[email protected] تكاد تجربة سهيل إدريس تختزل الوجه الصراعي لفكرة الحداثة الثقافية في لبنان. لقد خاض هذا الرجل القصير القامة، المتوقد الذكاء، المنحدر من أسرة محافظة تقيم بمنطقة «الخندق الغميق» في بيروت، خاض، منذ لحظات التفتح الأول للوعي، صراعا متعدد الوجوه والأبعاد، ابتدأ بالانقلاب على الذات، وتحديدا على صورة الشيخ التقليدي المُعَمَّم التي رسمها له الوالد، والتي جعلته يتلقى تعليما دينيا معمقا. وتشعب هذا الصراع في اتجاهات متعددة، مَسَّت الفكرة الشعرية والقومية والثقافية العامة في لبنان الحديث. وقد كان للآخر، ممثلا في وجودية سارتر وكامي وسيمون دي بوفوار، دور المحرض على تبني اختيارات فلسفية وجمالية، انعكست على أدبه الروائي والقصصي والمسرحي، كما انعكست على مبادراته ومواقفه الثقافية والسياسية، في فترة الجاذبية الناصرية زمنَ الستينيات. من «كلية فاروق الشرعية» بلبنان إلى «جامعة السوربون» بباريس، قُيض لفكرة ثقافية عربية جديدة أن تتشكل وتختار طريق المغامرة. وكان سهيل إدريس بطل هذه الفكرة بلا منازع. ولم تكن هذه الصورة الشخصية تفتقر إلى الحس المأساوي، مجسدا في الفقر وشح الإمكانيات التي جعلت مغامرة الشاب سهيل تنعطف نحو المواجهة مجردة من كل امتياز، باستثناء امتياز الإيمان بفكرة ثقافية، ظلَّتْ تَكبر وتتسع وتلح إلى أن دفعتْ صاحب رواية «الحي اللاتيني»، الجديرة بالتقريظ، إلى التضحية بمشروعه الأدبي الشخصي، لصالح مشروع لبناني عام في الثقافة العربية. المشروع الثقافي لسهيل إدريس كان يتجاوز ذات صاحبه، لذلك وجدنا الرجل يحارب في أكثر من واجهة، ويساهم في أكثر من مبادرة، ويتخذ أكثر من صفة، فهو الصحافي الألمعي، والمترجم المبرز، والأستاذ المحاضر، واللغوي المدقق، والناقد المتمكن، والروائي الموهوب الذي أسس مجلة الآداب (1953) بالاشتراك مع بهيج عثمان ومنير البعلبكي، قبل أن ينفرد بإدارتها والإشراف عليها ويؤسس لها امتدادها في فضاء النشر الأدبي والثقافي، من خلال دار الآداب(1965) التي ستنشر لأهم الأسماء الأدبية في العالم العربي، بما في ذلك الأسماء اللبنانية التي كانت للدار فضيلة اكتشافها في مجال الشعر والرواية والقصة. مجالات الصراع هي ذاتها التي نَحََتَ منها سهيل إدريس أدوات المعركة، ومنذ تأسيسه مجلة الآداب ودار النشر التي ستحتضنها، أصبح بإمكان الكاتب الناشر التحكم في مسارات النشر وتوجيه الثقافة العربية، بتبني فكرة وجودية قومية ستضيق، مهما اتسعت، عن رحابة الإبداع العربي الذي كان يعيش، في هذه المرحلة، أكثر لحظاته تفجرا وتوترا، بالنظر إلى ما سيترتب عنها من انعطاف فكرة الحداثة عن زمن الشعرية العربية القديمة التي تقدمت، في كثير من الأحيان، في أخاديد جامدة، لم تتمكن من اختراقها إلا بعض العبقريات الفردية، خاصة في العصر العباسي (والأندلسي). تحفظت مجلة الآداب ودارها للنشر على قصيدة النثر، في الوقت الذي انتصرت لها في مجلة «شعر» بإدارة يوسف الخال وأدونيس. ولم يكن بإمكان أنسي الحاج ومحمد الماغوط وشوقي أبي شقرا وعصام محفوظ أن ينشروا نصوصهم وأعمالهم الشعرية الأولى إلا في مجلة «شعر» ومنشوراتها، التي لم ترتفع إلى مستوى الدار المنافسة بالرغم من نشرها لأهم الأعمال الشعرية في تلك الفترة، وعلى رأسها ديوان «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب. سهيل إدريس سيرسم، في الجزء الأول من كتابه «ذكريات الأدب والحب»(2001)، سيرة للذات والعائلة لا تخلو من جُرأة. وعندما سُئل عن سبب إثارته لموضوع شذوذ والده، أجاب ببرود: «أردتُ الانتقام منه». رحل سهيل إدريس قبل أيام وخلف وراءه تركة ثقيلة، لا يُعرف مصيرها وقدر الإثارة التي تخبئها، أقصد الجزء الثاني من سيرته.