بعد سلسلة ناجحة من الكتب النظرية الرصينة في النقد الأدبي والسيميائيات، وما تلاها وتعالق معها أيضاً، من تآليف أكثر إمتاعاً ومؤانسة في الإبداع الروائي، يواصل الكاتب الايطالي الكبير أمبيرتو إيكو (= سنة 1932)، اليوم، احتلال المشهد الإعلامي العالمي، بعد إصداره لكتابين مدهشين: الأول في نظرية الترجمة، بعنوان: « قول نفس الشيء، تقريبا Dire presque la même chose»(1)؛ بينما ينتمي الثاني لتاريخ التمثلات الذهنية والأفكار، وهو بعنوان:» تاريخ الدمامة Histoire de la laideur»(2)، وقد جاء مباشرة بعد النجاح الكبير، الذي حققه كتاب: «تاريخ الجمال Histoire de la beauté «(2004). ينطلق أمبيرتو إيكو في تصوره النظري والتطبيقي للترجمة، من كون أن اللغات جميعها غير محكومة بمبدإ الترادف في علاقة بعضها ببعض، ومن ثمة تؤول كل ترجمة حَرفية، في بُعدها السطري اللاهث وراء إيجاد مقابل وفي، لألفاظ هذه اللغة في ضيافة أخرى، الى نتيجة واحدة هي الفشل الذريع. لذا، يقترح أمبيرتو إيكو إستراتيجية أخرى، استقاها من خبرته كمترجم أولاً، بعد أن نقل عن اللغة الفرنسية بعض مؤلفات كل من رايمون كونو Raymond Queneau، وجيرار دو نيرفال Gérard de Nerval؛ ومثلما استمدها من حصيلة عمله السابق، ضمن دار النشر الإيطالية بومبياني Bompiani ، حيث كان يراجع ترجمات الآخرين؛ واقتنع بها من خلال تعاونه مع مترجمي نصوصه الروائية على وجه الخصوص، من الايطالية الى بقية اللغات الأوربية الأخرى. إن خلاصة إستراتيجية إيكو في الترجمة، هي العمل بمبدإ ا»لتفاوض»، بمعنى قول نفس الشيء تقريباً في لغة أخرى، حتى ولو اقتضى ذلك «خيانة» و»عدم وفاء» المترجم للنص الأصلي. أما في كتاب: «تاريخ الدمامة»، فيراهن أمبيرتو إيكو على الإبحار في لجة التاريخ الممتد من العهد الإغريقي، مروراً بالعصر الروماني، وعبورا للعصر الوسيط والحديث، الى الوصول لمرا فيء العصر الراهن؛ بغيةَ الحفر في طبقات التاريخ، بحثاً عن التمثلات التي قادت الناس، لتصور فكرة الدمامة والقبح. إن «تاريخ الدمامة» سَفرٌ/سِفرٌ غير نظري بشكل خالص، يتحرك فيه الكاتب باحثاً عن جميع التمثلات، التي غدت المتخيل بالرؤى والتصورات المرتبطة بالدمامة، ، وما نجم عنها من حكم أخلاقي، ومن تمثيل أدبي وفني للشيء الدميم والقبيح، سواء داخل النص المكتوب، أو عبر الرسم، أو النحت؛ في أفق تبيين أن الدمامة مثلها مثل الجمال بالضبط، شيء نسبي وقابل للتبدل والتغير، من ثقافة الى أخرى، ومن عصر الى آخر. وبمناسبة صدور الترجمة الفرنسية لهذين الكتابين الرائعين، قامت المجلة الأسبوعية الفرنسية: لوفيغارو le figaro، بإعداد حوار شيق مع هذا العلامة الألمعي الفذ: أمبيرتو إيكو، تحدث فيه الرجل عن تصوره العام للترجمة، وعن رهانه من وراء تأليف «تاريخ الدمامة»؛ كما حكى فيه بخفة وحكمة كبيرة، عن بعض ما يميز عصرنا الحالي. ولأن الإنصات لحديث أمبيرتو، كان دائما وما يزال، بمثابة إنصات لدرس رصين، لا يخلو مطلقاً من فائدة ومن روح النكتة، فإنني أقترح على القارئ تعريباً لهذا الحوار، الصادر نهاية السنة الفارطة، تعميماً ونشر للفائدة (م). جان مارك باريزيس تقولون في كتابكم الصادر مؤخراً، بأن على المترجم أن يعرف كيف «يُفاوض»، وهو يترجم... فما المقصود بذلك؟ من المستحيل فعلاً على المترجم، أن ينجز ترجمة ضافية، من لغة الى أخرى، بحكم غياب أي ترادف دقيق وحقيقي بين اللغات. إن ما ينبغي أن تراهن عليه كل ترجمة، مثلما يوحي بذلك عنوان كتابي: « قول نفس الشيء، تقريبا «، هو بالتحديد عملية التفاوض، أي بلوغ هذا الاقتراب المومأ إليها في العنوان أعلاه، من خلال عبارة «تقريباً». أضف إلى ذلك، أن هذا اللفظ الأخير ليس هو اللفظ الإشكالي الوحيد في مشروع الترجمة. إذ ما «الشيء» المنذور للترجمة، حقاً؟ أهو سلسلة من الكلمات المرصوفة، أم شيء آخر أعمق، وأبعد غوراً؟ لنفترض مثلاً بأن أحد الكُتاب ودّ تجسيد بلادة شخصية من شخوصه، بالتنصيص على لعبها اللغوي. فهل ينبغي أن تتم ترجمة هذا اللعب اللفظي حرفياً، من والى لغة أخرى، مع العلم أن ذلك، على العموم، غير قابل للترجمة؟ في اعتقادي أنا، لا ينبغي إنجاز ذلك كذلك، إذ ما دام أن «الشيء» الذي ينبغي ترجمته هو غباء الشخصية، فإن المترجم ملزم حينئذ، بإيجاد لعب لغوي شبيه بما هو يتضمنه النص الأصلي. قد لا يبدو المترجم في الظاهر، مخلصاً ولا وفياً للنص، وهو يتولى إنجاز هذه المهمة بتلك الكيفية، إلا أنه وفي ومخلص مع ذلك في العمق، لأن «الشيء» المترجم لم يكن هو مجرد التلاعب اللفظي، وإنما هو ما يوحي للقارئ بغباء الشخصية، من خلال ذلك الاستعمال الخاص للغة. لكن ألا ترون بأن كلمة «التفاوض»، تنتمي الى السجل اللغوي السياسي... لقد غدا مفهوم «التفاوض» من بين المفاهيم المركزية في علم الدلالة la sémantique، مثلما هو كذلك في السياسة. إننا نتفاوض دائماً، ما دام ليس هناك وجود لحقيقة مطلقة. وإذا حصل أن تفاوضنا أكثر فأكثر في حياتنا العامة، فإن ذلك هو أعزّ ما يُطلب. هل بمقدوركم أن توضحوا هذه الفكرة، بما فيه الكفاية؟ حينما نتفاوض، نتجنب حتماً شنّ الحروب. زد على ذلك، أن التفاوض قد اعتبر أهم ما ميّز فترة الحرب الباردة، في القرن العشرين. لقد كانت الكتلتان، الشرقية والغربية، تشتغلان إما بالكيفية التالية: «أنا لن أطأ هذه الرقعة الأرضية، وبالمثل يتحتم عليك أنت أيضاً، سحب الجنود من هنا»، أو بالشاكلة التالية: «إني سأحدّ من صنع الأسلحة الذرية، مما يُحتم عليك أنت أيضاً، إيقاف تصنيع الأسلحة». لقد كان ذلك نوعاً من التفاوض المضمر، والصموت. أما اليوم، فإننا صرنا نفتقد الى فن الجنوح للمفاوضات. لقد عدنا الى سياسة المجابهة والمواجهة la politique des canonnières، الى سياسة الصّدام. في سنة 1972، قارنتم عصرنا الحالي بالعصور الوسطى. ترى ما الذي تبقى من تلك المقارنة، اليوم؟ صدور مؤلف فكري لأحد المهندسين، يعلن فيه عن تقهقر حضارتنا الصناعية الى الخلف. حينئذ، قلت بأن العصر الوسيط ما كان غير مرحلة انتقالية، وأننا نعيش نحن أيضاً، في خضم مرحلة موسومة هي الأخرى، بكونها انتقالية... ومع ذلك، أستطيع أن أبرهن لكم، إن شئتم (ضحك)، بأن عصرنا شبيه بالعصر الوسيط!... إني لا أتنكر بجدّ، لما سبق لي أن كتبته بهذا الصدد، إلا أن ذلك لم يعد مهماً. إن عصرنا الذي تتخلّله هجرات كبرى، هو ربما أشبه بعصر اندحار الإمبراطورية الرومانية، حوالي سنة 500م، منه بأي عصر آخر. إن انهيار الإمبراطوريات العاتية قد غدا واقعة متوالية، بحيث ما أن تهاوت الإمبراطورية السوفيتية، حتى انتاب نظيرتها الأمريكية علامات الضعف والوهن. وبالإضافة الى تلك المقارنة، يمكننا أن نوازي أيضاً، بين زمن البرابرة مثلما عاشه القديس أوغسطين، وبين وقائع زماننا الحالي، بمقارنة محرقة روما، بما حدث لبرجي التجارة العالمية Twins Towers في نيويورك، من عمليات إضرام نيران وتخريب. وبماذا يتميز عصرنا إذن، عن غيره من العصور؟ أول ما يتبادر الى ذهني للوهلة الأولى، كجواب عن سؤالكم، هو أن عصرنا يتميز بالسرعة، بحيث يمكن لي في ظرف ساعة واحدة مثلاً، أن أنتقل الى مدينة ميلانو. وبالموازاة مع ظاهرة السرعة، نشأت خصيصة التسريع. فقد دامت تنورة القرينولين crinoline مثلاً، مدة قرن كامل، بينما لم تستمر تقليعة المينيجيب minijupe، سوى عشر سنوات. أما ريشة الإوز التي كانت تستعمل في الكتابة، فقد دامت قروناً سحيقة، الى أن حلت محلها آلة الرقن بعد ذلك، فاستمرت هي الأخرى في الوجود، ما يقارب مائة وخمسين سنة، بينما صرت أنا الآن مضطراً في كل وقت، الى تغيير حاسوبي الشخصي، بفعل التغيّر المستمر في البرامج المعلوماتية... بالإضافة الى ذلك، هناك خاصية أخرى تميز عصرنا عن غيره من العصور، وتقع على النقيض من ظاهرة السرعة والتسريع، وأقصد بذلك خاصية إطالة أمد الحياة. فقد لا يدرك الإنسان الذي يكون عاش أربعين سنة مثلاً، تحت حكم نابليون بونابارت، إلا حدثاً تاريخياً واحداً في حياته كلها، وهو حدث الثورة الفرنسية؛ بينما صار بمقدورنا اليوم، أن نشهد أطوار الحرب العالمية الثانية، وانهيار الاتحاد السوفيتي، وسقوط برجي التجارة العالمية. إننا لنعيش حياة مديدة، غير أنها أشدّ شطحاً وأكثر جنوناً، بحيث ينبغي على المرء دوماً أن يواجه أثناءها، مجموعة من الأحداث المتوالية، بكيفية غير قابلة للاحتمال. إن الناس لتصمد أمام ذلك بالفعل، غير أن الأمر يستلزم منها، تماسكاً عصبياً لا يُصدّق. أن تترجم معناه، أن تتقن لغتك واللغةَ التي تنقل عنها. إلا أننا اليوم، عادة ما نجد بأن مترجمين كثيرين، لا يتقنون لغتهم الخاصة... لقد حصل هذا في السابق أيضاً، كما أني لا أرى فيه على وجه الخصوص، أية خطورة. فمن جهة، لا يتكلم الناس غير لغة مختزلة على الدوام، إلا أن التلفزيون غالباً ما يسمح لكل مواطن من جهة أخرى، بامتلاك حصيلة لا بأس بها نسبياً، من الرصيد المعجمي. يستعمل سائقي الخاص في إيطاليا مثلاً، بعض المفردات والتعابير، التي تعلمها مباشرة من التلفزيون، وهي ما لم يكن يتسنى لوالده، أن يستعملها. إن في وسائطنا التواصلية، لنوعاً من التعويض. ألا تتأثرون باعتباركم كاتباً، حين ترون أن الناس تبحث عن الكلمات والتعابير في التلفزيون، بدل أن تبحث عنها في بطون الكتب؟ كثيراً ما نسمع بأن الناس لا تقرأ، غير أن القراء في الواقع، أكثر عدداً مما كان عليه الأمر، منذ قرن من الآن. ففي المكتبة الفرنسية الشهيرة باسم فناك Fnac مثلاً، يمكن لنا أن نحصي مئات القراء، ممن يتصفحون الكتب. لقد كانت المكتبات في مرحلة شبابي، أمكنة مقصورة على بعض الفئات فقط، بحيث ما أن يتجرأ أي فتى على الدخول الى حرماتها، حتى يقف أحدهم على رأسه مباشرة، وهو يسأل في شبه ارتياب: «ماذا ترغب؟». لقد كان هذا الفعل، معيقاً لكل شيء. هذا صحيح، إلا أن الكتاب، ولا شيء غيره، كان هو الأداة الوحيدة القمينة بتغذية المتخيل. أما اليوم، فإن الصورة تحتل كل مكان... لقد كانت الصورة موجودة، دائماً. ثم ما معنى الكاتدرائية القوطية أصلاً، إن لم تكن تعد بمثابة شاشة تلفزيونية، توفر ترسانة من الصور لمجموعة من الفقراء، الذين لا يعرفون القراءة؟! مادام كتابكم: «تاريخ الدمامة»، يتسم بكونه ثيماتيكياً أكثر مما هو تصنيف كرونولوجي؛ فاسمحوا لي بهذا السؤال: هل أنتج عصرنا الحالي، نوعاً من الدمامة خاصاً به؟ لقد تجرأ الفنانون المحسوبون على تيارات الطليعة، خلال القرن العشرين وحتى قبله، على تمرير عناصر التحريض والاستفزاز، عن طريق الفن. ذلك أننا نشهد اليوم ضمن فاعلية الفن الملتزم، نوعاً من عملية إعادة التثمين والتقدير للدمامة والقبح، لا تخلو من طابع سجالي. ففي المدرسة التعبيرية الألمانية للرسم مثلاً، يُقدّم بعض الأشخاص الدميمين، في أفق الاحتجاج على المجتمع البورجوازي، بينما يتم إنجاز ذلك طبعاً، ضمن لوحات فنية جميلة، يكون هدفها هو تشخيص القبح والدمامة. لكن مع توالي الوقت، بدأت تبرز ظاهرة أخرى، تتجلى في صعوبة الفصل بين ما ينتمي للجمال، وبين ما يمت بصلة للدمامة. لقد صار بمقدور الشباب اليوم، أن يعجبوا بجورج كلوني George Clooney، (عارضة الأزياء الزنجية الأصل)، وفي نفس الآن بالممثلة الشقراء نيكول كيدمان Nicole Kidman (التي كان من الممكن، لو عاشت في عصر النهضة، أن يُجسّد جمالها في لوحة فنية)، وبمغني الروك ماريلين مانسون Marilyn Manson، وعضو فرقة فرقة عبدة الشيطان Satanique، والذي أرى أنا شخصياً أن منظره فظيع! ضمن هذا المنحى الخاص، أشير الى أني في الصور التوضيحية للكتاب المشار إليه آنفاً، قابلت بين صورتين: أولاهما هي لوحة الرسام جيروم بوش Jérôme Bosch، التي يشخّص فيها بعض أشكال التعذيب العنيفة، التي مورست على السيد المسيح، بغرس بعض الخواتم في جنبات وجهه مثلاً، قصد تشويهه وجعله يبدو قبيح المنظر، وبين صورة أحد المنتمين لطائفة البيونك punk، الذي يعرض فيها وجهه بكل افتخار واعتزاز، وقد انغرس كله بمسامير piercings... إن هذا التساؤل: «كيف يرى الشباب ماريلين مانسون والمسامير اللولبية؟»، لم يعد سؤالاً في صميم البحث عن الدمامة والجمال. لقد غدا التمييز بين الموضوعين السابقين من طبيعة إشكالية. إننا نعيش اليوم، ضمن نطاق المطابقة بين الجميل والدميم. وهل تحيل هذه المطابقة، أخلاقياً، على حالة من عدم التمييز، بين الخير والشر؟ إن هذا السؤال لمن أصعب الأسئلة، التي يتصدى الكتاب لطرحها. إن المماثلة بين الجمال/الخير والدمامة/الشر، هي تقريباً مماثلة كونية. ففي العصر الكلاسيكي الأول، سبق أن دُشّنت حملات تطهير، ذهب ضحيتها العديد من الساحرات، اللواتي تمّ تشخيصهم فنياً دميمات، بحكم أنهن اعتبرن فاسدات أخلاقياً. وفي الوقت ذاته، يمكن للملاحظ أن يعاين بأن هذا العصر، قد اعتبر سقراط دميماً، إلا أنه حظي بتقدير خاص، لأنه عُدّ من أصحاب الفضيلة. وفيما بعد، سيحكي لنا الاتجاه الرومانسي قصص بعض الناس، الموصوفين بقبح الخِلقة، وبشاعة المنظر، إلا أن قلوبهم كريمة وشهمة: أنظروا مثلاً للوحة المعروفة باسم الرجل الضاحك L?Homme qui rit، أو عودوا لشخصية كازيمودو Quasimodo لفيكتور هيغو، حتى لا نستشهد إلا بهذا الكاتب وحده. أما في أيامنا هذه، فما تزال المماثلة بين الدمامة والشرّ، سارية الحضور. إن النزعة العنصرية لتُدار من خلال تلك المعادلة بالضبط، بحيث يُنظر الى الغريب دائماً، على أساس أنه دميم. بل حتى في التمثيل الفني، الذي يعود للعهدين الإغريقي والروماني، ما كان يُنظر للبرابرة الأغراب، إلا باعتبارهم كائنات قبيحة المنظر. غير أننا صرنا نشهد اليوم، تشكّل نهاية إيجابية لهذا التماهي بين الدميم ولشرير، ما دام هناك احتفاء إعلامي بالشر. إن بعض مغنيي الروك يقدمون أنفسهم، على أساس أنهم نماذج إيجابية، بحكم مديحهم للمخدرات وللنزعة الشيطانية. إن هذه ظاهرة جديدة، ومثيرة للانتباه في نفس الوقت، بحيث إننا إذا ما اعتبرنا بأن الاحتفاء بالشر كان شيئاً موجوداً على الدوام (أحيلكم بهذه المناسبة على جيل دوريس Gilles de Rais، وعلى ما سمي بقداس العتمة messes noires،،، الخ )، فإن ذلك الاحتفاء كان يتم الى وقت قريب، في الأقبية والدهاليز. أما اليوم، فإنه صار يعلن عن نفسه عبر شاشة التلفزيون، وغدا بمقدور الأطفال أن يتابعوه، وهم يتناولون وجبات العشاء. فهل ذلك ناجم عن ردة فعل إزاء الرداءة العامة في المجتمع، أم هو بالأحرى داع من دواعي تلك الرداءة؟ وهل الاحتفاء بالدمامة والقبح عامل في إفراز الحروب والمذابح، أم أن هذه الأخيرة هي التي تحفز الأجيال الفتية والشابة، على الاحتفاء بالقبح المنحرف؟ أنا لا أعرف شيئاً عن ذلك، ولا أود أن أؤيد لا هذا الرأي، ولا ذاك. على كل حال، أنا أشير فقط الى أن هناك ذوقاً عاماً، صار يمجّد النزوع للشر. هل يمكننا أن نقول إن الخير غدا مستتراً، بينما أصبح الشر علنياً، ويحظى بالشعبية؟ أجل، بحيث إن ما يحدث الآن، يقع على النقيض مما جرى في السابق. لكن، ربما عُدَّ كِبر سني عاملاً حاسماً في تأويلي المتشائم هذا؛ وربما وَجد الشبابُ في كل ما يجري، مجرد أمر عادي وطبيعي. على كل حال، أنا لا أرغب شخصياً، في أن أعيش أطوار مغامرة ما، مع فتاة شابة تتفسح في الشارع العمومي، بسُرّة مكشوفة للعيان، ومغروس بها خاتم. وإذا حصل أن عدّ أصدقاء الفتاة ذلك جذاباً وساحراً، فإني لن أتصدى لذوقهم بأي حكم مهما يكون. إن محاكمة أذواق الناس، ليس من شأني. أما إن أردتم أن أعلن عن موقفي من الإرهاب والحرب، فإنني لن أبخل عليكم بموقفي الأخلاقي منهما. أنا في النهاية، ما صغت نظرية للدمامة أبداً، وإنما أعددت لها تاريخاً، حتى أبيّن بأنها بالضبط، شيء قابل للتغير. ما الذي بمقدور الكتابة أن تغيره؟ إن الكتابة لا تغير حاضر الناس مطلقاً، وإنما هي تفعل فعلها في تغيير صورة المستقبل. عندما تقرؤون كتاباً معينا مثلاً، فإن هذا الكتاب قد يكون له تأثير عميق عليكم. وشيئاً فشيئاً، ستتغير طريقة تفكيركم، ومعها ستتغير شخصيتكم، وسيصبح سلوككم مختلفاً فيما بعد. إن الأفكار لا تغير حاضر الناس بسرعة، أبداً. ومن ثمة، فإننا حين نطلب من المثقفين، حلّ معضلات العالم في الحاضر، فإننا نقع في الخطأ. هل تهتمون بالسياسة الفرنسية؟ بالتأكيد، أنا مهتم بها. لأن فرنسا هي من جهة، بلدي الثاني. ولأن ما يحدث في فرنسا من جهة أخرى، يؤثر لا محالة في الشأن العام الايطالي، والعكس كان دائماً صحيحاً، منذ قرون طويلة. إننا نلاحظ جميعاً الآن، بأن فرنسا تعيش أطوار سياسة جديدة. ولدي الانطباع بأن الرئيس نيكولا ساركوزي Nicolas Sarkozy بصدد تحريك الأوراق، إلا أني لا أعرف بالضبط، ما إن كان يلعب لعبة البوكرpoker أو لعبة الهويست whist. ٭ هوامش: (1) أمبيرتو إيكو: «قول نفس الشيء، تقريباً»، ترجمته من الايطالية الى اللغة الفرنسية: ميريام بوزاهير Myriem Bouzaher، منشورات غراسي Grasset، 2007. (2) أمبيرتو إيكو: «تاريخ الدمامة»، ترجمته من اللغة من الايطالية الى اللغة الفرنسية: ميريام بوزاهير Myriem Bouzaher، ومن اللغة اللاتينية والإغريقية فرانسوا روسو François Rosso، منشورات فلاماريون Flammarion.