[email protected] الشجن العراقي، الذي دعك طينة إنسان بلاد الرافدين، في محطات زمنية سحيقة امتزج فيها عرق الآلهة بدم التاريخ، جعل استعارة الشعراء مجبولة بالألم، تنهض من أعمق المنابع وأصفاها في ذات الإنسان. وكل خطوة وقعها ذلك الإنسان على الأرض إلا وكان لها صداها في الأمداء البعيدة، وفي تلك البحيرات اللامرئية، التي تتحرك فيها دوائر المعنى، بفعل هبات نسائم الخيال ورجات الفكر. كل الشعراء العراقيين يبدون لي مجبولين من هذه الطينة، مهما باعدت بينهم الأزمنة أو شطت بهم تجارب الحياة وجنون السياسة أو مسؤوليات الشكل التي توزعهم إلى مدارس وتوجهات، دون نسيان ذلك العصاب الخاص الذي يمنح تجربة كل شاعر تفردها وصداميتها وترديداتها البعيدة في تاريخ الاستعارة الإنسانية. وإذا اكتفينا بالعصر الحديث، فإننا نجد أن استعارة الشعراء العراقيين، مُنحدِرة من ذلك التاريخ البعيد من الألم، عَرفتْ كيف تدمغ الشعر المعاصر بأثر لا فكاك منه، أثر لم يرسم فقط طريقا حرة، جديدة ومنطلقة، للقصيدة العربية، وإنما فتح لها أيضا مسارات حدودية، جعل الاستعارة فيها تتفتح من قلب الأهوال، في أرض المنافي الكثيرة التي حرثها الخيال العراقي الجريح. لم يكن صمت نازك الملائكة هو صمت الشعر العراقي المعاصر، بل كان صمت امرأة هالها مشهد الغروب العظيم الذي سَيُشَيِّع عمود الشعر إلى البحر، مثواه الأخير بعد قرون من الجبروت، الذي لم يُقهر إلا في محطات محدودة. هال نازك الملائكة هذا المشهد، فاندفعت لتُنقذ ما يمكن إنقاذه من قرقعة القوافي، لكنها رأتْ إخوة لها، تمرسوا بالحزن والحداد القديم، يوجدون في مقدمة الشعراء المشيعين لجمالية متآكلة، سيغرق معظم متاعها في بحر الهجران. بدر شاكر السياب كان من جهة المشيعين، وهجرته الرمزية إلى لبنان شكلت بحثا عن قوة إضافية عجلت بغرق المتاع الشعري القديم. من قلب هذا المشهد انبثقت واحدة من أجمل الأنشودات في الشعر العربي، أقصد «أنشودة المطر» التي ربطتْ الشجن العراقي بأنساغ جيكور، بذرى النخل فيها، وبتعويذة الماء في بويب، في الفرات وفي دجلة الخير. في صف السِّياب، اصطف الشعراء الآخرون، دون أن تُعوز الواحد منهم تلك الموهبة التي تجعل من الشاعر صاحب قول شعري خاص، قادر على حفر مجار أخرى، تختلف من حيث درجات العمق، في طريق القصيدة. ولم تكن خصوصيات الشكل تستقل عن رؤية هؤلاء الشعراء للعالم، في مرحلة كانت فيها الأرض العراقية لا تنادي فقط على الوشائج الأسطورية، بل تستدعي عند بعض الشعراء التزاما اجتماعيا، جعل القصيدة تلج منطقة الدفاع عن قيم العدل والخير والتقدم. قصيدة بلند الحيدري تدثرت بلباس وجودي، وقصيدة البياتي عثرت على خلاصها في صوفية اشتراكية إنسانية، قصيدة حسب الشيخ جعفر دوَّرت الألم على امتداد السطر الشعري، أما قصيدة سعدي يوسف، فقد كانت مثل تلك الحية التي سرقت من جلجامش عشبة الخلود، فوجدت نفسها تنزع عنها جلدها القديم، وتتدثر بآخر، لم يكن، في الحقيقة، غير قصيدة اليومي التي تعيد ترتيب أشياء حياتنا الأليفة، بتلك اللمسة السحرية الإنسانية والمتعاطفة. لمسة تبدو جديدة كليا، ليس فقط في ما تخلقه من نصوص، وإنما أيضا في ما تعقده للشعر العربي من أخوات شعرية، في جغرافيات ثقافية أخرى. جيل فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وسركون بولص لم يعثر في تفعيلات الخليل على صدى روحه الغريبة. وعلى قدر تَغرُّبِه ستتجدد القصيدة عنده، لتمنح الشجن العراقي إيهابا من الروح الكونية الحائرة، التي ستسكن الأساطير والملاحم، مثلما ستسكن المسرح والروايات والقصائد الخالدة، دون أن تَعثُر لنفسها، مع ذلك، على مستقر نهائي. لم يُفقد الغزوُ الأمريكي الشِّجنَ العراقي نسبَه القديم، لذلك أحس بأن شعراء بلاد الرافدين بصدد مكابدة البحث عن شكل، لتصريف الجمرة، وليس لإطفائها.