زواج ساركوزي في خضم تدهور شعبيته التي تدنت إلى 41 %، بعد أن حققت نحو 63 % في الأشهر الأولى من ولايته، وتقرير جاك أتالي حول تحرير النمو الاقتصادي الذي كرس القطيعة مع فلسفة ساركوزي الخاصة بالهجرة الانتقائية، واعتبر الهجرة عاملا أساسيا للتنمية البشرية، وموجة الاحتجاجات في ظل تنامي المخاوف من تداعيات هذا التقرير على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، كلها مواضيع سنعرض لها في الرسالة الباريسية لهذا الأسبوع. وأخيراً تحولت قصة الرئيس نيكولا ساركوزي الغرامية مع عارضة الأزياء السابقة، والمغنية الإيطالية الأصل كارلا بروني، إلى زواج رسمي أعلن عنه أول أمس السبت رئيس بلدية الدائرة الثامنة بباريس فرانسوا لوبيل، الذي زوجهما في سابقة تاريخية في قصر الإليزيه، وهي المرة الأولى التي يتزوج فيها رئيس جمهورية خلال ولايته الرئاسية، والمرة الأولى التي تقام فيها مراسم الزواج في الإليزيه وليس في مقر البلدية. وكان نابليون الثالث هو آخر رئيس دولة يتزوج أثناء مزاولة مهامه، وقبله نابليون الأول. وسجل ساركوزي أيضا سابقة بطلاقه من سيسيليا في أواخر أكتوبر الماضي، حيث كان أول رئيس يطلق وهو في منصبه منذ إعلان الجمهورية الخامسة عام 1958. مبروك على السيد ساركوزي زواجه من سيدة مهاجرة ترعرعت في أحضان الاغتراب وتمكنت بسرعة، لأنها إيطالية النشأة، من الانصهار في تفاصيله. غير أن ما يثير الفضول في هذا الزواج هو التضارب البين في أقوال وتصريحات الرئيس الفرنسي بشأن المهاجرين، وإلحاحه دوما على وجوب احترام الهوية الفرنسية، إلى حد إحداث وزارة للهجرة والهوية الوطنية. السيدة بروني تشكل استثناء إذا ما عدنا إلى تصريح لها عثرت عليه صدفة بصحيفة الدايلي مايل البريطانية، وتقول فيه بالحرف بعد أيام من الانتخابات الرئاسية: «الفرنسيون يبعثون في نظري على الشفقة، فهم سلبيون»، وعن رأيها في باريس تقول: «مدينة ملوثة بشكل لا يطاق، أتجول في محيطها فقط لأنه المكان الوحيد الذي توجد به مساحات خضراء»، أما عن نيكولا ساركوزي، فهي تقارنه بالفنان الموسيقي الأمريكي برانس وبنابليون، وهما معا قصيرا القامة ويمتازان بقوة الشخصية، ثم ترد على سبب امتناعها عن التصويت في الانتخابات الرئاسية: «أحس في الحقيقة بأنني لست فرنسية، ليس إحساسا فقط بل إنني لست فرنسية في داخلي، وليس لي جواز سفر فرنسي»، تقول كارلا بروني ذات الجنسية الفرنسية، وتضيف «أحب المزاج الإيطالي والطبخ الإيطالي، ثم إن الفرنسيين ينقصهم شيء من الدعابة والبشاشة». للسيد ساركوزي أن يتأمل في عشق زوجته للهوية الفرنسية التي قال عنها في أوج حملته الانتخابية: «من لا يحب فرنسا، لا مكان له في هذا البلد». تدني شعبية الرئيس جاء الإعلان عن الزواج بعد حوالي ساعتين من الإعلان عن اجتماع أزمة عقده ساركوزي في الإليزيه لبحث الأزمة التشادية وتلافي انعكاساتها على التواجد الفرنسي هناك. وجاء أيضا في خضم تدهور شعبيته التي تدنت، حسب آخر استطلاع للرأي، إلى 41 %، بعد أن حققت نحو 63 % في الأشهر الأولى من ولايته، فيما انخفضت شعبية رئيس الوزراء، فرانسوا فييون، إلى 43 في المائة. ويجد تدهور التأييد الشعبي مبرراته بشكل أساسي في خيبة الأمل لدى الكثير من الفرنسيين من عدم التزام الرئيس بتنفيذ وعوده الانتخابية، حيث قدم نفسه على أنه صانع الحل لتدني القدرة الشرائية، ولم ينجح على هذا الصعيد. فلدى سؤاله عن الموضوع في مؤتمر صحفي في الثامن من الشهر الماضي، قال: «الخزانات فارغة فمن أين آتيكم بالأموال». والواقع أن الرئيس ساركوزي أطلق منذ توليه الرئاسة مشاريع إصلاحية في كل اتجاه، وأنشأ لهذا الغرض مجموعة من اللجان المتخصصة التي قدمت له تقارير حول ما يجب القيام به في القطاعات الأساسية مثل النمو الاقتصادي (لجنة أتالي) والإصلاحات الدستورية (لجنة بالادور) والضواحي (خطة الوزيرة فاضلة عمارة) والعدل والقضاء (خطة الوزيرة داتي). وقد تمخضت عن خلاصات هذه اللجن موجة احتجاج كبيرة في صفوف شريحة واسعة من الفرنسيين أعقبتها إضرابات عامة في الكثير من القطاعات الحيوية. ومع استفحال المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، تراجع التأييد للرئيس الفرنسي بشكل حاد في الشريحة المسنة من الفرنسيين أي الشريحة المؤيدة لليمين تقليديا مما استوجب معه العودة إلى طرح المواضيع التي أوصلته إلى الرئاسة، وأولها موضوع أمن الضواحي والهجرة. التباهى بحياته الشخصية انعكس الجدل حول حياته الخاصة المروية والمصورة بتفاصيلها على صفحات الجرائد والمجلات، وقصته الغرامية مع عارضة الأزياء السابقة كارلا بروني قبل أن يتزوجها، على صورته لدى الفرنسيين، وخاصة في الأوساط اليمينية المحافظة، حيث أفاد استطلاع للرأي نشرت نتائجه صحيفة «لا كروا» الكاثوليكية أن 93 في المائة من العينة المستطلعة ترى أن ساركوزي يتباهى كثيرا بحياته الخاصة. فما بين طائرة صديقه الملياردير فانسان بولوري التي نقلته إلى مدينة أسوان ثم إلى شرم الشيخ في عطلة الميلاد، وطائرة العاهل الأردني التي وضعت رهن إشارته لقضاء عطلته في البتراء مع عشيقته كارلا بروني، وجد الفرنسيون أن رئيسهم يحب التمظهر كثيرا ويغالي في إبراز حياته الخاصة. وأفاد الاستطلاع، الذي حظيت نتائجه بتغطية واسعة في الصحف اليومية ومحطات الإذاعة والتلفزيون، بأن 68 % من الأشخاص يعتبرون أن الأمور في فرنسا ستتجه نحو الأسوأ، وأن 66 % يتوقعون الكثير من النزاعات الاجتماعية، بينما اعتبر 87 % منهم أن أسلوب الرئيس لتحسين القدرة الشرائية «غير ناجع». ووجدت أحزاب المعارضة في التباهي بحياته الخاصة واستفحال ضعف القدرة الشرائية، فرصة سانحة للنيل من سمعته، على بعد أسابيع من الانتخابات المحلية المقررة في مارس القادم، حيث أكد الكاتب الأول للحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند أن نيكولا ساركوزي «قدم نفسه كرئيس القدرة الشرائية، واليوم لم يرتفع مستوى دخل الفرنسيين باستثناء دخله هو»، في إشارة إلى رفع راتب الرئيس بنسبة 170 %، بينما انتقدت المرشحة الاشتراكية السابقة سيغولين رويال منافسها السابق ساركوزي بانشغاله بنفسه وتصرفاته كالأثرياء دون الاهتمام بمشاغل الفرنسيين. الانتخابات المحلية وحتى وإن باتت مسألة تراجع شعبية ساركوزي تثير القلق في أوساط حزب الرئيس، «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، بحجة أن النائب كلود غوسيغان، وهو من حزب ساركوزي، عبر عن خشيته من تحول الانتخابات البلدية إلى «كابوس» للأغلبية الحاكمة، فإن المتحدث الرئاسي، دافيد مارتينون، حاول التقليل من أهمية الاستطلاع، بالقول إن الرئيس الفرنسي «ليس هنا ليتمتع بالشعبية بل ليقوم بإصلاحات، ونحن في مرحلة إصلاحات ولن نتوقف عند مستوى الشعبية». وتنقسم آراء المتتبعين للشأن السياسي الفرنسي بين من يعتبر بشيء من اليقين أن رؤساء البلديات من أعضاء الحزب الحاكم سيدفعون ثمن تدهور شعبية الرئيس، ومن يجزم بأن الرئيس ساركوزي، المشهود له بدهاء سياسي فريد، سيجد، خلال الأسابيع المتبقية، الوسائل الناجعة لتغيير مسار الاستطلاعات، وإعطاء زخم جديد لمرشحي الحزب، حتى ولو كانت نتائج الانتخابات المحلية لا تؤثر بشكل مباشر على سلطات الرئيس أو الحكومة. الهجرة مصدر ثروة وبينما تسير نتائج الاستطلاعات في اتجاه الانحدار، يطلع تقرير جاك أتالي حول تحرير النمو الاقتصادي، ليكرس القطيعة مع فلسفة ساركوزي ووزير الهجرة بروس أورتفو الخاصة بالهجرة الانتقائية. ويبين التقرير بالأرقام أن اللجوء إلى الهجرة كوسيلة لبعث النمو الاقتصادي الفرنسي أصبحت من الأولويات الملحة. وجاء التقرير، الذي أعده جاك أتالي مع لجنة مكونة من أربعين خبيرا، بتكليف من الرئيس ساركوزي، في 200 صفحة تضمنت 316 مقترحًا، الهدف منها تقليص مستوى البطالة وزيادة النمو الاقتصادي، وتحسين عجز الموازنة العامة، دون الزيادة في الضرائب. ويؤكد التقرير أن على فرنسا اللجوء إلى اليد العاملة الأجنبية باعتبار أنه في أفق 2015 سيتم توفير أكثر من 750 ألف منصب شغل في السنة. واعتبر أن الهجرة ستكون مصدر ثروة باعتبارها عاملا للتنمية البشرية. ومن شأن هذا الاقتراح أن يثير مجددا الإشكال حول سياسات الإدماج الفاشلة، كما تدل على ذلك انتفاضات الضواحي المتتالية. فبالرغم من السياسة الصارمة تجاه الهجرة التي تبناها الرئيس الفرنسي، فإن فرنسا في أمس الحاجة إلى عمال أجانب، كما نفذت ذلك بنجاح إنجلترا والسويد وإيرلندا وبعض الدول الأوربية التي فتحت سوق الشغل بدون قيود إدارية أو جبائية على الجاليات الأجنبية. وعلقت اللجنة الأوربية على ذلك بأن سياسة الانفتاح كانت «جد إيجابية بالنسبة إلى الدول الثلاث»، وخاصة إنجلترا التي ضاعفت ثلاث مرات من عدد التراخيص الخاصة باستقدام العمال الأجانب، ما بين 1997 و2003. وأطلق طوني بلير منذ توليه السلطة برنامجا واسعا شعاره «الهجرة مصدر ثراء للمملكة المتحدة». وتجد فرنسا، المعروفة بسياستها المتشددة بشأن الهجرة، مصاعب كثيرة في إيجاد اليد العاملة اللازمة في قطاعات البناء والصناعات الثقيلة والفندقة والصحة والفلاحة. ومن التوصيات التي تضمنها التقرير، وكان ساركوزي قد تعهد بتنفيذها إبان إحداث اللجنة في يوليوز الماضي، تلك المتعلقة بإمكانية العمل منذ عمر مبكر وحتى بعد الخامسة والستين من العمر لمن يرغب ولديه القدرة على ذلك، وكذلك اقتراح تخفيف القيود على بعض المهن الحرة التي تحكمها قوانين خاصة مثل الصيدلة وسيارات الأجرة والمقاهي، إضافة إلى إلغاء القوانين التي تمنع فتح المخازن أيام الآحاد أو تلك التي تمنع البيع بخسارة بالنسبة إلى المتاجر، وأيضا تقليص حجم الإنفاق العام بمعدل نقطة في الناتج المحلي الخام للبلاد، حيث تصل فرنسا إلى المعدل الأوروبي بحلول 2012. وتعهد واضعو التقرير بأن العام نفسه سيشهد، إذا طبقت المقترحات، ارتفاع النمو بمعدل نقطة إضافية، مع ما ينطوي عليه ذلك من خفض للبطالة والديون العامة، حيث لن تتجاوز 55% من إجمالي الناتج المحلي الفرنسي. تقرير أتالي في الميزان وحظيت المقترحات الخاصة بالنظام التعليمي بقبول عام من أغلب الأطراف التي أقرت بضرورة إعادة النظر فيه وزيادة إمكانياته، وتأسيس مدن علمية جديدة تتيح احتضان العلوم الرقمية، نفس الأمر بالنسبة إلى تأهيل العاطلين عن العمل وتعويضهم ماديا على فترات التأهيل، إضافة إلى تسهيل حصولهم على سكن اجتماعي. وكانت وسائل الإعلام قد بثت بشكل مباشر تقديم هذا التقرير في ما يشبه استعراضا تلفزيونيا إعلاميا حضره ساركوزي وأغلب الوزراء، إضافة إلى أعضاء اللجنة المكونة من أساتذة وخبراء اقتصاديين ورؤساء شركات. وشرح ساركوزي خلاله أفكاره وعمل الحكومة الحالي والمستقبلي، مبديا ارتياحه لأفكار أتالي ومجموعته، وقناعته بأغلبية الاقتراحات باستثناء قلة منها، وفي مقدمتها إلغاء المحافظات الفرنسية التي لا يمكن في منظوره محوها على أساس أن لكل منها هويته الخاصة وتاريخه وثقافته، حتى ولو كانت تسجل الخسائر. وكان أتالي قد أعلن أن المقترحات مترابطة ولا يمكن تطبيق واحدة منها دون البقية، واصفا تقريره بأنه «حر وليس ليبراليا، عادل وليس منحازا». كما أكد أن المقترحات وضعت في ظل هاجس حماية الضعفاء في المجتمع. غير أن دفاع أتالي المسبق عن حصيلة عمل لجنته وتمسكه بمقترحاتها مجتمعة، لقي استياء من بعض الفعاليات والأحزاب السياسية، خاصة البرلمانيين الذين وجدوا أن التوصيات تقلص دورهم وتتجاهله، مبدين تحفظهم بشأن ما سموه «إملاءات» أتالي الذي يصر على تطبيق مجمل التوصيات ويرفض الأخذ بما يناسب منها فقط. ومن جهته، أعلن رئيس تجمع المحافظات الفرنسية التي تريد اللجنة إلغاءها، أن على الدولة التنظيف أمام بابها أولا، حيث تصل ديونها إلى 1300 مليار يورو، فيما لا تتجاوز ديون المناطق والمحافظات والبلديات مجتمعة 100 مليار يورو. واعتبر الحزب الاشتراكي على لسان كاتبه الأول، فرنسوا هولاند، أن بعض توصيات التقرير مثيرة للقلق وتوحي بنية رفع ضريبة القيمة المضافة. كما وصف بعض النواب الاشتراكيين التقرير بأنه غير عادل اجتماعيا وغير فعال اقتصاديا.