يطرح هذا الكتاب عدة قضايا وإشكالات متراصة، يشد بعضها رقاب بعض. وسواء تعلق الأمر بما يضمه الكتاب من الداخل، في داخله، على مرار فصوله، أو لنقل حلقاته، لأنه بمثابة سلسلة أو «عقد فريد»، أو ما يمكن أن يثار من خارجه، حوله، بموازاته، بعد قراءة متعددة وليس القراءة الواحدة والعابرة، من قضايا وإشكالات أخرى تهمنا، حسب اهتماماتنا النقدية والإبداعية والثقافية والمعرفية والجمالية، متفرقة أو / مجتمعة، بصدد الأدب أولا، ثم بصدد الكتابة والتخيل والمتخيل بعد ذلك، وكذلك الأسئلة الفرعية المترتبة عن كل هذا جزئيا وكليا، فإن الأجدر والأفضل الذي يمكننا الانطلاق منه والعودة إليه هو القيمة النوعية سواء لأصل الكتاب أصلا أو للترجمة التي أنجزها الباحث محمد مخطاري نظرا لما يمثله كتاب ايطالو كالڤينو على مستوى الوعي بالكتابة من جهة، ولما تمثله ترجمته من لحظة أساس بالنسبة الى «مجتمع الأدب» في المغرب، داخل الجامعة وخارجها معا. شخصيا: وجدتُ نفسي، منذ اللحظة التي استلمته فيها وبدأت قراءته، فصلا بعد فصل، وجدت نفسي مهددا بحيرة مطلقة هي حيرة نسبه أو جنيا لوجيته: هل أتعامل معه باعتباره «سيرة أدبية»؟ أم باعتباره «وصية»؟ أم شهادة؟ إن مقاطع وفقرات كثيرة توحي بكل هذا. حين نقرأ في فصل السرعة (ص 72/51): «إذا كنتُ، في فترة من فترات نشاطي الأدبي، قد انجذبت إلى الحكايات الشعبية، وحكايات الجن، فذلك راجع أساسا، ليس لإخلاصي لتقاليد إثنية (...) وليس لحنيني للقراءات التي قمت بها أيام الطفولة (...)، بل لاهتمامي البالغ بالأسلوب وبالبنية وبالاقتصاد وبالإيقاع وبالمنطق الأساسي لهذه الحكايات» (ص55)، فإننا نميل إلى افتراض وازع السيرة، وحين نقرأ في نفس الفصل: «بما أنني اقترحتُ في كل محاضرة من هذه المحاضرات أن أوصي للألفية المقبلة بقيمة عزيزة على نفسي، فإن القيمة التي أوصي بها اليوم هي كالتالي: في عصر انتصرت فيه وسائل إعلام أخرى أكثر سرعة وذات مجال واسع للحركة والتي تهدد بتسطيح وتحويل أي تواصل الى قشرة متشابهة ومنسجمة، فإن وظيفة الأدب إذن هي التواصل بين ما هو مختلف. بما أنه مختلف، دون أن يُثلم اختلافه، بل يرفع من شأنه (ص63)، حين نقرأ مثل هذا المقطع وغيره نراهن أيضا على سمة «الوصية»، وحين نقرأ في فصل «الرؤية» (ص112/95)، لكي أتمكن من الاجابة ينبغي علي بطريقة ما أن أتصفح تجربتي ككاتب، خصوصا تجربة كتابة السرد العجائبي (ص102)، فإننا لا نخرج عن دائرة الشهادة بالمعنى الذي نتصوره في النقد الأدبي: الشهادة خطاب مواز أو مناصص للخطاب النقدي، ينهل من الكتابة الإبداعية ويصب في النقد وكذلك الميتا نقد. هذا بعد أول، أما البعد الثاني في كتاب إيطالو كالڤينو فيرتبط بأفق تمتزج فيه السمات التي ذكرتها وتجعلها متحايثة، وذلك حين نلح على البعد النظري أو على الرأي النقدي، ونخرج قليلا من دوائر «السيرة الأدبية» و«الوصية» و«الشهادة»، وفي هذا المنحى يتحول هذا الكتاب إلى كتاب آخر، يتحول ليصبح ضربا من ضروب الكتب التي تحركت في فضاء التنظير للكتابة والأمثلة كثيرة (نماذج فقط): 1 «هناك بعض الابتكارات الأدبية التي تفرض نفسها على الذاكرة بالنظر لقوة إيحاءاتها اللفظية أكثر من الكلمات نفسها. يحتل المشهد الذي يظهر فيه دون كيشوط وهو يغرس رمحه في جناح طاحونة الهواء (...) يمكن القول بأن الكاتب لم يستخدم في هذا المشهد إلا القليل من إمكاناته، وبالرغم من ذلك يظل هذا المشهد من بين المشاهد الأكثر شهرة في أدب كل الأزمنة». (ص37 فصل الخفة). 2 «بقي خيط آخر، ذلك الذي بسطته منذ البداية، الأدب باعتباره وظيفة وجودية، البحث عن الخفة كرد فعل ضد ثقل الحياة. من الممكن أن لوكريتيوس، وأوڤيد معا انطلقا من هذه الحاجة: لوكريتيوس الذي كان يبحث أو ظن أنه يبحث عن اللاألمية الأبيقورية، أوڤيد الذي كان يبحث أو ظن أنه يبحث عن الانبعاث في حياة أخرى حسب فلسفة فيثاغورس» (ص47، نفسه). 3 «إن ما أود قوله، انطلاقا مما سبق، هو أن السرعة ليست في حد ذاتها ذات قيمة: يمكن أن يكون الزمن السردي مبطئا أو دائريا أو ساكنا. في جميع الأحوال فإن القصة عبارة عن عملية تقوم على الزمن» (ص 55/54، فصل السرعة). 4 إن سرعة الأسلوب والفكر تعني بالخصوص الرشاقة والحركة والطلاقة، تتوافق كل هذه الخصائص مع كتابة مستعدة للاستطراد، للقفز من موضوع إلى آخر ولفقدان الخيط الرابط مئة مرة، والعثور عليه بعد مئة مرة (ص64، نفسه). 5 «بكل تأكيد، فإن الأدب ما كان له أن يوجد لو لم تكن لمجموعة من الناس ميولات إلى الانطواء الذاتي، اعدم الرضى عن العالم كما هو، إلى نسيان الذات لساعات وأيام مع تركيز النظر على سكون الكلمات الخرساء. بكل تأكيد فإن طبعي يطابق الخصائص التقليدية للفئة التي أنتمي إليها» (ص69، نفسه). 6 «يمكن أن نميز بين نوعين من العمليات التخييلية: الأولى تنطلق من الكلمة لتصل إلى الصورة البصرية، والثانية تنطلق من الصورة البصرية لتصل إلى التعبير اللفظي. تحدث العملية الأولى عادة أثناء القراءة: نقرأ مثلا مشهدا من مشاهد الرواية أو استطلاعا عن حدث في صحيفة، وبحسب درجة فعالية النص، فإننا ندفع لرؤية المشهد كما لو أنه يحدث أمام أعيننا أو على الأقل شظايا أو جزئيات المشهد التي تنبعث مما هو غير متميز.» (ص97، فصل الرؤية). 7 إن الكتاب المعاصرين لنا (باستثناء بعض الحالات النادرة ذات الموهبة النبوية) يقيمون علاقات مع محطة إرسال أرضية، مثل اللاوعي الفردي أو الجماعي، ومثل الزمن الذي عُثر عليه في الأحاسيس المنبعثة من جديد من الزمن الضائع، والتجليات البصرية للآلهة أو تركيزات الوجود في نقطة واحدة منفردة أو في لحظة.» (ص100، فصل الرؤية). 8 لقد حاول بلزاك، الكاتب الغرائبي، أن يلتقط روح العالم في شكل واحد من بين الأشكال اللامحدودة التي يمكن تصورها. ولكن للقيام بذلك، فقد وجب عليه أن يشحن الكلمة المكتوبة بكثافة تجعل منها، في نهاية المطاف، لا تحيل على عالم آخر خارج عنها (...) عندما وصل بلزاك إلى هذه العتبة توقف وغير برنامجه. عوض الكتابة المكثفة فضل بلزاك الكتابة المسهبة. أما بلزاك الكاتب الواقعي فسيحاول أن يغطي بواسطة الكتابة الامتداد اللامحدود للمكان والزمان المكتظين بالتعدد والموجودات وبالقصص.» (ص111، نفسه). 9 «يستمر الأدب في الحفاظ على وظيفته فقط إذا ما استمر الشعراء والكتاب في اقتراح مشاريع لا يجرؤ أحد على تصورها (...) والتحدي الأكبر بالنسبة إلى الأدب يكمن في قدرته على نسج المعارف والشفرات المختلفة معا في رؤيا متعددة للعالم ومختلفة الأوجه» (ص121، فصل التعدد). عموما: الآراء النقدية كثيرة في كتاب إيطالو كالڤينو وتتخلل كل فصل من فصوله التي يضمها مما يسمح لنا بالحديث، بحديث ما، عن نظرية، عن نظرية ما، لدى الكاتب، نظرية تشكلها الشذرات التي يمكن ان نجمعها ونجمّعها ونلحم بينها لنتصور خطابه النقدي ونتصور أيضا ميتا خطابه النقدي، إذ يحفل الكتاب برصيد موسوعي كبير وواسع المصادر والمرجعيات والكتب والنصوص والأقوال والآراء، منذ الإغريق إلى الوقت الراهن، مرورا بالرومان والعصر الوسيط وعصر النهضة وعصر الأنوار والقرنين التاسع عشر والعشرين، في الشعر والنثر، في الفلسفة والدين وعلم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا، الرياضيات والهندسة والحساب، والموسيقى والمسرح والرسم والمعمار والسينما والصحافة والإشهار دون أن ننسى الخيمياء، إلى جانب الأدب من خلال الرواية والقصة والخرافة والحكاية الشعبية والأسطورية. يقود هذا البعد إلى بعد ثالث هو تكون الكتاب إذ خلف كل الطيات التي ذكرتها، جنيالوجيا التجنس إلى جانب التخلق النقدي، تكمن هوية الكتاب كما أراده صاحبه وكما أريد له أن يكون ممن أخرجوه من دائرة الصمت إلى دائرة الاستقبال أو القراءة أو التلقي: أتحدث هنا بالأساس عن باتريك جراياه الذي ساعد إيطالو كالڤينو على إعداد الكتاب باللغة الانجليزية وترجمة الشواهد الواردة فيه باللغات اللاتينية والفرنسية والإيطالية والإسبانية إلى الانجليزية (انظر: ست وصايا للألفية القادمة: محاضرات في الإبداع، تر: محمد الاسعد، سل: إبداعات عالمية، العدد: 321، دجنبر 1999، الكويت، ظهر الغلاف، وأتحدث عن زوجة إيطالو كالڤينو، ايستركالفينو، التي سمحت بنشره، وعن ناشره في إيطاليا سنة 1988، كما أتحدث عن محمد مخطاري، ليس فقط لأنه ترجم، بل لأنه جمع كل شيء تقريبا ليجعلنا ندور ونسبح ونسافر في مجرّة أو أرخبيل إيطالو كالڤينو بنوع من الرحابة انطلاقا من التمهيد (ص15/13)، ومن النص (ص132/22)، ومن ثبت المفردات والمصطلحات (ص138/133)، ومن ثبت الشخصيات الاسطورية (ص144/139)، ومن ثبت الاعلام (ص171/144)، ومن قائمة الاعمال الكاملة لكالڤينو (ص8). وهذا ما يجعلنا نفكر في التعدد النصي للكتاب حتى قبل أن نقرأ فصل التعدد (132/113): التعدد النصي الذي أعنيه تعدد شكلي في الظاهر، لكنه تعدد يتجاوز حدود الكتاب ليطرح سؤال الترجمة بالمعنى الثقافي الاشكالي الذي تتحول فيه مقولة «الترجمة خيانة» إلى إمكان مقولة تعوض عن غموضه كمقولة الترجمة وصال او الترجمة اتصال، وفي الحالتين معا الترجمة مراودة، مراودة النص والتقرب منه دون خداع. ألا نتحدث في الثقافة العربية، سالكين طريق ابن حزم، عن دُرج المحبة، أولها الاستحسان، ثم الاعجاب، ثم الألفة، ثم الكلف، ثم الشغف؟ أعتقد، في هذا السياق، أن الباحث محمد مخطاري، وهو يقربنا من عالم إيطالو كالڤينو في هذه الترجمة، قد انطلق من هذه المحبة، محبة كالڤينو، محبة الأدب الإيطالي الذي يدرسه ويبحث فيه، محبة الأدب ونظرية الأدب، ثم تلك الغواية المتوارية خلف شخصية كالڤينو التي تلوح، بعد القراءة الأولى، أكثر أسطورية، وهذا بعد رابع أضيفه إلى الأبعاد الثلاثة المذكورة سابقا، بعد يؤثثه بوكاتيشو، دانتي، دافنشي، ماكيفلي، مايكل أنجلو، موراثيا، كما يؤثثه فيسكونتي، پازوليني، دي سيكا، فليني، قبلهم بيرانديلو بعدهم داريوفو، ثم يقبل أومبيرتو ايكو بكل أبحاثه ودراساته وكتبه وهي تخترق الفضاء المعرفي المغربي راهنا، على أن أسطورية كالڤينو، في هذا السياق، لا تشيدها شخصيته وحدها بحكم مساراته منذ ولادته وحصوله على الإجازة في الآداب أو إقامته في باريس وإقدامه على مشروع كتابة لها نسغها الخاص، بل أيضا تؤثثها تلك المجازات الملتهبة المتوحشة التي تخترق لغة الكتابة التي يمارسها وهي تنتقل برحابة من سجل فكري إلى سواه، وهذا بعد خامس يضاف إلى سواه بصدد العلاقة بين اللغة وتشخيص المحسوس قبل الملموس، البصري قبل اللغوي إلى حد يمكن معه تبني فكرته التي يقول فيها: «إنني أفكر في بيداغوجيا ممكنة للخيال تعودنا على السيطرة على رؤيتنا الداخلية الخاصة دون خنقها من جهة ودون تركها تقع في توهم مبهم ووهن من جهة أخرى، بل السماح للصور بأن تتبلور في شكل محدد جدا، خالد، مكتف بذاته وجلي» (ص105، فصل الرؤية). القضايا والإشكالات كثيرة في هذا الكتاب، في هذا السِّفر السَّفر، ويمكن لكل قارئ مهم أن يختار ما يشاء منها ويلاحقه (ها)، خاصة حين يتعلق الأمر بالخلفية النظرية التي يستند إليها كالڤينو في كتابه هذا بنوع من الابتكار الخلاق في الصياغة الكاشفة عن الأفكار، من ذلك حديثه عن القصة: «عندما أتصور قصة ما، فإن أول ما يتبادر إلى ذهني هي صورة تبدو لي لسبب ما غنية بالدلالات، بالرغم من أنني لا أعرف كيف أصوغ هذه الدلالات بلغة خطابية أو مفهومية، وفي اللحظة التي تصبح فيها الصورة واضحة في ذهني بشكل كاف، فإنني أقوم بتطويرها إلى قصة، أو بشكل أفضل، فإن الصور ذاتها هي التي تطور إمكاناتها الضمنية (ص102، فصل الرؤية)، ومنه أيضا حديثه عن المتخيل باعتباره «الصور التي توفرها لنا الثقافة» (ص104، نفسه)، أو حديثه قبل ذلك عن السينما:« أما في السينما فإن الصورة التي نشاهدها على الشاشة مرت هي أيضا عبر نص مكتوب، ثم شاهدها المخرج ذهنيا، ثم أعيد تشكيلها في ماديتها على موقع التصوير، ليتم تثبيتها نهائيا في صور الشريط. الفيلم إذن هو نتيجة لمراحل متعاقبة، مادية وغير مادية، تتشكل خلالها الصور» (ص97، نفسه). وفي النهاية، في نهاية هذه البداية، بداية محاولة فهم كل ما سعيت الى طرحه، أشير إلى مسألة تنطبق على هذا الكتاب كما تنطبق على سواه، ربما في القديم والحديث، في كل ثقافة، ربما أيضا، وهي أن كتاب في الكتابة الأدبية، ستة مقترحات للألفية الثالثة، كتاب كتب، وهذا بعد سادس، بمعنى أنه يفكر في كتب، يستلهم كتبا، يغترف من كتب. وتدور في فلكه كتب، كتب تمتد من أفلاطون وأرسطو إلى بارت وإيكو، أما بالنسبة إلى الكتابة الأدبية فليحضر أشهر كتاب أوربا كما يطل وجه بورخيس من أمريكا اللاتينية ومن خلال ذكره يطل العرب عن طريق ذكر نص «الدنو من المعتصم» (ص67، فصل السرعة) بعد أن أشار جاليلي إلى الفرس العربي الذي يجري بسرعة أكبر من مئة من الخيول المتخصصة للبحر (ص61، نفسه) والإشارة إلى ألف ليلة وليلة التي تفتح آفاق العجائبي الشرقي للخيال الغربي» (ص44، فصل الخفة). كتاب كتب، نعم، لكنه يذكر أيضا بكتب تروج في ثقافتنا العربية، الكلاسيكية كرسالة عبد الحميد الكاتب الى الكتاب أو «صبح الأعشى في صناعة الإنشا» للقلقشندي، وكذلك في ثقافتنا المعاصرة مثل «صور المثقف» لإدوار سعيد أو «محاضرات الإسكندرية» لأدونيس، الكتب التي كانت في الأصل محاضرات مثلما هو كتاب كاليڤنو. هل هذا يعني أن جنيالوجيا الكتابة الكتب توجد في الصدفة؟ أغلبنا لا يقرأ بالصدفة، كما لا يمكن أن يكتب من يكتب بالصدفة، غير أن الصدفة تفعل فعلها في اكتشاف الكتب والكتاب والكتابة، الكتابة، نعم ولِمَ لا؟ لأننا ونحن نكتب ونحن نقرأ لا نعلم إلى أين تقودنا القراءة، وأيضا، حين نكتب، لا نعلم إلى أين ستفضي بنا الكتابة، لا نعلم إلى أين ستمضي بنا الكتابة، إنما ونحن نقرأ كتابا في الكتابة الأدبية لإيطالو كالڤينو، نحس أن الصدفة ليست واردة بالقدر الذي نتصوره هناك، «النظام»، هناك «تنظيم الكتابة»، هناك اللغة، هناك التخيل، هناك البناء، وهذا ما يخوض فيه كتاب كالڤينو حين يركز على خصائص الخفة والسرعة والدقة والرؤية والتعدد، ونفهم من خلال القراء أنها ليست مجرد خصائص: إنها «قيم أدبية ينبغي الحفاظ عليها في الألفية القادمة» (انظر تمهيد، محمد مخطاري، ص: 15)، قيم يتصور المترجم أنها «نظرية أدبية متكاملة، مشروع كتابة الرواية، بل نموذج فلسفي في الحياة، نتاج لتجربة أدبية وإنسانية دامت لعدة عقود» (نفسية، نفس الصفحة). نظرية أدبية متكاملة، مشروع كتابة الرواية، نموذج فلسفي، نتاج لتجربة. تعددت الأسماء والمسمى واحد، إنه كتاب في الكتابة الأدبية، الكتاب الذي تشكل في رحم اللغة، من رحم الكتابة ومن تفاصيل السيرة والوصية والشهادة ومن لحظة توتر حاسمة في حياة كالڤينو إلى حد يمكن القول بأن هذا الكتاب، وهو يفكر فيه وفي الشكل الذي سيتخذه، سلب منه الحياة، وسيموت دون أن يراه ويضيفه إلى قائمة أعماله الثمانية والعشرين لولا حرص الناشر والزوجة. أما حين «ينتقل» إلى اللغة العربية فإنه يقتحم مسار القراءة والتلقي والتداول بصيغتين: صيغة أولى يوقعها محمد الاسعد بعنوان ست وصايا للألفية القادمة (م.م). وتحته عنوان فرعي محاضرات في الإبداع، والصيغة التي بين يدينا يوقعها الباحث محمد مخطاري، وبين الصيغتين فروق وتفاريق: الصيغة الأولى تقفز أو تختزل أو تضيف. والصيغة الثانية تحرص على الدقة ومراعاة نفَس اللغة الايطالية وتثري الكتاب بالهوامش والشروح والتوضيحات والإحالات والفهارس مما يسهل برنامج القراءة التعاقدية أو القراءة الحفرية وكذلك القراءة الجدولية للكتاب، وهي قراءات بقدر ما تتباين في منهجها بقدر ما تتلاحم، ناهيك عن قراءة أخرى نعمدها باسم القراءة الاستشكافية، لأن كتاب كاليڤنو غني بالمصطلحات والمفاهيم والأفكار والنظريات والأبعاد النظرية والثقافية والمعرفية والجمالية حول الكتابة والأدب والشعر والنثر والنصوص والكتب التي تحركت على مدى أربعة وعشرين قرنا في فضاء الثقافة الأوربية عموما، وفي فضاء ثقافة الكتاب بالتحديد باعتباره كاتبا مجددا صنع حداثته الخاصة وحرص على ألا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد لذلك يختار محمد مخطاري لغلاف الكتاب صورة للكاتب تجعله متواريا بشكل ما خلف مصراع باب ينظر إلينا وكأنه يقول : «أنا هو أنا، نصفي يوجد في هذا الكتاب،في هذا العالم،في هذا الكون،او بعض مني في بعض منه،ونصف اخر، بعض اخر، يوجد في عالم آخر، في كون آخر» كتاب في الكتابة الأدبية، ستة مقترحات للألفية القادمة لإيطالو كالڤينو كتاب متاهة، وعلى قارئه أن يتقمص روح دايدلوس ليعرف الطريق الى حقيقة كالڤينو، الحقيقة المتوارية خلف جنيالوجيا كتابه وهو يتشكل في رحم كتابة متعالية تحلق في أجواء ما راكمه الإبداع والفكر والفن وما راكمته الفلسفة والثقافات والحضارات والنصوص والكتب التي استهوته منذ صغره إلى أن غادر عالمنا سنة 1985 عن عمر يناهز اثنتي وستين سنة إثر نزيف مفاجئ في الدماغ. (٭) ترجمة: محمد مخطاري، منشورات: كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، أكدال / الرباط، الطبعة الأولى، 2008، ص175. (٭٭) أستاذ جامعي، باحث وناقد كاتب روائي ومسرحي،مترجم. شعبة اللغة العربية وادابها،كلية الاداب والعلوم الانسانية،جامعة محمد الخامس،اكدال/الرباط..