاجتماعية. ولم يعمل تحديث وسائل العيش المشترك على تقليص منسوب العنف، بل ارتفعت وتيرته وتوسعت الفضاءات والمؤسسات التي طالها. وهكذا نتعايش في مجتمعنا مع العنف ونقبل ممارسته ضد المرأة والطفل والمختلف ومن يعيش وضعية هشاشة. وفي هذا السياق يمكن القول بأننا نعيش مرحلة تشهد فيها العلاقات بين المدرسة والمجتمع نوعا من التوتر، وضعفا في تبادل التأثير بينهما؛ فالمدرسة تتأثر بالمجتمع ( انتقال العنف المجتمعي للمدرسة مثلا )، لكن عطب المدرسة الأساسي يكمن في أنها عاجزة عن التأثير الايجابي في المجتمع( ضعف غرس القيم الجديدة في المجتمع). وهذا مظهر من مظاهر اتساع الفجوة بين المدرسة ومحيطها المجتمعي. 2 تراجع السلطة الرمزية للمدرس: ويعود السبب في ذلك لكون المدرس لم يعد مالكا لوحده للمعرفة في الفصل الدراسي؛ فهو لم يعد ذلك الموسوعي المالك "لأسرار" المعرفة، ويتولى تلقينها للتلاميذ. لقد أتاحت " الغوغلة " (googlisation) وضع المعرفة أمام من يطلبها بنقرة واحدة، أينما شاء ووقت ما شاء. ولاشك أن فقدان المدرس لهذا الرأسمال المعرفي، الذي " احتكره " منذ تأسيس المدرسة سيؤثر في وضعه وفي أدواره، وكذا في سلطته الرمزية. وبالتالي فإن العلاقة التربوية مع المتلقي سيلحقها تغيير، بحيث سوف تتراجع سلطة المدرس وتهتز صورته في مخيال التلاميذ، بحيث يبدو لهم كشخص يقوم فقط بتقويمهم. أما المعرفة، التي يفترض أنه هو ناقلها، فهي توجد الآن في مصادر أخرى؛ مما يجعله (المدرس)عرضة للسخرية أحيانا، أو حتى موضوعا للعنف أحينا أخرى. ويلاحظ في هذا السياق أن تراجع السلطة الرمزية للمدرس نتيجة فقدانه لاحتكار المعرفة هي ظاهرة كونية فرضها تطور التكنولوجيات الحديثة. غير أن الفرق الملاحظ بين مختلف الأنظمة التعليمية هو أن الأنظمة المتقدمة استطاعت أن تطور آليات بيداغوجية وديداكتيكية جديدة ومبتكرة للحفاظ على الصورة الايجابية للمدرس والحيلولة دون ظهوره كمن فقد دوره بفعل " الغوغلة". أما الأنظمة التي لم تتدارك الأمر فإنها أصبحت عرضة لظهور علاقات متوترة بين التلاميذ والمدرسين، قد تصل إلى حد استعمال العنف من طرف أحد الطرفين، وهي الحالة التي نشاهدها حاليا في مدارسنا في المغرب. وبشكل عام يمكن القول إن العلاقة بين التلاميذ ومدرسيهم تتأرجح بين النزوع للاعتراف والاحترام( هذه العلاقة في تراجع مستمر)، وبين الحذر والتوجس من تزايد أدوار المدرس كممارس فقط لسلطة الضبط والمراقبة والتقويم . يضاف إلى ذلك مشكل آخر يتعلق بحاجة بعض المدرسين لتعميق تكوينهم البيداغوجي، خصوصا في الجوانب المتعلقة بأسلوب التعامل مع المراهقين، وقواعد التحكم في الغضب، وتوظيف الذكاء العاطفي، وتقنيات دينامية الجماعات ولعب الأدوار، وغير ذلك من الأساليب التي تسهل التواصل مع فئات المراهقين الأقل انضباطا للمعايير المدرسية. إن عدم التحكم في هذه التقنيات والاستراتيجيات قد يدفع بالمدرس في لحظات التوتر إلى السقوط في المحذور، خصوصا حينما يتلفظ بعبارات قد تثير مشاعر التلميذ أو تهينه أمام زملائه. فيكون ذلك مدعاة لرد فعل التلميذ العنيف تجاه المدرس، أو تجاه الجهاز المدرسي بأكمله. فسخرية المدرس من المراهق أمام زملائه من شأنها أن تترك خدوشا عميقة في نفسيته، وقد تصل ردود أفعاله حد التنكر لكل الضوابط. 3 الثقافة الالكترونية: إن انخراط الشباب في الفضاء الأزرق أصبح أمرا لا رجعة فيه لدرجة أن البعض منهم، خصوصا من هو مدمن على السباحة الافتراضية، صار يتمثل نفسه وكأنه ينتمي بشكل تام لهذا العالم الافتراضي؛ أما حضوره في العالم الواقعي فهو حضور يشبه وضع اللاجئ أو المقيم بكيفية مؤقتة فقط. وهذا الانتماء لذلك العالم الشبكي يفرض عليه الخضوع "للتنشئة الافتراضية"، وهي تنشئة حاملة لقيم ومعايير سلوكية تتجاوز ما هو اجتماعي لتعانق ما هو غرائبي وفوضوي ووجداني، وكل ما ينفلت من الرقابة الاجتماعية . وخلال الإبحار في الثقافة الالكترونية بكل مكوناتها ( ألعاب، أفلام، موسيقى وتواصل اجتماعي... ) يصادف الأطفال واليافعون في ثنايا هذه الثقافة ألوانا من العنف، يشاهدون الجزء المادي منه في أفلام الرعب، وفي الألعاب التي يتوج فيها الفاعل بطلا بسبب تعدد ضحاياه ( الممارس لسلوك العنف يصبح بطلا !) ؛ كما يكونون شهودا على عنف رمزي يمارس في منصات التواصل الاجتماعي وفي قنوات أخرى. وفي ارتباط بذلك نجد أن الأطفال والشباب يتماهون بأبطال "القوة التي لا تقهر" و"العنف بدون رحمة" في الثقافة الالكترونية، بما يحقق الرغبات التخييلية التي تراودهم، وهكذا فتحت تأثير الانبهار والإغراء والغواية يتم تشكيل مخيالهم. كما أن لإيحاءات الموسيقى الصاخبة ولسلطة الصورة كبير التأثير في لاوعي التلاميذ المراهقين، الذين قد يعمدون في لحظة انفعال، حيث تتراجع المراقبة العقلية وتفتر الكوابح الاجتماعية، إلى نقل صور العنف المختزنة في اللاوعي إلى مجال الواقع. وفي هذه الحالة قد يمارس العنف ضد الأصول أو ضد المدرسين، وكل من يرمز لحماية القيم والمعايير الاجتماعية. وهنا نقع، في الحقيقة، في لبس: عند تقييم الحالة: هل ندين فاعل العنف ؟ أم ندين الثقافة الالكترونية التي استمالته وشحنته بالصور النمطية، القابلة لأن تترجم في أية لحظة إلى أفعال عنف في الواقع على الأرض؟ بعد تشخيص أهم العوامل الفاعلة في تنامي العنف المدرسي، لابد من الإشارة إلى بعض المداخل والرافعات التي يمكن أن تساعد في التحكم في هذه الظاهرة المشينة. وهنا ينبغي التمييز بين ثلاثة مستويات من العنف عند معالجتنا للعنف الممارس في الوسط المدرسي: عنف انطولوجي وجودي يحيل على تلك الطاقة العدوانية الأصلية الموجودة في البشر( موجودة بالقوة)، والتي لا سبيل لتغييرها، والتي يجب العمل على بقائها في حدود الكمون وأن لا تمر للفعل. عنف يعود إلى المجتمع والى ثقافته التي تتعايش مع العنف بكل أشكاله من خلال الممارسة وإعادة الإنتاج. ويمكن إعادة ضبط هذا العنف وتقليص منسوبه من خلال بناء أسس المجتمع الحداثي والديمقراطي، حيث يمكن بلوغ تحقيق العيش المشترك، بترسيخ قيم المساواة والتسامح والاعتراف واحترام الأخر والمختلف . ويمكن أن تلعب السياسات العمومية والتثقيف والتوعية المجتمعية والتربية والإعلام والمجتمع المدني دورا في تحقيق الهدف المنشود. عنف مدرسي مرتبط بالممارسات اللامدنية في الوسط المدرسي، وهنا ينبغي تبني إستراتيجية تربوية تحول دون مرور التلميذ أو الأستاذ إلى الفعل العنيف، لأن تراكمات العنف المجتمعي موجودة لدى الفاعلين في المدرسة، لكن المهم هو أن نحول دون المرور إلى الفعل. وهناك عدة رافعات يمكن أن تخدم هذا الهدف، ومنها: إرساء التربية المدنية وتعزيز السلوك المدني والحضاري داخل المدارس، وتدريب القيادات التربوية على لعب دور القدوة، وفتح فضاءات للإنصات، وإرساء التربية الفنية ضمن المناهج الدراسية كالموسيقى والرسم والمسرح والرقص ؛ وغير ذلك من الآليات التي تساعد على تصريف طاقة العنف قبل أن تنتقل إلى الفعل. *أستاذ جامعي وباحث في سوسيولوجية التربية [email protected]