غريب كيف أن السيد ساركوزي يلجأ كلما تدنت شعبيته إلى الاحتماء بالهجرة من زاوية أنها السبب الأول والرئيسي في كل المشاكل السياسية والاقتصادية والأمنية التي تعرفها فرنسا. يحق للرئيس الفرنسي نيكولا سارركوزي وهو في عز الاستمتاع بعطلته الرئاسية بين أصدقائه وأهاليه، أن ينتشي بآخر إصلاحاته الدستورية التي مكنه منها، بفارق صوت واحد، الحزب الاشتراكي الذي نجح بدهائه الفريد في تأجيج صراعاته حتى راح تائها في أدبياته بين الليبرالية الاشتراكية والليبرالية الحداثية والليبرالية الاجتماعية (ليبرالية الابتكار والمبادرة الخاصة)، التي قد يرتمي من خلالها في أحضان الإيديولوجية اليمينية الآخذة في التفوق سياسيا واقتصاديا. لقد نجح والجميع يشهد له بذلك في إشعال الفتيل في هشيم الاشتراكيين اليابس سواء بضمك نخبة من قادتهم لحكومته أو بتعيين بعضهم على رأس لجن متخصصة أوكل لها مهام إصلاح مؤسسات الدولة. فنجاحه في استقطاب بعض الأسماء النافذة في المشهد الاشتراكي جعل الكثير منهم ينظمون اليوم خصوماتهم وما أكثرها على قاعدة التخلي تدريجيا عن المرجعيات الاشتراكية المأثورة، وعدم اعتبار الليبرالية خصمهم الروحي التقليدي. وخير مثال على بوادر التوجه الليبرالي في الفكر الاشتراكي، الزوبعة التي أثارها مؤخرا المنظر الرئيسي للحزب، برتراند دولانوي، الذي تبنى في كتابه الأخير «الجرأة»، اشتراكية جديدة تقوم على قاعدة «الاقتصادي قبل الاجتماعي»، بمعنى أن تحسين التنافسية الاقتصادية، يسبق مسألة تحسين أوضاع العمال والمأجورين. «أنا ليبرالي واشتراكي معا، ولا أرفض بشكل ميكانيكي كلمة «ليبرالي»، بل أعتبرها مجدية ومفيدة للاشتراكية نفسها». ولم يجد كاتبهم الأول، فرانسوا هولاند، من عبارات دالة على عمق الأزمة الاشتراكية سوى القول :»لم تعد تستمع الغالبية من المواطنين لما يقوله الحزب لأنه لا يقول شيئا دقيقا ولا واضحا ولا مفهوما». كلام فرانسوا هولاند بما هو اعتراف شجاع بالمعضلة الإيديولوجية التي يتخبط فيها الحزب منذ عقد أو يزيد، لا يجوز قراءته من زاوية أن حرب الاتجاهات في صفوف قادة الحزب تعطي لليمين المشروعية المطلقة لقيادة عملية الإصلاح من موقع مريح، بناء على الليبرالية المتوحشة التي هي الآن بصدد تدمير المجتمع الفرنسي، بعد أن حققت أرباح الباترونا في الآونة الأخيرة ارتفاعا بنسبة 54%، ومع هذه الأرباح، يتم حاليا الإعداد لحذف مكافأة المردودية بالنسبة لمليونين ونصف من المأجورين.. ونصيحتي للسيد الرئيس، وإن كان النصح في المجال السياسي ضرب من المروق، هي أن يتجنب الانتشاء بأزمة الاشتراكيين، وأن يتأمل بعمق في جدوى إصلاحاته الدستورية التي أهم ما فيها أنها تعطيه سلطات أوسع وتجعله ينفرد بأقوى شرعية في البلاد لمجرد أن شرعيته اكتسبتها بالاقتراع الشعبي المباشر، مقابل شرعية برلمانية مجزئة ومنقسمة، ومؤسسات تنفيذية محدودة الفعالية ونظام انتخابي مرتبك... عليه والحالة هاته أن يطرح سؤالا عريضا حول ما إذا كان هذا الإصلاح سيعيد التوازن للفرنسيين عبر مصالحة مع ذواتهم ومع الآخرين، وعبر إصلاح جذري للخلل الذي يعطل قاطرة المؤسسة الاقتصادية والسياسية الفرنسية، في ظل الارتفاع المهول للأسعار وتدني القدرة الشرائية. صحيح أن الطريق معبدة اليوم لليمين الحاكم لتمرير ما يرضاه ويبتغيه من إصلاحات ستثبت السنوات القليلة القادمة مدى تلاؤمها مع تطلعات الفرنسيين. فاليسار المتشدد ناقم ويرفض الانخراط في الشأن السياسي، واليسار الليبرالي منقسم ومتهافت على مناصب القيادة، والحزب الشيوعي يعيش سنواته الأخيرة، والخضر لا يتقدمون منذ ثلاثين سنة.. وكل الفرص مواتية أمام السيد ساركوزي ليستفرد بالسلطة على هواه مع مزيد من الأرقام القياسية التي لم يحققها أي ممن سبقوه في الحكم (أرقام قياسية في تدني الشعبية التي نزلت إلى 33 في المئة، وفي الطلاق والزواج تحت شعاع إعلامي كثيف، وفي حب التمظهر والتباهي بحياته الخاصة، وفي التطاول على صلاحيات المجلس الدستوري، في التلاسن مع بعض المواطنين ومخاطبتهم بمفردات شديدة العامية، وفي شعلة العشق التي شرع في إطفائها تدريجيا مع حليفته التقليدية إفريقيا بسبب تصريحاته الناقمة على الإنسان الإفريقي، حتى أن الكثيرين يخشون اليوم أن تكون الدبلوماسية الفرنسية بصدد فقدان أهم معاقلها السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية، وأيضا في عدد القوانين التي تبنتها الغرفتان (الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ)، وأهمها قوانين الهجرة وعددها أربعة في أربع سنوات، ثلاثة منها وضعتها تحت قبعة وزير الداخلية والرابع وهو الأكثر استخفافا بالكرامة البشرية والأشد إهانة واستهتارا بأبناء الجالية المغاربية جاء بعد توليه الرئاسة. غريب كيف أن السيد ساركوزي يلجأ كلما تدنت شعبيته إلى الاحتماء بالهجرة من زاوية أنها السبب الأول والرئيسي في كل المشاكل السياسية والاقتصادية والأمنية التي تعرفها فرنسا، بدءا من القدرة الشرائية إلى البطالة والعنف والانحراف، وغير ذلك من المبررات التي يعتبرها ناجعة لكسب التأييد الشعبي اللازم لسياسته. فقد سطا على موضوع الهجرة خلال أحداث الضواحي في نونبر الماضي بعد أن تدنت شعبيته بسبب التداعيات السلبية التي خلفتها حياة البذخ التي يوفرها له بعض أصدقائه مقابل امتيازات غير معلنة. وقبل ذلك جعل من الهجرة أحد المحاور الرئيسة لمغازلة اليمين المتطرف الذي لم يتردد في منحه الأصوات اللازمة للفوز بالرئاسة. واليوم، وبمجرد توليه رئاسة الاتحاد الأوربي، عرض على أعضائه مشروعا مجحفا في حق المهاجرين سيتبنونه بالتأكيد بعد أيام قليلة من نهاية عطلته الصيفية. ولا بد هنا من القول للسيد الرئيس إننا معا مهاجران، والفرق بيني وبينه أن سمرة لوني تضعني عند بعض العنصريين السفهاء في خانة «البشر الدونيين»، وضمن هذه الخانة يتعذر علي استقدام والدتي لأنها لا تجيد لغة موليير كما اشترطت في قانونك الجديد.. ولست أدري أي موقف كان سيتخذه أبواه الهنغاريان لو أن واحدا من أسلافه الرؤساء اشترط عليهما تصريف الأفعال الفرنسية قبل المجيء إلى فرنسا. كان سيظل في بلده إذن، هنغاري الهوية والجنسية والانتماء، ولن يكون في حاجة إلى إثبات القرابة العائلية من خلال الفحوصات الوراثية التي قننها، علما أن إلزاميتها تقتصر حتى الآن على القضايا الإجرامية الكبرى.. لقد وضع نصوصا تحرم الآباء والأطفال من العيش في كنف أسرة واحدة ومتماسكة، وأعطى تعليمات لوزيره في الهجرة والهوية الوطنية بريس أورتفو، بتسريع وتيرة ترحيل المهاجرين غير الشرعيين التي انتقلت من 25 ألف سنة 2007 إلى 26 ألف في 2008 ثم 28 ألف في أفق 2009، وحدد بالتدقيق الكوطات الخاصة بكل عمالة وكأن الأمر يتعلق بقطعان من الخرفان كل منه مبصوم بوشمة العمالة المعنية حتى يسهل التمييز بينهم. الترحيل القسري هو إذلال قبل أن يكون نكبة.. هو اغتصاب للشرف وتدنيس للكرامة البشرية سيما إذا كان مقرونا بفصل الأبناء عن آبائهم وعزل الأزواج عن زوجاتهم. الترحيل كما تمارسه الأجهزة الأمنية الفرنسية بممارستها القهرية وأسلوبها السلطوي العنيف، هو إهانة لفرنسا ولقيمها المثلى قبل أن يكون إهانة للمهجرين. فهلا سأل وزيره في الهجرة إن كان جاهلا بعمليات التصيد التي يقوم بها البوليس أمام المدارس والإعداديات لاستنطاق التلاميذ الأبرياء عن أوضاع آبائهم واقتيادهم بعد ذلك إلى مقر سكناهم لاعتقالهم تمهيدا لترحيل الجميع أطفالا وآباء إلى موطنهم الأصلي في أجواء من التنكيل والرعب. المجتمع الفرنسي لم يعد يتحمل منه الرئيس مثل هذا السلوك الهمجي في حق أشخاص ذنبهم أنهم فروا من التهميش والبطالة والفساد المتأصل في أوطانهم.. ولائحة الممارسات الشنيعة أطول من أن تستوعبها هذه السطور.. 20 يناير 2008 : سناء (تسع سنوات) تقضي 24 ساعة لوحدها مرعوبة في البيت بعد أن اقتيد والدها من دون وثائق الإقامة إلى مركز الشرطة في الدائرة العاشرة.. 8 فبراير: عصمان (أربع سنوات ونصف) يقضي ثلاثة أيام وحده في البيت بينما والده في المركز الاعتقالي فانسين، ووالدته بقسم الولادة. 14 مارس : الكامرونيتان سيسيل (ست سنوات) وشقيقتها سيلفي (خمس سنوات) تنتظران لمدة أسبوع والديهما المعتقلان بمركز الشرطة بالدائرة 20 تمهيدا لترحيلهما في ظروف مخجلة. وفي كل مرة كانت الشرطة على علم بأن الأطفال هم وحدهم في البيت تحت رحمة العناية التي يتلقونها من بعض الجيران أو الجمعيات المهتمة بحقوق الأطفال. 25 مارس : مراد، مغربي (19 سنة) يرتمي من الطابق الرابع بأحد أحياء مدينة بوردو تجنبا لقبضة الشرطة التي لاحقته بقلب العمارة. قاوم أسبوعا إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة بالمستشفي في غياب أي من ذويه وأصدقائه. نفس المصير لقيته الصينية شونلان زهانغ التي ارتمت من الطابق الثالث بحي كريمي بالدائرة 19 ولقيت حتفها على الفور. أمثلة بالمئات جسدت ولا تزال أقسى حالات الإهانة في بلد يتحسر على إسبانيا لأنها أقدمت في خطوة خجولة على تسوية بعض ملفات الهجرة السرية.. بلد يتباكى مسئولوه على إيطاليا لأنها لا تتعامل، على حد قول السيد الرئيس، بما يلزم من قسوة وصرامة مع الهجرة السرية. بلد ألقى بكل ثقله لجعل الاتحاد الأوربي يفرض على المهاجرين السريين حالة حصار، ويتبنى لتجسيد ذلك عقوبة حبسية نافذة لمدة 18 شهرا في حق كل من وطأت قدماه التراب الأوربي وقاوم العودة إلى بلده الأصلي. إن سياسة الهجرة التي رسم اليوم معالمها بصفته الرئيس الحالي للاتحاد الأوربي والمتمثلة في رفض كل أشكال التسويات، واعتقال وطرد القاصرين والمسنين، وتشديد الرقابة ومعها توخي الصرامة والقسوة مع من يسميهم بالمتعنتين، لن تزيد سوى في الإضرار بسمعة فرنسا التي فقدت في عهده الكثير من إشعاعها. وأستحضر هنا وعوده العلانية للسيد جاك أتالي بتطبيق كل ما ورد في تقريره حول تحرير النمو الاقتصادي الذي أعده بطلب منه مع لجنة مكونة من أربعين خبيرا. والتقرير الوارد في 200 صفحة بقدر ما ألح على وجوب اللجوء إلى اليد العاملة الأجنبية باعتبار أنه في أفق 2015 سيتم توفير أكثر من 750 ألف منصب شغل في السنة، فقد أكد بأن الهجرة ستكون مصدر ثروة باعتبارها عنصر إخصاب وعاملا أساسيا للتنمية البشرية. ولا أعتقد أن السيد الرئيس وهو يسعد بعطلته الصيفية مع عقيلته المهاجرة الإيطالية كارلا بروني التي خلفت طليقته المهاجرة الإسبانية سيسيليا، أن يبني الاتحاد الأوربي غداة انتهاء عطلته، قوانين مجحفة في حق المهاجرين سيضيف رصيدا يذكر لهجرته التمييزية التي يحرص على تلطيفها بنعتها بالهجرة الانتقائية، والدهر كفيل بأن يكشف عن الأسرار البغيضة والأماني السعيدة.