حصيلة الرئيس ساركوزي بعد سنة من توليه السلطة، هي جد إيجابية في مجال الهجرة التي تعززت بترسانة جديدة من القوانين المجحفة، القائمة على ثقافة التهميش وفلسفة الترحيلات الرقمية التي ألزم بها وزيره في الهجرة والهوية الوطنية، في ظل مناخ يسوده الإحباط والاستياء من أدائه الاقتصادي والسياسي ومن استفراده بمسؤولية الحكم وتهميش دور الحكومة، وأيضا من أسلوب عيشه الخاص الذي أدى إلى تدني شعبيته بصورة قياسية. هذا الموضوع، إلى جانب زيارة الرئيس الفرنسي للأراضي المحتلة لإشهار صداقته من جديد لإسرائيل، يشكلان محور الرسالة الباريسية لهذالأسبوع. ا ارتفع طرد المقيمين غير الشرعيين من الأجانب في فرنسا بنسبة 80% خلال الشهور الخمسة الأولى من العام الحالي، بالمقارنة مع نفس الفترة من سنة 2007. وقد تم، خلال الخمسة شهور الأولى من العام الحالي، ترحيل 14 ألفا و660 مقيما غير شرعي إلى خارج البلاد، من بينهم 3300 مغربي، منهم من دخل فرنسا عبر مراكب الموت وشبكات تهريب الأشخاص والبضائع، ومنهم من اختاروا البقاء بها بعد أن انتهت صلاحيات التأشيرات التي حصلوا عليها لمتابعة الدراسة. والحصيلة أن الرئيس ساركوزي احتفل بمرور عام على انتخابه بخفض عدد المقيمين غير الشرعيين في فرنسا بنسبة 8%، وخفض الهجرة بدافع التجمع العائلي بنسبة 12%. وفى المقابل، ارتفع عدد بطاقات الإقامة التي تم منحها لأسباب مهنية خلال نفس الفترة بنسبة 16%. تلك هي الأرقام التي قدمها بريس أورتفو في مؤتمر صحافي دام أزيد من ساعتين ونصف، وعرض خلاله حصيلة السنة الأولى من نشاط وزارة الهجرة والاندماج والهوية الوطنية والتنمية التضامنية، متباهيا بأنه «لم يتم أبدا إبعاد مهاجرين غير شرعيين بهذا العدد إلى دولهم الأصلية خلال سنة واحدة كما تم هذه السنة». ودافع أورتفو عن سياسة الهجرة التي يتبعها، واصفا إياها بسياسة «الحزم والتوازن والعدالة»، ومذكرا بأن عدد المبعدين في العام الحالي وصل إلى 14660 مهاجرا، بينما تم إبعاد 29729 مهاجرا بين ماي 2007 وماي 2008. وبنفس الحماس والتفاخر يؤكد أورتوفو أن الهدف هذه السنة هو إبعاد نحو 26 ألف مهاجر، حتى وإن كانت الاستفتاءات الأخيرة التي رافقت هذه الحصيلة، تثبت تأييد نسبة كبيرة من الشعب الفرنسي لتسوية أوضاع المهاجرين غير الشرعيين (68 في المائة من المؤيدين ومعارضة 24 في المائة فقط والباقي بدون رأي). ومن بين المفارقات، أن نسبة مؤيدي التسوية لأسباب إنسانية واقتصادية، ينتمون بنسب عالية إلى حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، أي حزب ساركوزي، إذ تبلغ نسبة المؤيدين من بين هؤلاء 82 في المائة، بينما لا تتعدى 58 في المائة لدى مناصري الحزب الاشتراكي المعارض. والغائب في حصيلة الوزير أورتفو أن معظم العمال غير الشرعيين لديهم كشف راتب ويصرحون عن ضرائبهم، ويسددون التعويضات الاجتماعية ومستحقات الضمان الصحي والتقاعد، ولا يستفيدون أبدا من كل هذا بسبب عدم امتلاكهم وثائق الإقامة. ومعظم هؤلاء يعملون لدى أرباب عمل يدركون أنه ليس بحوزة موظفيهم أوراق إقامة، ويستغلون ذلك دون خجل. كما لم يجب أورتفو بما يلزم من وضوح عن حركة احتجاج المهاجرين غير الشرعيين مؤخرا نتيجة إجحاف قوانين الهجرة ورفض الحكومة تنظيم شؤون المهاجرين في القطاعات ذات الحاجة، كالبناء والزراعة والمطاعم، وهي التي وضعت لوائح بنحو 150 مهنة للمهاجرين لنقص اليد العاملة الفرنسية، وأعلنت عن تحديد سقف لعدد المهاجرين إلى فرنسا سنويا وتوزيعهم حسب القطاعات الاقتصادية والأصول الجغرافية. ميثاق الهجرة وتأتي حصيلة الترحيلات التي تتباهى بها وزارة الهجرة وسط توقعات اقتصادية مثيرة للقلق، تفيد بأن العجز التجاري سيسجل رقما قياسيا يتراوح بين 35 إلى 40 مليار يورو، وأيضا وسط مخاوف فرنسية من أن يؤثر رفض الإيرلنديين لمعاهدة لشبونة على إجراءات تبني ميثاق الهجرة الأوروبي الذي اقترحته فرنسا على الدول الأوروبية، حتى وإن كان أورتفو يستبعد ذلك بدعوى أن الميثاق لا يتم في إطار المعاهدة الأوروبية. لكنه شدد مع ذلك على ضرورة الاستمرار في الحوار مع بقية العواصم الأوروبية، بما يسمح بالتقدم نحو تبني الميثاق في أكتوبر المقبل خلال الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي التي ستبدأ في فاتح يوليوز، وستكون سياسة الهجرة إحدى أولوياتها. وقد قام وزير الهجرة بجولات مكوكية بين العواصم الأوروبية في محاولة لإقناع قادتها بجدوى هذا الميثاق الذي يرمي، على حد قوله، إلى وضع أسس سياسة أوروبية مشتركة في مجال الهجرة، تقوم على التحكم بالهجرة الشرعية ومحاربة الهجرة غير الشرعية وتعزيز فعالية مراقبة الحدود وتعزيز مفهوم اللجوء في أوروبا. ووصف أورتفو قرار الترحيلات أو ما يسميها «العودة» الذي تبناه البرلمان الأوروبي هذا الأسبوع ب»المهم»، كونه يضع سقفا زمنيا لمدة احتجاز المهاجرين غير الشرعيين بثمانية عشر شهرا، في حين لا يوجد سقف زمني لمدة الاحتجاز هاته في بعض الدول الأوروبية، وقال إن «القرار ليس مبادرة فرنسية، بل مبادرة من المفوضية الأوروبية، ويعود إلى العام 2005، وتبناه البرلمان الذي يمثل الأوروبيين ديمقراطيا»، مضيفا أن «هناك دولا أوروبية لا تحدد سقفا زمنيا لمدة احتجاز المهاجرين غير الشرعيين، بينما تحدد التعليمات الجديدة حدا أقصى (18 شهرا)، وهذا تطور»، على حد قوله. وكان وزراء داخلية الدول ال27 الأعضاء في التكتل الأوروبي، قد صادقوا على هذا القرار المثير للجدل يوم خامس يونيو قبل أن يصبح ساري المفعول بعد أن تبناه فيما بعد البرلمان الأوروبي. ويأتي هذا القرار قبل يومين من انطلاق أعمال القمة الأوروبية أول أمس في بروكسل، على وقع الرفض الإيرلندي لمعاهدة لشبونة، حيث خصص زعماء دول الاتحاد الأوروبي معظم الوقت لمناقشة خارطة طريق تحدد ملامح العمل في المرحلة القادمة من أجل المضي قدماً في عملية الإصلاحات الأوروبية. ويسعى زعماء أوروبا إلى تكريس فكرة ضرورة متابعة عملية المصادقة على معاهدة لشبونة، مع الأخذ بعين الاعتبار آراء الشعب الايرلندي، خاصة أن بعض الدول الثماني الباقية التي لم تصادق على الدستور، ترسل إشارات إيجابية بهذا الشأن. وقد علق أحد الدبلوماسيين الأوروبيين بأن «الأجواء السائدة حاليا بعيدة كل البعد عما كان سائدا في أوروبا إبان الرفضين الفرنسي والهولندي لمعاهدة الدستور الأوروبي الموحد عام 2005». مع وزير الهجرة ويجدر بنا أن نذكر أن الترحيلات الفردية والجماعية التي استهدفت في سنة واحدة 26.000 شخص -وهو الرقم الذي حددته الحكومة سنويا للتخلص من المهاجرين غير الشرعيين اقتداء بساركوزي الذي يتفاخر بكونه قام بترحيل ما يزيد عن 30 ألفا سنة 2006- خلفت جدلا واسعا في أوساط الجمعيات الحقوقية وأحزاب المعارضة والجالية الإسلامية، التي رأت فيه انتهاكاً لحقوق المهاجرين ومساسا خطيرا بمبادئ وقيم الجمهورية، بينما اعتبرها الحزب الحاكم واليمين المتشدد في فرنسا، خطوة ضرورية في إطار مكافحة الإرهاب المستورد من الخارج، والتحكم في ما يسميه ساركوزي بالهجرة المفروضة. وآخر ضحايا أرقام وزير الهجرة، بعد وفاة اثنين من المغاربة قبل ثمانية أشهر مشنوقين بمدينة بوردو، هي فتاة صينية في الثلاثين من عمرها، أقدمت على الانتحار يوم الخميس 19 يونيو بعد أن ارتمت من نافذة منزل أحد أصدقائها بالطابق الرابع هربا من الشرطة. وقد نقلت الفتاة وهي الضحية الرابعة في أقل من شهرين وبنفس الطريقة، أي الارتماء من النوافذ، إلى المستشفى الذي لفظت فيه أنفاسها الأخيرة. وفيما وصفت معظم الجمعيات الحقوقية هذه الترحيلات، التي تجعل من الأرقام السند الجوهري لسياستها، بأنها إهانة مجانية في حق من تعتبرهم الحكومة «بشرا دونيين»، رفض ممثلو شبكة التربية بلا حدود دعوة وجهها إليهم السيد أورتفو لمقابلتهم، مؤكدين أنه «لا نتيجة من لقاء تسعون من خلاله إلى تكريس سياسة الإقصاء المنافية لقيم الجمهورية». وجاء في رسالة ردا على الدعوة أن شبكة التربية بلا حدود «لا ترى فائدة في وزارتكم، وأن قبولنا الجلوس معكم في السنة الماضية كان من أجل إدانة سياستكم التي تعرضون تفاصيلها اليوم». وتضيف الرسالة بكثير من التقزز والاشمئزاز: « كيف يمكن الجلوس معكم وأنتم لم تترددوا في سن قوانين تحرم الآباء من العيش مع أطفالهم، وتشترط الفحوصات الوراثية للتجمع العائلي، وفوق كل هذا وضعتم سياسة بالأرقام تقضي بطرد 25 ألف مهاجر سنة 2007، و26 ألفا عام 2008، و28 ألفا عام 2009، وحددتم معها سقفا لكل عمالة أو ولاية، وكأن الأمر يتعلق بقطيع من الأغنام تسوقونه متى وكيفما شئتم. إنها إهانة لهؤلاء ووصمة عار في جبين هذا البلد الذي حصدت الحرب أرواح آباء المهاجرين من أجل أن يحيى مستقلا كريما. لهذه الأسباب وغيرها، نرفض الجلوس معكم، وتقبلوا فائق التقدير على سياستكم». إسرائيل في قلب الاهتمام حدث آخر استأثر باهتمام الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية والدولية، ويتعلق بالزيارة التي بدأها اليوم الرئيس الفرنسي للأراضي المحتلة، وهي الأولى له كرئيس لفرنسا بعد تلك التي قام بها سنة 2004 بصفته رئيسا لحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية. ويسعى من خلالها إلى عرض رؤيته لواقع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والمرافعة، كما قال، من أجل إقامة الدولة الفلسطينية وإنهاء الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، والتخفيف من الإجراءات التي تعيق تنقل الأفراد في الضفة الغربية وقطاع غزة. كما سيترافع بقوة من أجل كسب التأييد لمشروعه الأورو-متوسطي الذي يريده مبنيا على ثلاث ركائز تهم البيئة والتنمية المستدامة، ثم حوار الثقافات والنمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، وأخيرا فضاء للأمن المتوسطي. والرئيس ساركوزي، الذي أشهر غير ما مرة صداقته الكبيرة لإسرائيل، يريد من خلال هذه الزيارة أن يطمئن الإسرائيليين بشكل رسمي وعلني بأن أمن الدول العبرية، كما قال في حديث لصحيفة «معاريف» الإسرائيلية، «غير قابل للنقاش، وأن من يروجون لتدمير إسرائيل سيجدون فرنسا إلى جانبها». وأثنى على العلاقات الفرنسية-الإسرائيلية التي «تقوت بشكل غير مسبوق» منذ توليه الرئاسة، لتعكس «إرادة سياسية مشتركة وخيارا تلقائيا من لدن الطرفين»، داعيا المواطن الإسرائيلي إلى عدم التخوف من المسلسل السياسي الذي انطلق مع الفلسطينيين من أجل إقرار سلام عادل ودائم بالمنطقة، فالأمر، كما قال، يحتاج إلى «تنازلات تاريخية وتضحيات أليمة، ومنها وقف كل أشكال الاستيطان الذي يعرقل كل تسوية سياسية للأزمة». وتتزامن الزيارة مع معلومات حثيثة حول مباشرة إسرائيل في بداية الشهر مناورات عسكرية تبدو استعدادا لهجوم محتمل للجيش على المنشآت النووية الإيرانية. فقد نقلت الصحف الأمريكية عن بعض المسؤولين قولهم إن أكثر من مائة مقاتلة إسرائيلية «إف 16» و»إف 15» شاركت في مناورات فوق شرق المتوسط واليونان خلال الأسبوع الأول من يونيو بهدف تحضير الجيش لهجمات بعيدة، وتوجيه رسالة مفادها أن إسرائيل مستعدة لعمل عسكري في حال أخفقت الجهود الدبلوماسية في دفع طهران إلى التخلي عن إنتاج أسلحة نووية. وكان الرئيس ساركوزي قد خير إيران، في أول خطاب له أمام أعضاء السلك الدبلوماسي الفرنسي، بين «التخلي عن الطموحات النووية أو القصف». وفي الشق الأورو-متوسطي، يسعى ساركوزي إلى كسب التأييد الفلسطيني الإسرائيلي لمشروعه الذي أيده المغرب وتونس بشكل علني، فيما شكك القذافي في جدواه، بينما أثار تحفظات في الأوساط الجزائرية التي اعتبرته غير واضح المعالم ومثار عديد من التساؤلات، خاصة في جانبه الشرق-أوسطي، حيث ترى أن تحقيق هذا المشروع يتطلب نزع التوتر من المنطقة عبر «التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية». وقد سبق للجزائر أن دعت إلى مشروع غرب المتوسط لتضع خطا فاصلا بين الجزائر وشرق المتوسط الذي يضم إسرائيل. وفيما تؤكد بعض الأوساط العربية أن «المشروع الأورو-متوسطي لا يزال غير واضح المعالم، حتى بالنسبة إلى صاحبه ساركوزي»، تذكر بتجربة مسلسل برشلونة الذي انطلق عام 1995 دون أن يؤتي ثماره. ويعول ساركوزي أكثر على التأييد السوري الذي قد يزيل بعض المخاوف العربية بشأن التمثيل الإسرائيلي. وتؤكد مصادر دبلوماسية فرنسية أن الرئيس الفرنسي وجه دعوة رسمية إلى بشار الأسد لحضور الاحتفالات بالعيد الوطني الفرنسي المتزامنة مع عقد أول اجتماع لقادة الدول المتوسطية بباريس، الذي ستنجلي فيه أكثر نقط التلاقي والاختلاف حول هذا المشروع الذي لا يلاقي حتى اليوم تحمسا كبيرا من لدن الأوروبيين.