تقف عدة أسباب وراء التدهور المتواصل في شعبية الرئيس ساركوزي بعد مرور عام على انتخابه رئيسا للجمهورية الفرنسية. فمنها ما هو ذاتي مرتبط بسلوكه الخاص وميله إلى التمظهر والاستفراد بمسؤولية الحكم وتهميش دور الحكومة ورئيسها، ومنها ما هو موضوعي ذو صلة بالمناخ السياسي العام والخيارات التي يستدعيها هذا المناخ محليا ودوليا. وسنعرض في الرسالة الباريسية لهذا الأسبوع الأسباب التي أفضت إلى حصيلة سنوية باهتة، إن على المستوى الاقتصادي وتعامله مع الملفات الإصلاحية الكبرى أو على مستوى السياسة الخارجية التي يصعب فهمها. حصيلة باهتة احتفل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قبل أسبوع بمرور عام على انتخابه رئيسا للجمهورية الفرنسية، في جو يسوده الإحباط والاستياء من أدائه الاقتصادي والسياسي، بعد أن بدت استطلاعات الرأي التي نشرت بالمناسبة قاسية عليه، حيث عبر 76 % من الفرنسيين عن عدم رضاهم على عمله و79 % اعتبروا أن وضع البلاد لم يتحسن، فيما نبه الفرنسيون إلى أن هناك حالة من نفاد الصبر والبلد لا يمكن أن يتحمل أكثر مما يعيشه من توتر اقتصادي واجتماعي. وأعرب 65 % من المستجوبين عن اعتقادهم بأن أوضاعهم المعيشية لن تعرف أي تحسن ما دام ساركوزي في سدة الرئاسة، بينما يتخوف 62 % من «أزمة خطيرة» في البلد قبل انتهاء ولايته. وأظهر الاستطلاع أن شعبية ساركوزي تدنت من69 % في غشت الماضي إلى32 % في بداية ماي الجاري، وهي أسوأ نتيجة تصل إليها شعبية رئيس فرنسي في نهاية السنة الأولى من ولايته، إذ لم يسبق لمن سبقوه من رؤساء الجمهورية الخامسة، أن شهد انحدار شعبيته بهذه السرعة وإلى هذا المستوى. كما لم يسبق لأي رئيس حكومة أن وسع فارقه بنسبة 22 في المائة مع رئيس الجمهورية، مثلما فعل فرانسوا فيون الذي حقق نسبة 57 % من الراضين عن أدائه، مما يدل على أن ساركوزي يخسر وحده رضا المواطنين وأن تردي شعبيته لا يعود فقط إلى فشل برامج الإصلاح التي يقوم بها، كما أنه لا يعكس توجها نحو تفضيل الفرنسيين لأحزاب اليسار على اليمين بدليل حالة الرضا العامة على وزيره الأول فرانسوا فيون. وتقف عدة أسباب وراء التدهور المتواصل في شعبية الرئيس ساركوزي، منها ما هو ذاتي مرتبط بسلوكه الخاص وأسلوبه في التعامل مع الملفات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى، ومنها ما هو موضوعي ذو صلة بالمناخ السياسي العام والخيارات التي يستدعيها هذا المناخ محليا ودوليا. ولا بد هنا من التوقف عند ما قاله في بداية يناير الماضي من أنه لا يستطيع إفراغ خزائن الدولة التي هي فارغة في الأصل. فبهذه العبارة تنصل الرئيس الجديد من وعوده الانتخابية بشأن تحسين القدرة الشرائية ومنح خصومه في المعارضة فرصة القول إن الخزائن فارغة بسبب إنفاق 15 مليار يورو على شكل هدايا ضريبية استفادت منها شرائح محدودة من المواطنين الأثرياء في معظم الحالات. تخمة الظهور الساركوزي لم يكن ساركوزي يتوقع أيضا أن تكون لطريقته في حب التمظهر وفي الميل إلى تسليط شعاع إعلامي كثيف على شخصيته، فضلا عن الاستفراد بمسؤولية الحكم وتهميش دور الحكومة ورئيسها، أثر عكسي على الرأي العام الفرنسي الذي جعله المسؤول الوحيد عن حالة الركود الاقتصادي، وأبدى دعمه للوزير الأول فرانسوا فيون الذي تحسنت شعبيته بشكل كبير. ويجمع الإعلاميون أن الرئيس ساركوزي هو أكثر الرؤساء «حبا للظهور» في العالم، فقد اعتمد كثيراً على التلفزيون في حملته الانتخابية الرئاسية، وأنشأ له منظمو الحملة الانتخابية ومدعموه محطّة تلفزيونية خاصة به تعرف ب»ساركو TV»، وهو موقع إلكتروني يحتوي على أبرز محطّات حياة ساركوزي السياسية وخطاباته وحلقات ظهوره على التلفزيون، فضلا عن مجموعة من الفيديوكليبات التي تمجد إنجازاته. وتشكو الصحافة البصرية اليوم من تخمة الظهور الساركوزي المفروض عليها، في غياب نصوص تلزم المجلس الأعلى للإعلام السمعي-البصري بتقليص حصة النشاط الرئاسي. ولا يكاد يمر يوم واحد دون أن يحل ساركوزي ضيفا على واحدة أو اثنتين من أهم القنوات الفرنسية ليضمن «الخدمة بعد البيع» لخطبه الأسبوعية. وككل أسبوع تتصدر صورته الصفحات الأولى في العديد من الصحف والجداريات والأكشاك، بينما تتداول المحطات الإذاعية أخباره على مدار الساعة. وفي هذا السياق، تقدم النائب الاشتراكي، ديديه ماتيوس، بشكاية إلى المجلس عن احتلال ساركوزي نصف وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية بشكل أصبح مفروضا على الشعب الفرنسي، وهو ما اعتبره أمرا غير دستوري يخرج عن مسار الديمقراطية.` القطيعة مع التقاليد وينضاف إلى متاعب ساركوزي، أسلوب القطيعة مع نظام الحكم السابق وكسر التقاليد السياسية المعتادة في فرنسا، وهي قطيعة تجلت على الخصوص في التعاطي مع حياته الشخصية وما أثارته من جدل واستياء، خاصة لدى شريحة المتقاعدين وهم من ناخبي اليمين تاريخيا. ويمكن اعتبار عرض حياته الخاصة إلى حد التباهي بها، بدءا من تطليقه عارضة الأزياء سيسيليا بعد أن كان يشهر حبه الجنوني لها، وزواجه بشكل هوليودي بعارضة أزياء أخرى، كلارا بروني، بمثابة الضربة الموجعة لحصيلته الاجتماعية والأخلاقية. إلى جانب ذلك، أثارت عدة تصريحات أطلقها ساركوزي في الفترة الأخيرة، جدلا واسعا في الأوساط السياسية والإعلامية، وخاصة تلك التي أعلن فيها أن يلقن كل طفل فرنسي خلال دراسته الابتدائية ذكريات طفل يهودي ممن قضوا في معسكرات الاعتقال النازية، استياء في الأوساط التعليمية والسياسية، بمن فيها تلك المحسوبة عليه التي وجدت أن الفكرة متوحشة وغير مقبول أن يتحملها طفل في العاشرة من عمره، فيما رأى فيها الكثيرون عبئا إضافيا على ذاكرة الطفولة الفرنسية، ومحاولة ليس لها من مبرر سوى السعي إلى إعادة رسم استراتيجيات جديدة لحماية إسرائيل. تبادل لفظي عنيف ولم تهدأ الضجة الإعلامية المرتبطة بتدخله في صلاحيات المجلس الدستوري بعد مطالبته رئيس محكمة النقض العليا بالبحث عن وسيلة لتجاوز قرار صدر عن المجلس بخصوص تمديد السجن الاحترازي لكبار المجرمين بمفعول رجعي، حتى طفت على السطح قضية جديدة أعادت إلى الأذهان ردة فعل ساركوزي العصبية قبل أشهر في منطقة بروتان غرب فرنسا، حين تلاسن مع أحد الصيادين وخاطبه بمفردات شديدة العامية. هذه المرة فاه بعبارة أشد قسوة: «اغرب عن وجهي أيها الأحمق التافه»، ردا على أحد زوار المعرض الدولي للفلاحة، الذي رفض مصافحته طالبا منه ألا يلمسه كي لا يلوث يده. كان من الممكن أن يبقى هذا التبادل اللفظي العنيف طي الكتمان، لولا تواجد كاميرا لمراسل مستقل سجل كل شيء وبث التسجيل عبر موقع صحيفة «لوباريزيان» الإلكتروني. وقد أفقدته هذه الحادثة على التو خمس نقط في استطلاعات الرأي، لأن الشتيمة أثارت حرجا حقيقيا داخل الأوساط الفرنسية، ولأنه رفض الاعتذار عما صدر عنه حتى وإن قال في مقابلة في حديث لصحيفة لوباريزيان: «كونك رئيسا لا يعني أنك أصبحت ممسحة للأقدام. وإن قلت هذا، فعلي أن أقول أيضا أنه كان من الأفضل ألا أرد عليه». وقد خلفت الحادثة ردود فعل متباينة بين مقربين يرون أن ردة فعله إنسانية محضة لا يجب أن تكون معيارا للحكم على شخصيته وسلوكه، ومعارضين اعتبروا أن ساركوزي أخل بواجبه كرئيس للدولة، ولم يتمكن من السيطرة على أعصابه، فيما وصفه جان ماري لوبين، زعيم اليمين المتطرف بأنه «كان أشبه بتان تان منه إلى ديغول»، بينما ذهبت نجلته، ماري لوبين، وهي أيضا نائبته في حزب الجبهة الوطنية، إلى حد القول بسحب حق التحكم في الزر النووي لفرنسا من ساركوزي بسبب اندفاعه وانفعاله السريع، مشيرة إلى أن ساركوزي يعطي مثالاً سيئاً للأطفال والشباب في فرنسا. نزعة استعلائية وفي الشأن الاجتماعي وخاصة في شقه المتعلق بالهجرة، تعامل ساركوزي بكثير من الاستعلاء والاستخفاف مع المهاجرين، ليس فقط من خلال إصدار ترسانة جديدة من القوانين المجحفة في حقهم، وإنما أيضا من خلال النزعة الاستعلائية التي لا يفوته إشهارها كلما سنحت الفرصة لذلك. وقد تجلت هذه النزعة عقب أحداث الشغب التي شهدتها الضواحي الباريسية في نونبر الماضي، عندما وصف شباب الهجرة ب»الصعاليك المدمرين»، قبل أن يتوعد بملاحقتهم ويعلن عن قراره بوقف برنامج إصلاح وتنمية الضواحي قائلا: «الرد على أحداث العنف لن يكون بصرف المزيد من أموال الفرنسيين على المشاغبين بل بمحاصرتهم». وكلام ساركوزي لا يعير أدنى اهتمام للمهاجرين وللمخزون النفسي المتوتر الرافض للتهميش والإقصاء والاستغلال الذي ظل سياسة متتابعة في عهود اليمين واليسار معا، في عهد فاليري جيسكار ديستان اليميني الذي يرفض حاليا انضمام تركيا لأنه لا يريد إدخال سبعين مليون مسلم إلى النسيج الأوروبي، وفي عهد الراحل فرانسوا ميتران الاشتراكي الذي كان أول من رفض وجود دولة مسلمة في البوسنة والهرسك، وأيضا في عهد الرئيس جاك شيراك صاحب قانون منع الحجاب، واليوم في عهد ساركوزي الذي لم يكن يرى قبل سنة في المهاجرين سوى بطاقات وأوراق انتخابية ليس إلا. تهجم على الصحافة في ظل هذا التراجع القياسي في ثقة الفرنسيين في أدائه، حاول مستشاروه، بمناسبة مرور سنة على انتخابه رئيساً للبلاد، تمرير خطاب مفاده أن «الرئيس تعلّم الدروس» التي فرضتها عليه أحداث هذا العام، بدءا من درس التواضع إلى درس الابتعاد عن تسليط الأضواء على حياته الشخصية، مروراً بالكف عن مهاجمة الصحافة والصحفيين، غير أنه سرعان ما عادت حليمة إلى عادتها القديمة، فقد عاود قبل أسبوع في حفل مغلَق بقصر الإليزيه، بحضور نواب أكثريته، التهجم على عدد من المنابر الإعلامية وتحديداً الصحف التي تنتقده، وفي مقدمتها صحيفة «لوباريزيان» والأسبوعية «لكسبريس» التي دعمته خلال حملته الانتخابية. وذهب ساركوزي إلى حد مهاجمة وكالة الأنباء الفرنسية «أ ف ب» التي اتهمها، حسب ما سربه المشاركون في الحفل، بأنها تجنبت تغطية لإدانة سيغولين رويال في حكم قضائي في قضية رفعتها ضدها عاملتان في فريقها. وقد شجبت وسائل الإعلام بمختلف مشاربها هذه المهاجمة، مذكرة إياه بأن عهد «وكالات الأنباء الرسمية قد ولّى»، ومنددة بوضعه اللوم على الصحافة كلّما تراجعت شعبيته. ولم يقف لسان الرئيس عند حد مهاجمة الصحافة، بل طال وبحدة سلفه جاك شيراك، الذي قضى على حد قوله «21 سنة من أجل الوصول إلى الرئاسة»، بينما تفاخر بأنه وصل إليها منذ المرة الأولى، كما اتهمه بعدم القيام بأية عملية إصلاح حقيقية. وطالت انتقاداته أيضا الرئيس التاريخي الجنرال شارل ديغول لأنّه «ربح الانتخابات عام 1967 بفارق صوت واحد»، حسب تعبيره. وقد حاول بعض هؤلاء البرلمانيين التقليل من حدة هذا الحديث بقولهم: «يعرف الجميع أنه يمزح هكذا»، إلا أن بعض المقربين من شيراك ورئيس الوزراء السابق دومينيك دوفيلبان، رأوا أن ساركوزي يريد تطهير حزبه، التجمع من أجل حركة شعبية، من بقايا الشيراكية والديغولية، ودفعه أكثر فأكثر نحو مواقع يمينية بمفهوم المحافظين الجدد.