لا يمكن أن نسمي ما حصل في مجلس المستشارين صباح الثلاثاء الماضي إلا بالمهزلة، وهي مهزلة أكدت عمق الاختلالات التي يتخبط فيها المشهد السياسي المغربي بسبب ممارسة سياسية عتيقة، صارت مقززة ومنفرة. تتلخص هذه الواقعة في إسقاط مستشارين من المعارضة لمشروع الميزانية الفرعية لوزارة التجهيز والنقل أثناء اجتماع للجنة المالية والتجهيزات والتخطيط والتنمية الجهوية في مجلس المستشارين. وهذا أمر عادي، ولكن المثير أن يتم بعدد أصوات لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، حيث صوت ضد المشروع خمسة مستشارين من حزب «البام» مقابل صوت واحد للأغلبية وامتناع مستشار من الفريق الفيدرالي عن التصويت، بمعنى أن الأغلبية عجزت عن توفير ستة مستشارين لتمرير المشروع! لقد كشفت هذه الواقعة حقيقة المؤسسة التشريعية التي أصبح الغياب والسلبية سمتيها الرئيسيتين، إذ كيف يعقل أن يتخلف البرلمانيون عن جلسات المناقشة والتصويت على مشروع قانون المالية وهو أهم قانون تناقشه وتصوت عليه هذه المؤسسة، وهو الذي يحدد التوقعات والتراخيص لكل العمليات المرتبطة بمداخيل الدولة ونفقاتها في كل سنة مالية، ويضع السياسات العمومية في أرقام قابلة للقياس والمحاسبة والتقييم. إن غياب البرلمانيين عن مثل هذه المناسبات يؤكد استخفافهم بهذه المؤسسة وبناخبيهم وبالرأي العام، ويبرز عدم استيعابهم لحقيقة دورهم كمشرعين ومراقبين للعمل الحكومي واقتصار فهمهم على أن البرلمان منبر للخطابة ومؤسسة للوساطة وتلقي الشكايات واستجداء الوزراء لقضاء مصالح شخصية أو حزبية أو محلية، وهذا ما يتعارض مع متطلبات إرجاع الثقة إلى المواطنين والمصداقية إلى المؤسسات. والمذهل أن يحصل هذا الأمر في الغرفة الثانية التي جعل رئيسها من أولويات أهدافه محاربة الغياب، ولكنه -على ما يبدو- تأقلم مع هذه الحقيقة بدليل قراره في الغد إعادة التصويت! وكشفت هذه الواقعة هشاشة الأغلبية وغياب الانسجام بين مكوناتها لأنها تخلت عن وزير في الحكومة التي تساندها وتدعم برنامجها وتركته يواجه مصيره وكأن مشروع الميزانية مبادرة فردية منه، رغم أنه صودق عليه في مجلس الحكومة والمجلس الوزاري. وبذلك تنضاف هذه الحادثة إلى حوادث أخرى سبقتها تبرز ضعف التنسيق بين الحكومة وأغلبيتها في البرلمان رغم اللقاءات الدورية التي تعقدها وتتدارس فيها المشاريع الكبرى المعروضة على الدورة البرلمانية. وبهذا يبرز ما حذر منه الجميع بعيد الإعلان عن تشكيل الحكومة بتلك الطريقة المذلة لوزيرها الأول الذي تثبت الأيام والوقائع عدم قدرته على قيادة ائتلاف حكومي يتكون من أطراف حزبية متعددة لا رابط بينها ولا برنامج يجمعها.. وهنا تبرز مساوئ النظام الانتخابي الذي لا يفرز أغلبية برلمانية منسجمة وحكومة ائتلافية قوية ومتضامنة. وكشفت هذه الواقعة غياب أي معنى للانتماء الحزبي، وخاصة بالنسبة إلى حزب تاريخي مثل حزب «الاستقلال»، حيث انسحب رئيس اللجنة، وهو استقلالي، من الاجتماع وترك الرئاسة لمستشارة من حزب منافس رغم أن الأمر يتعلق بميزانية قطاع مثير للجدل ويقوده استقلالي.. والأخطر من كل ذلك أن يغادر كل الاستقلاليين الاجتماع لحضور مناسبة عائلية تعقدها، بتزامن مع لقاء اللجنة، مستشارة استقلالية. فكيف نفسر هذه اللخبطة؟ ندرك تفسير ذلك إذا رجعنا إلى الوراء قليلا حين تدخل مستشار استقلالي، في إطار الإحاطة علما خلال الجلسة الافتتاحية للسنة التشريعية التي كان يسيرها مستشار استقلالي، داعيا إلى إعادة النظر في مدونة السير التي لم يمض آنذاك على العمل بها أزيد من أسبوعين، ومتهما الوزير غلاب بكونه «التقى في جنح الظلام» بفرقاء آخرين وأمضى معهم على اتفاق لتطبيق المدونة في شكلها الحالي. لاحظوا المتناقضات الداخلية داخل نفس المؤسسة الحزبية التي يفترض أن تكون متجانسة، إيديولوجيا وسياسيا. يخيل إلينا أحيانا أننا نبحث عن تضامن حكومي وانسجام الأغلبية ونحن نفتقد الانسجام والتضامن داخل الحزب الواحد.. وهذه أصبحت علامة مميزة للعمل الحزبي في بلادنا، مما يفرض إعادة النظر في قانون الأحزاب وضوابط اشتغالها بالموازاة مع إعادة النظر في القوانين الأخرى، وفي مقدمتها الدستور. وكشفت هذه الواقعة انتقائية غريبة في الممارسة السياسية لحزب «الأصالة والمعاصرة» الذي كرس مجهوده لإسقاط ميزانية فرعية وتجاهل باقي الميزانيات. وما يؤكد أكثر هذه الانتقائية هو تصويت نواب «البام» في لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب لفائدة مشروع قانون يتضمن تعديل وتتميم مواد القانون الجنائي، حيث صوتوا إلى جانب الأغلبية ضد نواب «العدالة والتنمية» الذين كان في متناولهم إسقاط المشروع. وبهذا يتضح الغموض السياسي لهذا الحزب وازدواجية مواقفه وحقيقة الدور الذي يلعبه. وكشفت هذه الواقعة، كذلك، الاستهزاء بأعراف العمل البرلماني وأخلاقياته، حيث صار مألوفا إيقاف الجلسة بدون مبرر وفتح خطوط الاتصال الهاتفي بنواب ومستشارين لإنقاذ الأغلبية أثناء لحظات حرجة يفوق فيها عدد الحاضرين من المعارضة نظراءهم من الأغلبية. والخطير أن يتواطأ الجميع على ابتكار أسلوب جديد يتمثل في انسحاب نواب من المعارضة لضمان تفوق عددي للأغلبية وتمكينها من تمرير المشروع. وتصوروا رد فعل المواطنين لو كانت أشغال اللجان تنقل مباشرة! وكشفت هذه الواقعة أخيرا طغيان الترضيات السياسية والاستخفاف بالقوانين، حيث لم تمض ساعات على إسقاط المشروع حتى تداركت الحكومة الموقف بتخريجة قانونية غريبة قرر بعدها مكتب مجلس المستشارين، بناء على شكاية من الفريق الاستقلالي، إعادة التصويت الذي اعتبر مشوبا بعيوب مسطرية وقانونية. وقمة المهزلة ما صرح به مستشار من الأغلبية، ردا على احتجاجات مستشاري «البام»، من أن هدف المعارضة قد تحقق بعدما تصدر خبر الإطاحة بالمشروع الصفحات الأولى لكل الجرائد اليومية! لاحظوا كيف أصبحت مؤسسات الشعب ومناسبات مناقشة قضاياه لحظات لتصفية الحسابات وبعث الرسائل المشفرة بين أحزاب يفترض فيها العمل من أجل المصلحة العامة، أولا وأخيرا. هذه بعض خلاصات فضحتها واقعة بسيطة في ظاهرها، ولكنها عميقة من حيث دلالاتها لأنها فضحت هزالة المؤسسة التشريعية والتنفيذية وتخلف العمل الحزبي. والمصيبة أنها تتزامن مع بداية الإعداد لانتخابات 2012 التي يتضح من خلال هذه المقدمات أنها ستكرس، مرة أخرى، العزوف الذي أصبح خاصية ملازمة لها.