[email protected] الكراسي جزء من مؤثثات حياتنا الخاصة والعامة، ولعل اهتداء الإنسان إلى صنعها والتفنن في إبداعها، مكنه من الحصول على أداة تنتقل به من حالة الطبيعة إلى حالة التمدن، التي تحرص على صيانة كرامته، وحماية ما يؤسس لتميزه عن باقي الكائنات الأخرى، التي تقتسم معه فسحة العيش على كوكب الأرض. نحن لا نستوي على الكراسي فقط طلبا للراحة، ولا نستوي عليها كما تستوي المعاطف كما قال الشاعر أحمد بركات ذات قصيدة، ولكن نستوي عليها، بكل ما نحمل من قيم، تجعل جلوسنا ينسجم مع ثقافتنا ومكانتنا الاجتماعية وحظنا من السلطة ورغد العيش. وليس اللباس وحده الذي يوحي بالمكانة الاجتماعية، بل أيضا طريقة الجلوس ونوعية الكرسي، وطريقة تناول الكلمة، عند التحدث للأهل أو الأصدقاء أو الزملاء، في مناسبات معينة. في الواقع، لا تحيل الكراسي فقط على الطبقة الاجتماعية، بل تحيل، بنفس القوة، على التاريخ، وتترجم، في انحناءاتها وشموخها وبذخها وألوانها الزاهية، للعصور الإمبراطورية التي انحدرت من سلالتها. كما قد تترجم، في استقامتها ودكنتها وصرامتها الهندسية وعزلتها الفضائية، لصرامة السلطة وللإيديولجية الشمولية التي تستند إليها، في التحكم في رقاب الناس وعقولهم. أما عندما تنتشر الكراسي في الحدائق العامة، بوفرة وتصاميم لا تخلو من جمالية، فإنما تشير بذلك، في الواقع، إلى حقبة تاريخية تترجم الرغبة في تكريم الانسان، ومنحه الحق في التمتع بقسط من الرغد العام، الذي يجعل الجلوس، ليس فقط تأمينا للراحة كحاجة بيولوجية، وإنما أيضا فرصة للتأمل والإنصات والخوض في أحلام اليقظة. إن الكراسي تشهد، في الواقع، على كل تحولات الإنسان، وهو يخطو خطوات ثابتة أو مترددة نحو المدنية. والفضاء الثقافي الإغريقي الذي كان يمتدح المشي، ويعتبره الأداة التي تسمح بولادة الحقيقة وتفتقها عن طريق الحوار الفلسفي، هو نفسه الذي اهتدى كذلك إلى أهمية الجلوس والاسترخاء، في تعلم مبادئ الفضيلة والتطهر من نوازع الشر الكامنة في أعماق الإنسان، والتي يمكن، إن لم تجد مَن وما يكسر شوكتها، أن تَحُول بين الإنسان وبين استحقاق المواطنة داخل المدينة. ويبدو لي، أنه لهذا السبب بالضبط ابتكر الإنسان الإغريقي مسارح الفرجة الدرامية، وأثثها بالكراسي، حيث يجلس الناس المستعدون لسكب الدموع على العقد الإنسانية، أو لتوزيع القهقهات على عاهاتها وأعراضها الاجتماعية المنفرة. الكراسي شهدت على هذا الواقع، الذي أصبح، منذ فترة بعيدة، جزءا من حياتنا، كما شهدت على واقع الحروب والثورات والدسائس التي حددت مصائر وغيرت جغرافيات في المجتمعات الإنسانية. وربما لم يكن مطلب المدنية أبدا منفصلا عن الدماء، ولذلك فإن كراسي مكاتب الإستراتيجيين والسياسيين والثوار هي التي شهدت على تفتق عبقرياتهم، وجعلت التاريخ، بفعل مصادفات سعيدة أو تعيسة، يأخذ هذه الوجهة أو تلك، التي لم تكن دائما في صالح الإنسان. والواقع أن الكرسي الذي يسمح للإنسان بالاسترخاء، لاقتناص تلك اللحظات الرفيعة من السكينة الداخلية أو الجموح الرومانسي الحالم، هو نفسه الذي يشهد على لحظات التجهم، التي تجعل عيون كثير من القادة تحمر، وهي توقع على قرار يذهب بآلاف الأبرياء إلى ليل الحروب، غير العادلة في كثير من الأحيان. عندما صنع الإنسان الكرسي، كان يعتقد أنه أطلق رصاصة الرحمة على همجيته. كان يعتقد أن دور المسرح والسينما والسيرك والمقاهي تصنع له لحظة استمتاع حقيقية كفيلة بحماية الكائن النبيل الذي يحيى بداخله، والذي يشتغل ساعات طويلة لتحقيق سعادته المرجوة على الأرض. لكن عندما تلقف الإستراتيجيون الكراسي، فقد حولوها، باسم القيم، إلى مواقع لصناعة أفكار القتل، التي تأخذ أسماء ومجازات مختلفة، كالمدنية والتقدم والتحرر والعدالة. إن تاريخا طويلا من اضطهاد الشعوب والأفراد تَمّ باسم هذه المبادئ، التي تحولت، في كثير من الأحيان، إلى كرسي كهربائي لإزهاق الأرواح، ببرودة دم لا تُتصور.