«أرغب في إعادة النظر في العمق بدفتر شروط التلفزيون الرسمي، والتفكير في إلغاءٍ تامٍّ للإعلانات على المحطات العامّة. إنّها ثورة، فمن خلال تغيير النموذج الاقتصادي للتلفزيون الرسمي، ستتغيّر تماماً معطيات السياسة الثقافية». هل هذا الإعلان الرسميّ وغير المتوقع من السيد نيكولا ساركوزي، خلال مؤتمره الصحافي في 8 يناير يحمل فعلاً وعوداً في طيّاته كما قد يبدو للوهلة الأولى؟ لا بدّ أنها جمهوريّة غريبة جداً، تلك التي تعيشها فرنسا حالياً، لكي نرى يميناً ليبيرالياً يبشّر بقطّاعٍ عام مُشذَّب من «المعايير التجاريّة الصرفة»، وأن تسعى الرابطة الشيوعية الثورية (التروتسكيّة) لنجدة التمويل الإعلانيّ لقنوات فرانس تلفزيون باسم «اختناق» مجموعة القنوات الرسمية الذي قد يترتّب على إلغائها، وأن يمتعض النائب الإشتراكي أرنو مونتبورغ قائلاً: «منذ متى أصبحت الإعلانات رديفةً لانعدامٍ في النوعيّة؟». هذا النوع من التشويش للمعايير هو من صنع السيّد نيكولا ساركوزي الذي أثار الدهشة عند إعلانه، في 8 يناير الماضي، في مؤتمره الصحافي، عن نيّته التفكير بالإلغاء الكامل للإعلانات على القنوات الرسمية وإدراج هذه «الثورة الثقافية» ضمن سياق «سياسة نشر الحضارة» التي يعتمدها، المُستعارَة من عالم الاجتماع إدغار موران. الوصاية التجارية إنّ الإرتجال الواضح الذي اتّصف به على ما يبدو هذا الإعلان، والذي لم يستعدّ له أحد، لا رئيس الوزراء فرانسوا فيّون، ولا وزيرة الإشراف على المرئي والمسموع الرسمي كريستين ألبانيل، ولا حتّى مدير قناة «فرانس تلفزيون» باتريك دو كارولي، هو على صورة سلطةٍ تتمحوّر جليّاً حول شخصٍ واحد. يبدو أنّ بعض المقرّبين فقط كانوا على علمٍ بالأمر: كاتب خطابات رئيس الجمهورية، هنري غاينو، ومستشاره الصناعيّ فنسان بولوري، ألين مينك، الذي قد يكون هو من أوحى بالفكرة لرئيس الدولة. أيّ مدافعٍ عن القطاع العام لم يحلم يوماً بتلفزيونٍ متحرّر من الوصاية التجارية التي باتت تحدّد البرمجة التلفزيونية أكثر من البرامج نفسها؟ إذ في الواقع، تحصل قنوات «فرانس تلفزيون» على 30 في المئة من إيراداتها من الإعلانات، أي ما يقارب 830 مليون يورو، من أصل ميزانيّة عامة تصل إلى 2,8 مليار يورو. وإن كانت الإعلانات لا تمنع، بحدّ ذاتها، البرامج الثقافية على القنوات الخاضعة لقيود نسبة المشاهدة، كما يشهد على ذلك وجود برنامج «Ce soir ou jamais» (قناة France 3) أو «Des mots de minuit France 2)، وهما مُؤجلاّن إلى ساعاتٍ متأخّرة من الليل، فإنّ جداول البرامج مخصّصة لجذب مشاهدين يثيرون اهتمام مشتري المساحات الإعلانية في ساعات الاستماع الكثيف. إلاّ أنّ هؤلاء المشاهدين، بحكم السوق الذي ينتظم حول قناة TF1، يتمحورون حول «ربّات المنازل ما دون الخمسين»، والناشطين من فئة اجتماعية مهنيّة ميسورة أو العائلات المستهلِكة مع أولاد. بتعبيرٍ آخر، إنّ الارتهان للمساحات الإعلانيّة في التلفزيونات المخصّصة للجمهور العريض، يحثّ المسؤولين عن هذه القنوات على عدم الاكتراث للشرائح ذات المردود الاقتصادي الضئيل، كالعاطلين عن العمل والمسنّين والشباب البالغين دون مدخولٍ أو العائلات التي تعيش بالحدّ الأدنى للأجور. فالأمر يتخطّى السعي وراء عدد المشاهدين، للبحث عن جمهورٍ «مفيد» ليكون هو الأساسيّ لبلوغ الأهداف الإعلانيّة التي تحدّد التوازن الهشّ لميزانية تتّسم بركود الدخل المتحصّل من الضريبة المفروضة على استحواذ جهاز تلفاز. ويتمّ هذا الاجتذاب للجمهور على حساب تكوين البرامج، وبالتالي إنّه يؤدّي إلى إفقار الشاشة الصغيرة من فضاءات تعدديّة. خدمات مقابل خدمات تثير هذه المعادلة الاقتصادية أيضاً غياب لأيّة مخاطرة في مجال الإبداع، بالرغم من إبداء دو كارولي عن إشارات حسن نيّة، عبر تمويله مسلسلاً على مستوى عالٍ نوعيّاً مُقتبَس من قصص موباسان القصيرة أو عبر تقديمه سهرات من المسرح أو الأوبرا مرّة في الشهر. إنّ القنوات الرسمية الكبيرة، المُحاصَرة من قبل منافسة متزايدة من الأقنية الخاصة التي تستفيد من وسائل تمويليّة إعلانيّة بشكلٍ شبه حصري، توجّهت نحو تقديم برامجٍ مُستنسَخة، تصنّع مقدّمي برامج والوصفات نفسها التي يعتمدها التلفزيون الخاصّ (باستثناء تلفزيون الواقع)، وذلك فقط بهدف دعم المنافسة في سوق المعلنين. هكذا كتبت الجامعيّة ناتالي سوناك: «على عكس ما هو مُفترض، مزيدٌ من المنافسة يؤدّي إلى إنخفاض التنوّع في العرض. يمكن إذاً للتمويل الإعلاني أن يكون ذي تأثيرٍ على تنوّع المحتوى الإعلاميّ من خلال الحثّ أحياناً على إعادة إنتاج هذا المحتوى نفسه». من مصلحة دو كارولي إذاً اليوم تأييد مبادرة «التوضيح» التي يقوم بها رئيس الجمهورية، حتى ولو كان قد طالب منذ بضعة أشهر، بمساحةٍ إعلانيّة جديدة مخصًّصة لتمويل «التحوّل في سياسة التحرير» لمجموعته. لكن هل يمكننا عزل خطابٍ أخلاقيّ - أو إعلان نوايا- عن الظروف التي يُطرح من خلالها؟ إذ قد أثار موقف رئيس الدولة الارتباك لدى المدافعين عن القطاع العام الذين يئسوا من إمكانيّة اليسار إغتنام الفرصة للقيام بإصلاحٍ يُعتبر من المحرّمات، لدرجة أنّ رئيس الوزراء السابق ميشيل روكار انتظر عشرين عاماً قبل أن يكشف عن أنّه قدّم مثل هذا التعديل إلى فرانسوا ميتران، الذي رفضه في حينه. ووفق ذهنية ساركوزي، القريب من الإعلام التلفزيوني الخاص والذي يدين له بدورٍ كبيرّ في انتخابه، لا يُعتبر إجراءٌ كهذا فقط حذقاً، إنما منطقياً أيضاًُ. من المستفيد فذلك يسمح له أوّلاً بردّ الجميل للقناة الخاصّة الأولى في البلاد، التي كان أحد المساهمين فيها، مارتان بويغ، يحتفل معه في مطعم «فوكيتس» عشيّة فوزه، في اللحظة نفسها التي كانت فيها الشامبانيا تتدفّق بغزارة في ستوديو الأخبار التابع للقناة. إنّ فكرة تمويل التلفزيون الرسميّ مستقبلاً من خلال الضريبة على القنوات الخاصة واقتطاع «مبلغٍ ضئيل جداً» لا يمثل أكثر من 1 بالمئة من حجم أعمال شركات الاتصالات (منها شركة «بويغ تيليكوم»)، لا تمثّل شيئاً إزاء ال300 مليون يورو من الأرباح الإضافية التي قد يحقّقها نقل الإعلانات من قناة France 2 أو France 3 إلى قناة TF1، والتي انخفضت قيمة أسهمها بنسبة تفوق 30 في المئة في عام 2007. وفي الواقع، بدءاً من النصف الثاني من شهر يناير، أبدت الحكومة إصرارها على توسيع رقعة الإقتطاع الضريبيّ، عبر تضمينها، ليس فقط مزوّدي الخدمات على شبكة الأنترنت - وقد كان ذلك متوقَّعاً- بل أيضاً المنتجات الإلكترونيّة المُستهلَكة على صعيدٍ واسع والكتيّبات الإعلانيّة. لوران سولي، معاون المدير السابق لحملة المرشّح ساركوزي، والذي التحق بمركز قيادة القناة الأولى الخاصّة، لديه هنا ما يدعوه للرضى. على غرار أرنو لاغاردير وفينسان بولوري، الأصدقاء الآخرون للرئيس، الذين لا يمكن أن يجدوا في مثل هذه الخطوة إلا إغداقاً للنعم لقنواتهم الرقميّة المجانية (Direct 8 من جهة، Virgin 17 وGulli من الجهة الأخرى). أمّا بالنسبة لنيكولا دو تافيرنو، رئيس إدارة قناة M6، الرابح الكبير الآخر من عمليّة النقل الإعلاني هذه، فهو على معرفة بالسيّد ساركوزي، لأن الأخير كان عضواً في ناديه «نويي للاتصالات». إنّ الإصلاح الذي أعلن عنه رئيس الجمهورية يستجيب أيضاً إلى بعض الظروف. فالقرار المُتَّخذ في اليوم نفسه الذي كان سيعقد فيه مؤتمره الصحافي في 8 يناير، يلبّي رغبته بخلق انطباعٍ ب«القطيعة» وحدثٍ مفاجىء في مسرحيّة يلعب فيها المشاهدون الصحافيّون دور الممثلين أيضاً. فالدهشة التي نتجت عن القرار، كونه يُنذِر بتغييرٍ كبيرٍ في سوق وسائل الإعلام، قد حجبت بعض المواضيع التي كانت مُرتقَبَة أكثر، كعمل الحكومة في ما يتعلق بالقدرة الشرائيّة للعائلات. بصمة الرئيس ولا يهمّ عدم خضوع هذه المبادرة، التي تخصّ أيضاً الإذاعة الرسمية، لأيّة دراسة مسبقة، وعدم حصول إجراءات التعويض التي أعلن عنها على رأي رجال الخبرة في هذا المجال، باستثناء النصائح المنتفعة للسيّد مينك، وعدم حصولها على أيّة ضمانات عن تأييد المفوضيّة الأوروبية لها... المهمّ هو أن يتمكّن ساركوزي من وضع بصمته في مجال الإعلام المرئيّ والمسموع، عبر استعادته لفكرة يساريّة أعتُبرت خياليّة بالكامل عندما لقيت في العام 1989 دعم أنج كاستا أو بيير بورديو. وبالتالي، فمع انتهاء الإعلانات على قنوات «فرانس تلفزيون»، يبطُل «عقد الأهداف والوسائل» الذي وقّعته هذه المجموعة العامّة قبل تسعة أيام على انتخابه. ويمكن بالتالي لرئيس الدولة القيام بإعادة كتابةٍ كاملةٍ لخارطة طريق السيّد دو كارولي، من خلال خروجه منتصراً من الأعلى من فخّ السياسة التدخّلية حيث ظنّ البعض أنه قد وقع فيه. في الوقت نفسه، يٌثير قراره، حُكماً، إعادة تنظيمٍ للإمكانات عبر دفعه ب 317 موظّفاً يعملون في قسم إدارة الإعلانات نحو البطالة التقنيّة. فمن جهتها، تٌدين نقابات العاملين في التلفزيون الرسمي ما تعتبره «خطّة صرفٍ اجتماعية رئاسية»، وعبّرت عن خشيتها من أن يتوضح سريعاً عدم واقعية إجراءات التعويض المُعلَنة، ما سيؤدّي إلى تفكّك قنوات «فرانس تلفزيون» واللجوء إلى عمليات تخفيض جديد في عدد العاملين. هل يمكن أن يدفع ما يحصل إلى التخوّف من خصخصة القناة الرسمية؟ إن كان الأمين العام للاتّحاد لأجل حركة شعبية، السيّد باتريك ديفيدجيان، قد عبّر عن رغبته بعمليات «تجميع» أو «بعض الخصخصة، ربما، لقنواتٍ صغيرة»، فسرعان ما كذّب السيّدان ساركوزي وفرانسوا فيّون هذا الأمر. في الواقع، إنّ قيام قناة فرنسية خاصّة جديدة يُقلق مجموعة بويغ، في حين تخدم مشاريع الحكومة، في مجال الإعلام المرئيّ والمسموع، مصالحها بإخلاص. فهل يطالب السيّد نونس باوليني، المدير العام لقناة TF1، بمراجعة العلاقات بين المنتجين وبين القنوات التي تبث، وبتوسيع المساحة الإعلانيّة على قنواته وبمراجعةٍ لقوانين منع الاحتكار لمجموعات المرئيّ والمسموع؟ إنها تحديداً العناصر الأساسية التي وردت، نقطة نقطة، في البرنامج التشريعي للسيّدة كريستين ألبانيل، وزيرة الثقافة والاتصالات. إذ تطالب الشركات الخاصّة، منذ زمنٍ بعيد، بإلغاء الإعلانات في التلفزيونات الرسمية. وهذا ما عبّر عنه السيّد دو تافيرنو بلا مواربة: «عموماًً، يكون وضع التلفزيون أفضل في الدول التي فيها نسبةٌ أقلّ من الإعلانات على القنوات الرسمية». تبقى هناك مشكلة إعادة تنظيم القدرة على استيعاب المساحات الإعلانية على قناتي M6 وTF1، اللتان بلغتا التخمة. إنّ تطبيق التعليمات الأوروبية حول خدمات وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، سيمسح بالقيام بذلك، من خلال تخفيف القيود فيما يخصّ الحدود اليومية لساعات الاستماع الكثيف، أو عبر السماح بإدخال وقفةٍ إعلانية ثانيةٍ داخل الأفلام. ستُترجَم إذاً عمليّة «التوضيح» حول التلفزيون الرسمي، تلقائياً، بتدفّق الإعلانات إلى القنوات الخاصة. لكنّها ستؤدّي إلى خطر توسيع الشرخ بين تلفزيونٍ شعبيّ وتجاريّ جمهوره كبير، وتلفزيونٍ «نوعيّ» آخر، جمهوره مُختارٌ أكثر. وسيشجّع مبدأ فرض ضريبة على القنوات الخاصّة هذا الشرخ، كونه سيكون للتلفزيونات الرسمية مصلحة غير مباشرة بتقليص حصّتها من المشاهدين لمصلحة جمهور القنوات الخاصّة: وسيشكّل ذلك الوسيلة الأضمن لتعزيز ميزانيّتها التي باتت رهناً بالوضع الجيّد للتلفزيون التجاريّ. وفي غياب أيّ رفعٍ للضريبة المتعلقة بحيازة أجهزة التلفاز، قد نشهد ربّما على تناقضٍ ملموس: هو أنّ التلفزيون الرسميّ سيكون مُرغَماً على الاختيار بين ضمان بقائه على قيد الحياة عبر عزل نفسه بنفسه في غيتو، على غرار هيئة البثّ العام في الولاياتالمتحدة، وبين السعي للمحافظة على مشاهديه عبر نسخ برامجه لبرامج منافسيه في القطاع الخاص، كما تفعل قناة BBC في بريطانيا مع برامج تلفزيون الواقع التي تبثّها. وفي الحالتين، ستكون المجموعة التلفزيونية الرسمية مرتبطة بشكلٍ قوي بنسبة الإيرادات التي ستأتيها من الضرائب المفروضة. والحكومة هي التي ستحدّدها. لكن، وإلى حين موعد ذلك، فلا يزال على الحكومة التوصّل إلى جمع الأموال التي ستعوّض النقص في المداخيل التي كان يؤمّنها الإعلام للتلفزيون الرسمي. ومع الأخذ بعين الاعتبار البرامج التي ستضطّر لإنتاجها لشغل المساحات الشاغرة جرّاء سحب الاعلانات، تُقدَّر الفاتورة بحوالي 1,2 مليار يورو. أكيدٌ أنّه سيكون من الممكن وضع ميزانية مماثلة عبر رفع الضريبة على اقتناء جهاز التلفزيون (116 يورو حالياً)، لتبلغ مستواها في بريطانيا (183 يورو) أو في ألمانيا (204 يورو)، التي يُشار إلى أقنيتها التلفزيونية الرسميّة كمثال. إجراءٌ من هذا القبيل يصعب الدفاع عنه، لأنّ هذه الضريبة، غير المرتبطة بالدخل، ليست بعادلة. وكان الأمر ليختلف لو استُبدلت باقتطاعٍ جزئيّ ونسبيّ من مصادر الدخل. هل هذه «طوباوية»؟ لم يكن دُعاة واقعية السوق يقولون بخلاف ذلك قبل 8 يناير، حين كانوا يتحدّثون عن إلغاء الإعلانات على القنوات الرسمية. لا شكّ أنّ ساركوزي سيُفضّل فرض الضريبة على المستهلِك، من خلال الكمبيوتر أو التلفزيون، من أن يُدير ظهره لسياسة خدمت، حتى الآن، مصالح الأكثر ثراءً. وفي حال اضطّر لإعادة النظر في محيط التلفزيون العام، سيسعى دون شكّ على وقوع أيّ قناة سيتم تخصيصها بين أيدٍ صديقة... بالاشتراك مع لوموند ديبلوماتيك