لا يماري أحد في خطورة هذه الظاهرة المقيتة التي ما فتئت تتفاقم في السنوات الأخيرة، وتجتاح مؤسساتنا التعليمية، حتى أصبحنا نسمع بين الفينة والأخرى عن حوادث العنف داخل الحرم المدرسي سواء التي تستهدف رجالاته أو طلابه. إنه لمن المؤسف، أن تنحرف المدرسة عن وظيفتها الأساسية المتمثلة في صناعة الإنسان وتهذيب سلوكه، وتلقينه كل الكفايات والمعارف التي تجعله قادرا على التعايش مع بني جنسه من البشر في أمن وسلام، باعتبارها مشتل للقيم والأخلاق. لتصبح فضاء يمارس فيه العنف بشتى أنواعه. إن المدرسة ليست جزءا منفصلا عن كيان المجتمع، بل عنصرا جوهريا يؤثر فيه ويتأثر به، وعليه فإن رقي المدرسة يدل على رقي وتقدم المجتمع، وانحطاط المدرسة وإفلاسها يعني بكل بساطة تخلف المجتمع. وهكذا، فإن مدارسنا بكل أصنافها ودرجاتها وما تعيشه اليوم من إشكالات لا حصر لها، تعد مرآة لما يتخبط فيه المجتمع من أزمات متعددة. لذا، فإن ظاهرة العنف المدرسي ليست ظاهرة معزولة، بل هي نتاج وامتداد لما يشهده مجتمعنا من اعوجاج في ميادين شتى. ويمكن تعريف العنف المدرسي بكونه، إظهار للعداوة والنية بالإيذاء داخل الوسط المدرسي أو الوسط المحيط بالمدرسة، وما يلي ذلك العدوان من سلوكات تسبب الأذى المادي أو الجسدي أو النفسي للأشخاص المعنفين، وقد ينشأ العنف المدرسي بأحد المحورين: عمودي يبديه المعلم نحو طلابه أو العكس، وأفقي ينشأ بين الطلاب أنفسهم. وهذا يدفعنا إلى التساؤل حول العوامل الحقيقية التي تغدي ظاهرة العنف المدرسي؟ وعن مداخل استئصال العنف من فضاءاتنا التعليمية؟ وتبعا لما سلف، لا يمكن الحديث عن مداخل اجتثاث هذه الظاهرة (ثانيا)، قبل التعرض للعوامل المتعددة الكامنة وراء انتشارها (أولا). أولا - العنف المدرسي كنتاج لمجموعة من الأزمات المجتمعية هناك حقيقة يصعب إغفالها، تتمثل في كون المدرسة تشكل امتداد للمجتمع ولسان حاله، الذي يعبر عما يعانيه من إشكالات وخلل. ولذلك، فإن ظاهرة العنف المدرسي تتغدى على مجموعة من الإشكالات المجتمعية التي سنتطرق لها إتباعا. أ - اندثار دور مؤسستي الأسرة والمدرسة في التربية لا يمكن إنكار الدور الجوهري الذي تضطلع به الأسرة في تربية وتأطير وتهذيب النشء، باعتبارها نواة المجتمع. وفي هذا المعنى، يعرف البعض الأسرة بكونها مجموعة الأدوار المقتبسة عن طريق الزواج1، لأنها تضطلع بدور أساسي في تشكيل وصقل سلوك الأفراد باعتبارها المؤسسة الاجتماعية الأولى المسؤولة على التنشئة الاجتماعية2. لكن، الحقيقة التي ينطق بها واقع اليوم تؤكد تخلف الأسرة عن النهوض بوظائفها الأساسية بفعل مجموعة من العوامل التي تغل دورها في التربية والتأطير، وتزويد الأبناء بالكفايات الضرورية من القيم والأخلاق التي تساهم في بناء مجتمع سوي وخال من مظاهر العنف والانحراف. فعلى سبيل المثال، يترتب على معاملة الأباء للأبناء وفق أساليب مفعمة بالعنف سواء سلوك مادي أو لفظي في الحياة اليومية، انعكاس سلبي مما يبرر علاقة السلوك الأسري وأثره البالغ على ظهور السلوك العنيف لدى التلميذ3. إن اعتماد الأباء على أسلوب معاملة غير سوية اتجاه الأبناء، مبني على النبذ والإهمال، والقسوة يولد لديهم الكراهية لمفهوم السلطة، ويجعل المراهق يقف موقفا عدائيا، كما تقتل في نفسه الثقة بالنفس. ومن المفيد أن نذكر بأن، كل ما يسود الحياة الأسرية من توتر وصراع كالطلاق مثلا يقلل من درجة التماسك والترابط داخل الأسرة ويجعل الأطفال يعانون من اختلالات وضغوط نفسية4 تكون أرضية خصبة لنمو سلوك مطبوع بالعنف. وعلى هذا النحو، فعندما يكون الأباء حاضرين بصفة دائمة وتكون العلاقة مبنية على أسس إيجابية، في جو أسري حميمي تكون طبيعة التواصل بين الأباء والأبناء إيجابية بشكل يساعد على تسهيل عملية التربية والتهذيب. ويستنتج مما سلف، أن العلاقات والتفاعلات الأسرية تعد أساس استقرار الجو الأسري، فالجو العام للأسرة التي يسودها الانسجام والحب والتفاهم تهيئ للتلميذ مناخا صحيا، بينما الأسرة المشحونة بالصراعات والاضطرابات تشكل ضغطا على التلميذ مما يولد السلوك العنيف. وتأخذ المدرسة المرتبة الثانية بعد الأسرة من حيث الأهمية في سلم التنشئة الاجتماعية فهي مؤسسة اجتماعية أنشأها المجتمع لتتولى تنشئة الأجيال الجديدة5. غير أن ما ترزح تحته مدارسنا من أساليب تدريس بالية وطرق تعليم متجاوزة لا تساير التطور الهائل الذي يشهده العصر، يجعلها عاجزة عن تقديم تعليم عصري وذي جودة قادر على تكوين طلاب أسوياء سلوكيا وفكريا ولديهم مناعة ضد العنف بشتى ضروبه. ب - شيوع ثقافة العنف داخل المجتمع إن كل ذي عين فاحصة وبصيرة غير ناقصة متتبع عن كثب لما يجري ويدور داخل مجتمعنا لن يجد كبير عناء في الوقوف على حقيقة ارتفاع نسبة العنف بشتى ضروبه وأنواعه، وتكاثر منسوب الجريمة بمختلف أصنافها. وحري بالبيان، أن شيوع ثقافة العنف داخل المجتمع يؤثر سلبا على تشكيل الوعي الفردي لدى عامة الناس بالتطبيع مع هذه الثقافة السائدة، وينجم عن ذلك ترجيحهم للغة العنف عوض لغة التواصل والحوار. وتختلف أنواع العنف من لفظي إلى نفسي وآخر جسدي، ومن المؤسف أن نجد الإعلام يساهم بشكل مباشر في نشر ثقافة العنف بين مكونات المجتمع، وذلك من خلال بث مجموعة من البرامج التي تحتوي على جرعات مرتفعة من العنف تؤثر بشكل سلبي على الجمهور الناشئ من أطفال ومراهقين. وهكذا، عوض أن يكون الإعلام منارة لتأطير وتوجيه وتربية الجمهور الناشئ، عبر التوعية ونشر قيم التسامح وترسيخ منظومة الأخلاق، يقوم بنشر ثقافة العنف والتطبيع معها. وفي هذا المعنى يقول "بيير بورديو" إن التلفزيون يمارس نوعا من "العنف الرمزي" المفسد والمؤدي بشكل خاص. العنف الرمزي هو عنف يمارس بتواطؤ ضمني من قبل هؤلاء الذين يخضعون له وأولئك الذين يمارسونه بالقدر الذي يكون فيه أولئك كما هؤلاء غير واعين بممارسة هذا العنف أو الخضوع له6. وضرب أمثلة على ذلك بالأحداث المتفرقة التي تكون دائما المرعى المفضل لصحافة الإثارة، كالدم والجنس، الدراما والجريمة، والتي تؤثر بشكل مباشر في المتلقي. والمشكلة هنا أن التلفاز بوصفه الوسيلة الإعلامية الأكثر تأثيرا، يزاحم كلا من المؤسسة التعليمية والأسرة، في التأثير التربوي على النشء، وإذا كان المعدل العالمي للمشاهدة اليومية للتلفاز يتجاوز الثلاثة ساعات، فإن هذا يعني أن حوالي ثلثي الوقت المتبقي للإنسان من يومه بعد استبعاد وقت العمل أو الدراسة والنوم والطعام والانتقال يقضيه متقوقعا أمام الشاشة7. إذا كانت هذه بعض أسباب ظاهرة العنف المدرسي، فماهي مداخل كبح هذه الظاهرة؟ هذا ما سنحاول التطرق له في الشق الثاني من هذا الموضوع. ثانيا – سبل استئصال آفة العنف المدرسي نستطيع القول، بعد استعراضنا لبعض أسباب ظاهرة العنف المدرسي أن القضاء على هذه الآفة يستلزم تضافر جهود مكونات المجتمع، لأن احتواء ثقافة العنف لا يمكن أن يتم إلا بمقاربة شمولية ولذلك يعد بث الحياة في منظومة القيم والأخلاق (أ) من المداخل الأساسية لتطويق ظاهرة العنف المدرسي، كما أن اعتماد آلية التواصل أضحى من مستلزمات تطعيم جهود مكونات المجتمع في محاربة العنف بالفعالية والنجاعة (ب). أ – بث الحياة في منظومة القيم والأخلاق لا نغالي إذا قلنا بأن إحياء منظومة القيم والأخلاق يعد من مستلزمات كبح جماح آفة العنف المدرسي بصفة خاصة والعنف بشكل عام، وذلك وفق مقاربة وقائية تروم نشر ثقافة التسامح والأخلاق الحميدة ونبذ العنف بشتى أشكاله. إن المجتمع يعتبر بمثابة نظام متكامل يؤثر ويتأثر بأنساقه المختلفة، وبالتالي لا يمكن إحياء منظومة القيم بدون انخراط جل مكوناته التي تؤثر في سلوك الفرد وتنشئته من أسرة ومدرسة وإعلام وغيرها، وهنا يثور إشكال غاية في الأهمية ويتعلق الأمر بمدى إدراك مكونات المجتمع المذكورة لمسؤوليتها في بناء مجتمع متحضر ومتشبث بقيمه وأصالته؟ وغير خفي، أن من أبهى حالات رقي المجتمع الجانب الأخلاقي القيمي فحيثما تعلو القيم والأخلاق يصبح المجتمع مهيأ لأقصى درجات التحضر والانطلاق، مما يجعله قادرا على التصدي لأثار مزاحمة قيم وأخلاق أخرى لمجتمعات غير مجتمعاتنا لقيمنا وأخلاقنا. لذلك، فقد آن الأوان من أجل تثبيت منظومة القيم والأخلاق داخل مجتمعنا لمواجهة موجة العنف التي أخدت تتجدر في واقعنا المعيشي اليومي، ومن هذه القيم نذكر التسامح الاحترام، الحياء والرحمة والعدل والانضباط، والتي من شأنها العودة بمجتمعنا لسكة الحضارة والرقي الإنساني. وعلى صعيد أخر، تجدر الإشارة إلى أن مواجهة تأثير رياح العولمة على نظامنا القيمي تقتضي منا تعزيز إدماج قيم حقوق الإنسان والمواطنة وخاصة ما له علاقة بالتسامح والحوار وقبول الاختلاف في البرامج المدرسية، وتنقيتها من الصور التمييزية المولدة للعنف، وتعليم النشء مبادئ الديمقراطية والحوار، وتربيته على نبذ الصراعات والدفاع عن الحقوق بأساليب الحوار. كما لا يفوتنا في هذا الصدد، التشديد على أن تعليم التلاميذ مهارة أسلوب حل المشكلات بالطرق السلمية وتلقينهم أساليب ضبط الذات وتوجيه الذات وممارسة العديد من الأنشطة الرياضية والهوايات المختلفة يعد بما لا يدع مجال للشك من المداخل الأساسية لتكبيل ظاهرة العنف في شقها المدرسي. وهناك أمر غاية في الأهمية لا بد من التذكير به، وهو أن ما ذكرناه لا يعد كافيا لمواجهة ظاهرة العنف المدرسي، إلا إذا تم توظيف التواصل كرافعة أساسية لتوحيد الجهود الرامية إلى غل هذه الظاهرة؟ فما هو مفهوم التواصل إذا؟ وكيف يمكننا الاستفادة منه في معركتنا ضد ظاهرة العنف المدرسي؟ هذا ما سنحاول تسليط نوع من الضوء عليه في النقطة الموالية من هاته المقالة. ب – التواصل كآلية لفك شفرة العنف المدرسي لا يمكن إنكار الأهمية البالغة التي أضحى يحتلها التواصل كآلية عصرية حديثة يتم توظيفها قصد تحقيق الفاعلية في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وهذا، يبرر الحاجة إلى توظيف هذه الآلية الهامة في أي مقاربة ترمي إلى كبح ظاهرة العنف المدرسي، وذلك سواء من خلال توظيف التواصل بين مختلف الهيئات المجتمعية المعنية بآفة العنف من أسرة ومدرسة وإعلام وفعاليات المجتمع المدني، أو بين أطراف هذه الظاهرة ونقصد بذلك التلاميذ ورجال التعليم. وفي هذا الصدد، يرى البعض في تعريفه للتواصل بأنه: ضد الهجران والتصادم أي الفراق أو القطيعة وهما حالتان سلبيتان، وفعلان مذمومان، أما الوصل والتواصل فهما إيجابيان ومحمودان، وإذا ما تم الاقتصار على المجال الإنساني، ظهر أن التواصل هو السواء، وما يخالفه هو الاستثناء على اعتبار أن التواصل حاجة من الحاجات الإنسانية لبني البشر وللفصائل الحيوانية المتطورة8. ويهدف اعتماد التواصل في حالتنا هاته، من جهة أولى إلى تحقيق الانسجام والإلتقائية بين الجهود المبذولة من طرف مختلف الهيئات في سبيل غل ظاهرة العنف المدرسي، والتصدي لها، ومن جهة ثانية مد الجسور وردم الهوة بين التلاميذ والطلاب وبين رجالات التعليم. ناهيك، عن ملحاحية العمل على الجانب التربوي من خلال تنمية مهارات الاتصال والتواصل لدى المعلمين والطلبة، عبر تدريبهم على تنمية المهارات الاجتماعية واستخدام مهارات التواصل الفعالة القائمة على الجانب الإنساني والتي من أهمها حسن الاستماع والإصغاء وإظهار التعاطف والاهتمام. هذا، ويمكن اعتماد مقاربة التواصل عبر توزيع النشرات والملصقات الخاصة بحقوق الطفل، وتوزيع النشرات الخاصة بالآثار المترتبة على استخدام العقاب والعنف تجاه التلاميذ، وكذا الوسائل البديلة والسوية لتعامل المدرسين مع التلاميذ، وكذا لتعامل التلاميذ مع مدرسيهم. أضف لذلك، ضرورة تنظيم ندوات ولقاءات مع المعلمين والإدارات المدرسية حول الخصائص النمائية لكل مرحلة عمرية والمشكلات النفسية والاجتماعية المترتبة عليها وخصوصا مرحلة المراهقة وكيفية التعامل مع هذه المشكلات لاسيما سلوك العنف. كما سيكون من المهم توعية أولياء أمور التلاميذ بحقوق الطفل في الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية، وحقه في اللعب والمشاركة والتعبير عن الرأي وحقه في الشعور بالأمن النفسي والاجتماعي. وفي هذا الصدد ينبغي تنظيم ورشات للأمهات والأباء لبيان أساليب ووسائل التنشئة السليمة التي تركز على منح الطفل مساحة من حرية التفكير وإبداء الرأي والتركيز على الجوانب الإيجابية في شخصيته. خاتمة زبدة القول، بعد هذا التحليل المتواضع لظاهرة العنف المدرسي التي تعد من المواضيع الآنية، نخلص إلى أنها ليست بظاهرة معزولة بل هي امتداد لعدة اختلالات داخل المجتمع وبذلك يكون العنف المدرسي تلك الشجرة التي تخفي الغابة. ومن ثمة، لا يمكن الحديث عن إجتثات هذه الظاهرة إلا باعتماد مقاربة شمولية تتحمل من خلالها كافة مكونات المجتمع مسؤوليتها بدءا بمؤسسة الأسرة ثم بإعادة الاعتبار للمدرسة وصولا إلى الإعلام كمؤثر مباشر في المجتمع، ثم المؤسسات الوسائطية كدور الشباب والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني. وفي انتظار تحقق ذلك، يبقى السؤال مطروحا حول مدى إدراك هذه المؤسسات المذكورة لمسؤوليتها في القضاء على هذه الظاهرة المدروسة؟ المراجع: 1 - سعيد حسني العزة، الإرشاد الأسري، نظرياته وأساليبه العلاجية، مكتبة دار الطباعة للثقافة الأردن، الطبعة الأولى، 2000، ص.20. 2 - صالح أبو جادو، سيكولوجية التنشئة الاجتماعية، دار المسيرة للنشر والتوزيع بيروت، الطبعة الرابعة، 2004، ص.218. 3 - Christine Benoit, mon stress et celui des autres, éd Saint Augustin, France, 2007, p140. 4 - طه عبد العظيم حسين، استراتيجيات إدارة الضغوط التربوية النفسية، دار الفكر عمان، الطبعة الأولى، 2006، ص.184. 5 - إبراهيم ناصر، أسس التربية، دار عمار للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الخامسة، 2000، ص. 171. 6 - بيير بورديو، التلفزيون وأليات التلاعب بالعقول، ترجمة درويش الحلوجي، دار كنعان للدراسات والنشر دمشق، الطبعة الأولى، 2004. ص.46. 7 - أحمد فهمي، هندسة الجمهور كيف تغير وسائل الإعلام الأفكار والتصرفات؟، مركز البيان للبحث والدراسات الرياض، الطبعة الأولى 2014، ص.31. 8 - عبدالرحيم تمحري، تقنيات التواصل والتعبير، منشورات مجلة علوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، 2007، ص.11. [email protected]