لم يكن الغرض من القمة الأوربية الرباعية التي احتضنتها باريس حول تداعيات الأزمة المالية العالمية، هو البحث في «الاختلالات التي تميز قواعد الرأسمالية المالية»، أو النظر في «إعادة تشكيل النظام العالمي»، بل فقط بعث رسالة تهدئة إلى الأوربيين القلقين من انعكاسات الأزمة المالية على حياتهم اليومية، من خلال تعهد الزعماء الأربعة باتخاذ جملة تدابير أهمها دعم المؤسسات المالية الأوربية المتعثرة، وضمان استقرارها وسلامتها. وكانت بذلك قمة لإظهار النوايا ومزيد من «الإرادة» لدرء مخاطر هذه الأزمة التي تهدد الاستقرار المالي العالمي، أكثر منها قمة تنسيقية للاستراتيجيات الاقتصادية والنقدية الأوربية. في سباق مع الزمن وعلى أعلى المستويات السياسية من أجل اتخاذ إجراءات لوقف تداعيات الأزمة المالية العالمية التي امتدت من الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى القطاع المصرفي الأوروبي، احتضنت باريس أول أمس قمة طارئة للدول الأوروبية الأربع الأعضاء في مجموعة البلدان الصناعية السبعة الكبرى (فرنساوألمانيا وايطاليا وبريطانيا) بدعوة من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، وذلك بغية تبني خطط لإنقاذ المصارف المهددة بالإفلاس. وسبق القمة خلاف أوروبي بشأن خطة لإنشاء صندوق بقيمة 300 مليار يورو لإنقاذ المؤسسات المالية المتعثرة، على غرار خطة الإنقاذ المالي في الولاياتالمتحدة، حيث ترفض ألمانيا وبريطانيا الفكرة فيما تؤيدها فرنسا وهولندا. الهدف من القمة التي سبقت اجتماع أعضاء الاتحاد الأوروبي على مستوى وزراء المالية يوم الاثنين القادم ببروكسيل، لم يكن هو البحث في «الاختلالات التي تميز قواعد الرأسمالية المالية»، كما ورد سابقا على لسان بعض المسؤولين الفرنسيين، أو «إعادة تشكيل النظام العالمي»، كما صرح بذلك الرئيس الفرنسي عندما قال، وهو محاط بالمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ورئيس وزراء بريطانيا غوردون براون ونظيره الإيطالي سيلفيو برلوسكوني: «إن إعادة التشكيل المنشودة تركز على أن «كل الفاعلين في الأسواق المالية يجب أن يخضعوا للتنظيم أو الإشراف وليس المصارف التجارية فقط». فالهدف الحقيقي من القمة، كما يجزم الكثير من المحللين الاقتصاديين، هو بعث رسالة تهدئة إلى الأوربيين القلقين من تداعيات الأزمة المالية على حياتهم اليومية من خلال تعهد الزعماء الأربعة باتخاذ جملة تدابير لمواجهة الأزمة، وخصوصا دعم المؤسسات المالية الأوروبية المتعثرة، ومعاقبة المسؤولين الذين أفلست مؤسساتهم. رد عالمي على الأزمة ففيما طالب الرئيس الفرنسي بضرورة «رد عالمي على هذه المشكلة العالمية»، داعيا في الوقت ذاته القادة الأوروبيين إلى إظهار مزيد من «الإرادة» لدرء مخاطر هذه الأزمة التي تهدد الاستقرار المالي العالمي، أوضح رئيس الوزراء البريطاني أن الرسالة التي يجب أن توجهها هذه القمة تتلخص في أن «أي مصرف قوي ومتين ينبغي ألا يعلن إفلاسه بسبب نقص السيولة»، مضيفا أنه «على كل بلد ممثل هنا اليوم أن يقوم بما هو ضروري لضمان استقرار النظام وسلامة المؤسسات في بلداننا». ومن بين النقط المحورية التي بحثتها القمة الأوروبية المصغرة، سبل وضع آليات أكثر فعالية لمراقبة أسواق المال، حيث تم التركيز على الصناديق المصرفية الخاصة في ما يتعلق بصلاحياتها على الإقراض وإصدار السندات، كما تم بحث إجراءات فك الجمود الذي أصاب الأنشطة الائتمانية وتنسيق الاستراتيجيات الاقتصادية والنقدية ودراسة المعايير المتصلة بالقواعد المحاسبية التي تخضع لها البنوك. تباينات في المواقف وقد تخللت أعمال التحضير لهذه القمة تباينات في الموقفين الفرنسي والألماني حول سبل تجاوز الأزمة. ففيما ترغب فرنسا في إنشاء صندوق مالي مشترك بقيمة 300 مليار يورو لإنقاذ المصارف المتعثرة، تفضل برلين معالجة كل حالة إفلاس على حدة، وترى أنه يتعين على الذين تسببوا في الأزمة الاقتصادية العالمية أن يتحملوا عواقبها، وأن يقدموا مساهماتهم للتوصل إلى حل لها، كما تشدد على وجوب أن تحترم خطة الإنقاذ التي يقررها كل بلد قواعد المنافسة الشريفة بين المصارف الأوروبية. وقد طرحت فكرة الصندوق وزيرة المال الفرنسية كريستين لاغارد للمرة الأولى. غير أن هذه الفكرة لم تعارضها ألمانيا فقط، بل كذلك رئيس المصرف المركزي الأوروبي جان كلود تريشيه ورئيس مجلس وزراء مال دول منطقة اليورو جان كلود يونكر. وترى ألمانيا أنه يتعين على الذين تسببوا في الأزمة الاقتصادية العالمية أن يتحملوا عواقبها، وأن يقدموا مساهماتهم للتوصل إلى حل لها، كما تشدد على وجوب أن تحترم خطة الإنقاذ التي يقررها كل بلد قواعد المنافسة الشريفة بين المصارف الأوروبية. وبينما كانت القمة المصغرة منعقدة في باريس على وقع انتقادات شديدة من بعض الدول الأوربية الصغيرة المستثنية من هذا الاجتماع، تواصلت نواقيس الخطر على الاقتصاد الأوروبي والآسيوي والعربي، حيث أعلن بنك «هايبو» الألماني للقروض العقارية أنه «يحارب من أجل البقاء» بعد تداعي برنامج إنقاذ تؤيده الحكومة، فيما تسعى بلجيكا إلى مشتر لما تبقى من بنك ومجموعة «فورتيس» للتأمين المتداعية بعد أن أممت الحكومة الهولندية الباقي، بينما تتسارع بعض البلدان الآسيوية على غرار اليابان إلى ضخ المزيد من المليارات في المؤسسات البنكية تفاديا لأزمة خانقة. أما دول الخليج التي خسرت استثمارات بمليارات الدولارات في بنوك غربية مضطربة، فهي في حاجة ملحة إلى جهد عالمي منسق يعيد الاستقرار إلى النظام المالي العالمي. خطط عاجلة للإنقاذ وسارعت عدة دول أوروبية إلى اتخاذ إجراءات لمواجهة الأزمة القادمة عبر الأطلسي، حيث أعلنت باريس أنها بصدد اتخاذ إجراءات لضمان استمرار البنوك في ضخ الأموال لتمويل الأنشطة الاقتصادية، وذلك عقب اجتماع طارئ بين الرئيس ساركوزي ورؤساء البنوك وشركات التأمين الفرنسية. وأعلنت الحكومة البريطانية من جهتها، ضمان جميع ودائع البنوك في محاولة لتحسين حصول القطاع على الأموال الدولية المجمدة بسبب أزمة الائتمان العالمية. وتبنت خمس دول أوروبية حتى الآن خطط إنقاذ لبنوك ومؤسسات مهددة بالإفلاس بلغت قيمتها مائة مليار دولار خلال يومين فقط. وكانت الحكومة الفرنسية قد انضمت قبل ذلك إلى بلجيكا ولوكسمبورج في جهود إنقاذ مجموعة «ديكسيا» الفرنسية البلجيكية للخدمات المالية بعد أن تهاوت أسهمها، إذ تم الاتفاق بين حكومات الدول الثلاث على ضخ 6.4 ملايير يورو في «ديكسيا»، كإجراء «ضروري لضمان استقرار النظام المالي بأكمله. هشاشة النظام العالمي وبرأي الخبراء الاقتصاديين، فإنه لا توجد اليوم منطقة في العالم لم تتأثر بمضاعفات أزمة الائتمان الأمريكية التي كان لها تأثير على النظام المالي الدولي، ومن ثم تقويض الاقتصاد العالمي. وما يخشاه خبراء المال والأعمال هو قرب حدوث ركود عالمي إذا أدت هذه الأزمة إلى اتخاذ الدول المتقدمة إجراءات قد تحد من حرية التجارة الدولية وخفض تدفق الاستثمارات. فالأزمة التي يواجهها القطاع المالي العالمي في الآونة الأخيرة، والتي هي على وشك أن تؤدي إلى كارثة اقتصادية عالمية، تكشف بوضوح مدى هشاشة النظام العالمي القائم على الأحادية الأمريكية سياسيا واقتصاديا. والأزمة المالية في الولاياتالمتحدة ليست وليدة اليوم، بل هي تراكم للمشاكل التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي منذ سنوات، وتتمثل في عجز شديد في الميزانية مع تزايد الإنفاق العسكري على مغامرات المحافظين الجدد العسكرية في العراق وأفغانستان. وقد تبلورت الأزمة عندما شهد سوق العقارات في أمريكا انهيارا شديدا بعد توسع من جانب البنوك في إقراض الهيئات والمواطنين للاستثمار في مجال العقارات الذي كان يشهد ازدهارا، إلا أن التكالب الشديد على الاستثمار في هذا المجال أدى إلى انخفاض أسعار العقارات وأصاب البنوك والأفراد بخسائر ضخمة، وهو ما أدى إلى انهيار رابع أكبر بنك في الولاياتالمتحدة، وأزمة مالية طاحنة. الدول العربية الخاسر الأكبر ولأنها تربط عملتها المحلية بالدولار الأمريكي، وتقيم استثمارات ضخمة في الولاياتالمتحدة، فإن الدول العربية، وفي مقدمتها دول الخليج، هي الخاسر الأكبر من الكساد الذي تعيشه الولاياتالمتحدة، وهو ما حدث بالفعل، حيث هبط مؤشر البورصة في معظم الدول العربية بدرجة ملحوظة، ولم تتمكن هذه الأسواق من تعويض خسائرها، رغم التصريحات التطمينية المعتادة في مثل هذه الأحوال من قبل المسؤولين. وإذا كانت خطة الحكومة الأمريكية لإنقاذ وول ستريت، التي يبلغ حجمها 700 مليار دولار، قد لاقت إشادة من بعض مسؤولي دول الخليج العربية التي خسرت المليارات بعد هبوط أوراقها المالية إلى أدنى مستوى لها، فإن هذه الخطة، وإن حظيت بدعم من مجموعة السبع الصناعية الكبرى، فهي لم تحصد مشاركة كبيرة من الدول الأوروبية، حيث استبعدت كل من برلين وباريس المشاركة فيها. ففيما أكدت الحكومة الألمانية أنها لا ترى فائدة كبيرة في دعم الخطة الأمريكية، بدت فرنسا أقل اقتناعا بالخطة الأمريكية من ألمانيا، حيث قالت كريستين لاغارد، وزيرة الاقتصاد الفرنسية، إن البنوك في فرنسا أكثر توازنا منها في الولاياتالمتحدة، مضيفة أن أوروبا ليست بحاجة حاليا إلى اتخاذ خطوات مشابهة للخطوات التي اتخذتها أمريكا. الزعامة الأمريكية في تآكل جاءت الضربة المباغتة من باريس التي أبدت دعمها لحوار مفتوح بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، وهو ما تعارضه بشدة الولاياتالمتحدة لأنه يفتح الطريق أمام تقاسم السلطة بين الطرفين. وتوقع تقرير استخباراتي أمريكي تراجعا مطردا للهيمنة الأمريكية والمؤسسات الدولية في العقود القادمة، وأشار إلى «أن القوة العسكرية، التي تعد أحد مجالات التفوق الأمريكي، ستكون المصدر الأقل أهمية في المستقبل، وأن الولاياتالمتحدة لم تعد تستطيع فرض هيمنتها على الشؤون الدولية مثلما كانت تفعل في الماضي، ولفت التقرير إلى «أن واشنطن ستجد نفسها مستقبلا مضطرة إلى تغيير استراتيجيتها في التعامل مع مختلف القضايا الدولية وتركز على الأساليب الدبلوماسية والتعاون الأمني الإقليمي مع حلفائها، كما أوضح التقرير أن «الزعامة الأمريكية تتآكل بوتيرة متسارعة في المجالات السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية». هزائم متتالية وكان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قد دعا في خطاب ألقاه في أواخر شتنبر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى فرض عقوبات على المسؤولين عن «الكارثة» المالية، فيما دعا رئيس الحكومة البريطانية إلى «تشديد الرقابة على المستهترين بالنظام المصرفي العالمي»، ويعني بهم الأمريكيين الذين توالت عليهم الهزائم السياسية والعسكرية في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين وإيران وغيرها من المناطق الساخنة التي فشلت الإدارة الأمريكية في إيجاد حلول عادلة لها، مما يوحي بظهور علامات انهيار الإمبراطورية الأمريكية التي قامت في الأساس على القوة العسكرية ثم حمتها بالقوة الاقتصادية. واليوم تأتي الضربة قوية لتخترق عصب الاقتصاد الأمريكي ولتسيطر الأزمة كلية على الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهي إشارة أخرى إلى تهاوي الغطرسة الأمريكية. تحفظات غربية وما من شك في أن العاصفة المالية التي تجتاح الولاياتالمتحدة في وقت يعاني فيه العالم من ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية سيؤدي إلى المزيد من المشاكل الداخلية في الدول النامية ومن بينها المغرب، وهو ما ينبغي التعامل معه بشكل واقعي بعيدا عن مراعاة خواطر أصدقائنا الأمريكيين، خصوصا إذا علمنا أن معظم الدول الغربية أصبحت اليوم تبدي الكثير من التحفظ على السياسة الأمريكية في مختلف بؤر التوتر. فها هي ألمانيا تطالب اليوم بوضع تصورات واضحة حول استراتيجية للخروج من أفغانستان في المستقبل المنظور، كما تبدي رغبتها في إنهاء المشاركة الألمانية في عملية «الحرية الدائمة» التي تقودها الولاياتالمتحدة لمكافحة «الإرهاب» هناك. وها هي بريطانيا تلمح إلى عدم التجديد لمهمة القوات الخاصة في أفغانستان، وتعتزم الرحيل في غضون 2010 بعد أن ضاقت ذرعا بالغموض الذي يكتنف السياسة الأمريكية بالمنطقة، وقد أقرت في مذكرة لسفيرها بكابول، تسربت محتوياتها إلى الصحف الفرنسية، بعدم جدوى التدخل العسكري منفردا في حل المشاكل بأفغانستان، والعمل بسرعة على إنهاء مهمة الجيش البريطاني في تلك البلاد.