يشكل الدستور الإطار القانوني للقانون الدستوري. ونظرا إلى ارتباطهما الوثيق، فهناك كثير من الفقهاء لا يقيمون أدنى تمييز في تعريفهم للدستور والقانون الدستوري، بل إن فقهاء الاتجاه الشكلي، وفي مقدمتهم Carré de malberg وKelsen يربطون وجود الدولة بوجود الدستور المكتوب طبعا، فالدولة لا تولد إلا في اللحظة التي تصدر فيها دستورها. هناك اختلاف في الفقه الدستوري على مستوى تحديد الدستور، فهناك من يتبنى مفهوما شكليا وهناك من يتبنى مفهوما ماديا. انطلاقا من المفهوم الشكلي، يفيد الدستور القواعد القانونية المنظمة للحكم أو غيره والمتضمنة في الوثيقة المكتوبة المعروفة باسم الدستور أو القانون الأساسي والموضوعة من قبل هيئة خاصة تسمى بالسلطة التأسيسية الأصلية والتي لا يمكن تعديلها إلا من طرف سلطة خاصة تسمى بالسلطة التأسيسية الفرعية وفق مسطرة خاصة إذا كان الأمر يتطلب ذلك. لقد تبلور المفهوم الشكلي للدستور في سياق ظهور الدساتير المكتوبة بدءا بالولاياتالمتحدةالأمريكية سنة 1787 ومرورا بفرنسا سنة 1791، هذا المفهوم الذي يحدد الدستور في مجموع القواعد المتضمنة في الوثيقة الدستورية كان عرضة للعديد من الانتقادات، إذ إن تبنيه من شأنه أن يفضي إلى إنكار توفر الدول ذات الدستور العرفي على دستور ونفي الطبيعة الدستورية على بعض القوانين العادية المنظمة لشؤون الحكم وإضفاء الطابع الدستوري على قضايا لا علاقة لها بتنظيم الحكم والمتضمنة في الوثيقة الدستورية، كتحريم إنتاج الخمور أو نقل المشروبات الكحولية أو استيرادها لأغراض الشرب المنصوص عليها في التعديل الثامن عشر لدستور الولاياتالمتحدةالأمريكية الصادر سنة 1919، وتنظيم عملية ذبح الحيوانات المنصوص عليها في الدستور السويسري. يقصد بالدستور في المفهوم المادي مجموع القواعد التي تنظم عمل المؤسسات العليا في الدولة بغض النظر عن مصدرها أو طبيعتها. فعلى مستوى المصدر، لا يميز المفهوم المادي بين القواعد الناشئة عن التشريع (الدستور المكتوب) أو تلك الناشئة عن العرف (الدستور العرفي)، كما لا يميز بالنسبة إلى القواعد الناشئة عن التشريع بين طرق إصدارها: هل بطريقة المنحة أم بطريقة التعاقد أم بطريقة الهيئة التأسيسية أو طريقة الاستفتاء التأسيسي؟ فكل قاعدة تنظم عمل المؤسسات العليا تعتبر قاعدة دستورية بصرف النظر عن الكيفية التي صدرت بها. وعلى مستوى الطبيعة، لا يهتم المفهوم المادي بما إذا كانت هذه القواعد ذات طابع أوتوقراطي (استبدادي) أو ذات طابع ديمقراطي قائمة على مبدأ فصل السلطات ضمانا لحريات المحكومين وتقييدا لسلطة الحاكمين. اعتاد الفقه الدستوري، في حديثه عن طرق وضع الدستور، التمييز بين صنفين: طرق غير ديمقراطية متجلية في المنحة والعقد، وطرق ديمقراطية متجسدة في الجمعية التأسيسية والاستفتاء التأسيسي. غير أن هذا التقسيم هو في حاجة إلى نوع من التدقيق، ذلك أنه من العسير اعتبار طريقة العقد طريقة غير ديمقراطية. وعليه يمكن اعتماد تصنيف آخر بالحديث عن ثلاث طرق لوضع الدستور، وهي طريقة غلبة إرادة الحاكم وطريقة الاتفاق وطريقة غلبة الإرادة الشعبية. تجسد المنحة طريقة غلبة إرادة الحاكم بامتياز. ففي هذه الحالة، يصدر الدستور عن جهة وحيدة هي الحاكم الذي يقرر، بشكل انفرادي، التنازل عن جزء من صلاحياته. وبغض النظر عن التحولات المجتمعية التي تدفع الحاكم إلى إصدار دستور ممنوح، فإن هذا الأخير يعتبر، من الوجهة القانونية، عملا منفردا يعبر عن إرادة الحاكم. وتأسيسا على هذا الاعتبار، حدث خلاف بين الفقهاء حول مدى إلزامية هذا الدستور للحاكم نفسه، بحيث يمكن الحديث عن اتجاهين: - الاتجاه الأول ينطلق من قاعدة «من يمنح يمنع»، وبالتالي فإن الحاكم بإمكانه إلغاء هذا الدستور أو تعطيل العمل به ما لم يتنازل عن ذلك صراحة في مقتضياته. - الاتجاه الثاني يتأسس على قاعدة «الحقوق المكتسبة»، فتقييد الحاكم لسلطاته يولد مجموعة من الحقوق لفائدة المحكومين، وبالتالي لا يمكنه التراجع عن مقتضيات هذا الدستور إلا برضى الشعب ووفق الأسلوب المنصوص عليه في الدستور ذاته. هذا على المستوى السياسي، أما على المستوى القانوني، فإن الإرادة المنفردة تكون مصدرا للالتزامات إذا ما حظيت بقبول الطرف الآخر، وعليه لا يجوز سحب الدستور أو تعديله. ومن الدساتير الصادرة عن طريقة المنحة، هناك دستور 1814 الذي جسد عودة الملكية إلى فرنسا بعد هزيمة نابليون، حيث تضمنت ديباجة هذا الدستور أن الملك لويس الثامن عشر قد منحه للشعب وفق إرادته الملكية الحرة، والدستور الياباني الصادر سنة 1889 والذي ظل معمولا به إلى أن انهزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية، ودستور إمارة موناكو الصادر سنة 1911 والذي لا زال معمولا به إلى حد لآن. عندما يشترك الحاكم وممثلو الشعب في وضع الدستور، تسمى هذه الطريقة بالعقد. ويترتب عن العقد عدم إمكان أي طرف بمفرده إلغاء مقتضياته أو تعديلها. يصدر الدستور التعاقدي غالبا بعد حدوث ثورة خاصة في فرنساوإنجلترا، ففي إنجلترا، مثلا، تم التوقيع على العهد الأعظم سنة 1215 بعد هزيمة جيوش الملك أمام النبلاء، وصدر بيان الحقوق سنة 1688 بعد ثورة ضد الملك. وفي فرنسا، صدر دستور 1830 الذي يعتبر نموذجا للدستور التعاقدي عقب الثورة التي اندلعت ضد الملك شارل العاشر وأفضت إلى تنازله عن العرش. تجسد طريقة الإرادة الشعبية حق الشعب في ممارسة سيادته، ومنها حقه في وضع الدستور الذي يراه ملائما لأوضاعه. وهذه الطريقة يتم التعبير عنها من خلال أسلوبين: أسلوب الجمعية التأسيسية وأسلوب الاستفتاء التأسيسي. - يجسد أسلوب الجمعية التأسيسية الديمقراطية التمثيلية، وهو أسلوب يوكل بمقتضاه إلى الشعب انتخاب ممثليه الذين تناط بهم مهمة وضع الدستور، وتسمى هذه الهيئة المنتخبة بالسلطة التأسيسية تمييزا لها عن السلطة التشريعية التي تعتبر إحدى المؤسسات التي يضعها الدستور وليست هي التي تضع الدستور. باعتبار أسلوب الجمعية التأسيسية تجسيدا للديمقراطية التمثيلية، فإن الهيئة المنتخبة تعتبر «سيدة»، حيث تنقطع صلتها بالشعب بمجرد انتخابها، ويصبح الشعب ملزما بالدستور الذي تضعه. لقد كانت بعض الولاياتالأمريكية أول من انتهج أسلوب الجمعية التأسيسية بعد استقلالها عن بريطانيا سنة 1776، وهو الأسلوب نفسه الذي وضع به الدستور الاتحادي سنة 1787. وعلى غراره، سارت فرنسا في دساتير 1791 و1848 و1875، قبل أن يصبح الأسلوب المنتهج من قبل عديد من دول العالم في وضع دساتيرها. - وإذا كان أسلوب الجمعية التأسيسية يجسد الديمقراطية التمثيلية التي تمارس فيها السلطة من خلال هيئة منتخبة، فإن الاستفتاء التأسيسي يعتبر أداة من أدوات ممارسة الشعب لسلطته، حيث يتم وضع مشروع دستور، وهذا المشروع لا يصبح نافذ المفعول إلا إذا حظي بموافقة الشعب بواسطة الاستفتاء الذي يسمى استفتاء تأسيسيا. إن أسلوب الاستفتاء التأسيسي لا علاقة له بالهيئة التي تضع مشروع الدستور، فقد تكون هذه الهيئة منتخبة ولكنها في هذه الحالة لا تضع دستورا كما هو معمول به في أسلوب الجمعية التأسيسية وإنما تضع مشروع دستور. وقد تكون هذه الهيئة لجنة حكومية معينة وقد تكون في الحاكم نفسه، فالعبرة في أسلوب الاستفتاء السياسي ليست الجهة التي تضع مشروع الدستور، وإنما العبرة بإخضاع هذا المشروع للاستفتاء الشعبي. غير أن وضع مشروع الدستور من قبل لجنة حكومية أو من قبل الحاكم قد يفضي إلى الخلط بين مفهومين للاستفتاء عمل الفقه الفرنسي على التمييز بينهما وهما «الاستفتاء التأسيسي» و«الاستفتاء السياسي». فإذا كان الاستفتاء التأسيسي تعبيرا عن الإرادة الشعبية، فإن الاستفتاء السياسي يستخدم لإضفاء الشرعية على دساتير أنظمة الحكم المطلق، ذلك أن الشعب، الذي يستفتى أحيانا في دستور وضعه الحاكم أو لجنة حكومية، قد يكون في وضعية لا يمكنه معها إلا تزكية ذلك الدستور، وبالتالي يغدو هذا الاستفتاء تعبيرا كاذبا عن سيادة الشعب وإخفاء لحقيقة السلطة المطلقة للحاكم. وقد صدرت عدة دساتير في فرنسا بواسطة الاستفتاء التأسيسي، وهي: دستور 1793 ودستور 1795 ودستور الجمهورية الرابعة الصادر سنة 1946 ودستور الجمهورية الخامسة الصادر سنة 1958.