بنفس الجدال والمزايدات السياسية المجانية، يستمر نواب الأمة في مناقشة قانون الميزانية العامة للبلاد، الذي يفترض أن يكون موجها لبوصلة التنمية الاقتصادية في السنة المقبلة. المناقشات التي شهدها مجلس النواب أخيرا لإقرار ثالث قانون للمالية في عهد حكومة الإسلاميين لم يخرج عن»الرتابة» السابقة، حيث هيمنت الحسابات السياسية على مناقشة مشروع قانون المالية، وزاغ السجال عن سكته الحقيقية ليتخذ أبعادا أخرى ترتبط بالصراع القديم بين حزب العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية من جهة وبين فرق المعارضة في مقدمتها حزب الأصالة والمعاصرة والاستقلال من جهة أخرى. ولذلك، كان لافتا طيلة أشغال بعض اللجان انسحاب فرق المعارضة بعد تبادل التهم بين البام والبيجيدي حول تعطيل العمل الحكومي، وهي سجالات فارغة لن تفيد في شيء سوى أنها ستساهم من جديد في التنقيص من قيمة قانون المالية. الجدل العقيم الذي اشتعل بالبرلمان على هامش مناقشة قانون المالية، يعيد إلى الأذهان فصول الدستور القديم في زمن المصادقة على الدستور الجديد، الذي يمنح للبرلمان صلاحيات واسعة ويثمن عمل المعارضة، وبيان ذلك أن مختلف الأحزاب السياسية عجزت في ظل غياب جو الثقة عن خلق طرق جديدة في مناقشة الميزانيات الفرعية للقطاعات الحكومية، وتحولت اللجان في أكثر من مرة إلى حلبة صراع حقيقية يوظف فيها الكلام الساقط والبذيء. ليس هذا فقط، بل إن الميزانيات الفرعية التي كان من الحري بالبرلمانيين أن يقدموا بدائل جديدة وأفكارا من شأنها أن تطور أداء قطاعات كبيرة ومعها مؤسسات كبيرة تتحكم في تسيير البلاد على مختلف الأصعدة، تنطلق من مبدأ أن الميزانية يجب التصويت عليها بعد ساعات فقط من المناقشة، مما يعطي الانطباع بأن ثمة «داء عطب أصيل» ينخر الجسد التشريعي برمته. من الواضح جدا أن عقلية البرلمانيين المغاربة، رغم كل التحولات التي مست المغرب في السنوات القليلة الماضية ما تزال تنظر إلى قضايا المغرب الجوهرية بذات المنطق القديم، وإلا كيف نفسر أن المصادقة على بعض الميزانيات في البرلمان لا يحضر إلى اجتماعاتها سوى برلمانيين يمكن عدهم على رؤوس الأصابع. غياب البرلمانيين عن المناقشات العامة والمناقشة في اللجان أصبح أمرا مألوفا ولم تستطع كل الإجراءات الزجرية، التي اتخذها المجلس، ثني عشرات البرلمانيين عن التغيب عن أشغال الجلسات. من الواضح إذن في هذا الصدد، أن مشكلة غياب البرلمانيين عن الجلسات وتحديدا عن مناقشة الجلسات العامة أمست معضلة عميقة تمس العمل البرلماني في العمق. لقد كان النقاش الطاغي في الولاية البرلمانية الأولى بعد التصويت على أول دستور في عهد الملك محمد السادس يتمحور حول الآليات، التي من الممكن أن تحد على نحو ما من تغيب البرلمانيين، واستمر النقاش على هذا المنوال دون أن يؤدي إلى نتيجة وترسخت، بعد ذلك، ظاهرة ما أصبح يصطلح عليه ب»برلمانيي الحلوى الملكية». في هذا السياق بالذات يؤكد محمد حنين، رئيس لجنة العدل والتشريع السابق وأستاذ القانون العام بجامعة محمد الخامس أن «ظاهرة الغياب تتكرر كل سنة بكيفية يصعب تبريرها ماعدا بالنسبة لبعض الأعضاء المنتدبين للقيام بمهام خارج الوطن، ولتفادي هذه الظاهرة عمدت بعض الفرق إلى تعبئة أعضائها للحضور وحجز غرف لهم بفنادق الرباط. لكن أمام ارتفاع عدد المتغيبين، يبدو أن هذه التدابير لم تحقق ما كان مرجوا منها. ولئن كان الغياب يكرس الصورة السيئة للبرلمان لدى الرأي العام، فإن هذه الظاهرة ترجع إلى عدة عوامل متداخلة، من بينها على سبيل المثال استمرار العمل بمساطر تقليدية ومرهقة وغير محفزة، وكذا غياب الظروف الملائمة للاشتغال»، مردفا أنه «من المؤكد أنه يصعب على أي شخص الاستمرار في الجلوس لمتابعة مناقشة مدتها 14 ساعة، وهي مناقشة لا يشارك فيها بسبب الترتيبات المسبقة إلا عدد قليل من النواب. وبالفعل، فإن كل من لم ينصرف وانتظر إلى نهاية الجلسة حوالي منتصف ليلة الأحد قد شعر بإرهاق كبير، بل لوحظ استياء عام بسبب طول الجلسة دون جدوى تذكر». لقد كان الجميع ينتظر أن تبصم النسخة الثانية من حكومة عبد الإله بنكيران على قانون المالية الجديد في خضم ظرفية اقتصادية وطنية ودولية صعبة موسومة بارتفاع أثمنة المحروقات وركود اقتصادي في دول الاتحاد الأوربي، الذي يبقى أهم شريك اقتصادي للمغرب، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، إذ بمجرد أن خرجت الحكومة من حرب الاستنزاف التي أعلنها حميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال، ضد حكومة عبد الإله بنكيران، سارعت إلى إعداد مشروع قانون المالية مع ما واكب ذلك من سرعة في الإنجاز وتجاذبات سياسية من داخل الأغلبية الحكومية نفسها. لم يصح الدستور الجديد إذا كانت الحكومة ما تزال تنظر إلى المعارضة البرلمانية بالازدراء و«الاحتقار»، ولا أدل على ذلك هو رفض كل التعديلات التي تقدمت بها المعارضة من أجل تجويد قانون المالية انطلاقا من ديمقراطية «الأغلبية العددية»، التي لم تكن يوما صمام أمان لتنمية البلاد. صحيح أن المعارضة كذلك انخرطت في حروب جانبية مع الحكومة محكومة بخلفيات سياسية محضة، ولم يكن همها إلا فيما ندر مناقشة مضامين قانون المالية، لكن صحيح أيضا أن الحكومة بينت مرة أخرى أن معركة تنزيل الدستور الجديد بعيدة كل البعد عن أولوياتها، وما رفض تعديلات المعارضة وفضيحة سحب قانون لجان التقصي إلا مظاهر قليلة من بين عشرات أخرى.