[email protected] السر الذي كان يستمده الشاعر من الوديان والجبال والشعاب اتخذ أبعادا أكثر ملموسية فتجسد في شخصه.. في شخص الشاعر الذي يبني أسطورته الشخصية انطلاقا من قدرته على اختراق النظام الثقافي لعصره، على نحو يجعل من ذاته استمرارا لدفق قديم وانبثاقا لشعاع جديد، يريد له مستقرا بين الأرض والسماء، حيث تترعرع الأسطورة وتكبر. السر في ذات الشاعر، لكنه غير مفصول عن الحروف التي تهبط عليه أو تصعد منه، محملة بتلك النيازك القادمة من فضاءات أخرى، حيث يلتقي الطين بالماء والنار بالهواء لقاء يمتزج فيه الحلم باليقظة والمجرد بالملموس والوعي باللاوعي والمادي بما فوق الطبيعي. ومن هذا اللقاء، تتأسس حياة شعرية خصيبة تتكثف في الرموز والاستعارات والأخيلة، لكنها، مهما شطت في التجريد، تتجسد في شخص الشاعر الذي يفيض عن إنائه، في هيئة أسطورة تنضح باللقاءات السعيدة: لقاء الشاعر باللغة وبالعالم، يتحول إلى لقاء بالنص، ثم لقاء بالصورة التي يرسمها له المتخيل الفردي أو الجماعي. صورة الشاعر تأتي لتضع حدا لهذا الكائن المنفلت، بالغ التجريد الذي يسمى القصيدة أو النص أو القول الشعري. وهي صورة بقدر ما تُنسج من صميم هذا القول ذاته، تَضفر خيوطا رفيعة تلمها من عناصر من الحياة ومن العصر ومن التأويل الذي يمكن أن يخترقهما في وضعية تلق معينة. ومن جماع هذه الخيوط تُرسم صورة للشاعر يَجِدُّ خيال الفنان في إبداعها على نحو يتيح للرؤية الشخصية بالانبثاق، دون أن تكون، بالضرورة، على تعارض مع الصورة التي يرسمها له الخيال الثقافي الجماعي. فيما مضى كانت صورة الشاعر ضربا من الإلهام والرسم والتأويل، كان الشاعر ينبثق من أوضاع تجريبية لم تكن منفصلة عن الغيوب التي تجسدت في وديان وفضاءات خاصة، تترعرع في شعابها الاستعارة، قبل أن تنفذ إلى روح الشاعر الذي يمنحها حيزا من الظهور والتجسيد. ومع ذلك، لم تبق لنا من صورة الشاعرالماضي إلا رسوم، نفذها فنانون، محاولين بذلك القبض على تفاصيل ملامح الشعراء الضائعة بين المعتقدات الدينية وبين حاجيات السلطة السياسية إلى وقود استعاري، يضحي بصورة الشاعر لبناء هرم السلطة مجسدة في الحاكم. هذا ما خبرته، على الأقل، الثقافة العربية، حيث إذا ما رغبنا في التعرف على صورة شعرائنا العرب، علينا أن نتسلح بكتب تاريخ الأدب والموسوعات الثقافية القديمة وكتب الأخبار والدواوين والمختارات الشعرية وشروحاتهما. ومن الخيوط الرهيفة لهذه الأعمال تنبثق صورة ثقافية محتملة للشاعر، تتغير من عصر إلى آخر، لكنها لا تحتفظ من الملامح الشخصية للشعراء إلا بما يسمح به الخيال الأدبي للنقاد وكتاب السيرة، وبما يسمح به التأويل الفني لرسامي البورتريه. بهذه الطريقة، يمكن أن نتعرف على صورة امرئ القيس أو طرفة بن العبد أو المتنبي أو أبي العلاء المعري أو غيرهم من الشعراء الذين تمكنوا، من داخل غموض عصرهم، من بناء أسطورة مضت تكبر في خيال القراء عبر العصور. تغير الأمر في زمننا كثيرا، وأصبحت صورة الشاعر أكثر تعيينا، بحيث تطالعنا في الجرائد والمجلات الملونة والتلفزيونات، بل إن صور بعض الشعراء أصبحت تُقدُّ من حجر من خلال أعمال نحتية تجسد ذلك الوجه الأبدي لسارق النار الذي يحمل علامة مميزة في نظرته. وبذلك، يكون عصرنا قد منح للشاعر صفاته البشرية، لكن أسطورته لم تتأثر حقيقة إلا بولوج الحلبة منافسين آخرين، سواء أكانوا من حملة الأقلام أم من أصحاب الحبال الصوتية الحريرية أم من ذوي المهارات الخاصة في مواهب التمثيل والتشخيص أم من نجوم الرياضة. إن عصر النجوم، لا يقيم وزنا إلا للصورة الآنية الاستهلاكية، لذلك هناك أمل في أن يعيش الشعراء الكبار ويستعيدوا صورهم الأسطورية، بعد أن يطوي النسيان كثيرا من الوجوه المتنافسة في صياغة شكل الحياة وجوهر الحقيقة.