الهجرة السرية، باعتبارها حركة غير طبيعية، أصبحت أكثر الملفات إثارة للقلق في المشهد الدولي، هذا علاوة على أنها تعد من بين الأسئلة الأكثر إرباكا للحسابات السياسية في العلاقات الدولية خاصة في ضفتي البحر الأبيض المتوسط. ونظرا لصعوبة تدبير هذا الملف المعقد سعى الاتحاد الأوربي إلى بلورة سياسة إزاء البلدان المصدرة لتدفقات الهجرة وبلدان العبور، أخذا بعين الاعتبار أن إيقاف زحف المهاجرين السريين لا يمكن أن يكون خارج إطار استراتيجية شمولية واضحة ترتكز على الجانب التنموي بما يتوافق مع المعاهدات والمواثيق الدولية، خاصة معاهدة جنيف الخاصة باحترام حقوق المهاجرين وعائلاتهم، وكذا بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولم يكن هذا ليكون لولا أن المقاربة الأمنية التي يهدف من خلالها الاتحاد الأوربي إلى مراقبة حدوده والتصدي لظاهرة الهجرة السرية بشكل أحادي وإغلاق الحدود في وجه المهاجرين بدون كفاءات وطالبي اللجوء السياسي أبانت بشكل واضح عن فشلها في معالجة الظاهرة. بالمغرب عرفت ظاهرة الهجرة منذ بداية القرن العشرين تحولات عدة، تطورت وأخذت أشكالا عديدة، باختلاف العوامل المؤثرة فيها وتبعا لتغير القوانين والتشريعات المنظمة لها، تتجلى هذه التغيرات في ظهور صنف آخر من المهاجرين السريين، يتعلق الأمر بمحور موضوعنا وهم القاصرون الذين لا تتجاوز أعمارهم 18 سنة. تطورت الظاهرة وأخذت أشكالا ملتوية خاصة بعد ارتفاع نشاطات المافيا الدولية التي تعمل على تسهيل عملية تهريب البشر للتشغيل في السوق السوداء من طرف لوبيات أوروبية تغتني الاغتناء اللامشروع وتبحث عن الأرباح المتزايدة. وهكذا يمكن القول إن هجرة القاصرين أضحت حقيقة محلية، جهوية وعالمية لا يمكن تجاهلها أو الاستهانة بتأثيراتها، وانعكاساتها على العلاقات الدبلوماسية والدولية. وكان لهذا التدفق غير المنتظر ردود فعل من لدن الدول الأوروبية خاصة الحكومة الإسبانية، حيث ستصدر أوامر تقضي بترحيل كل القاصرين الذين تتجاوز أعمارهم 16 سنة، وستدعو الحكومة المغربية إلى التوقيع معها في 24 دجنبر 2003 على اتفاقية ترحيل القاصرين بشكل غير قانوني بالأراضي الإسبانية، ومباشرة مع مطلع عام 2004 سيتم تطبيق بنودها دون تردد. وتشير الإحصائيات المتوفرة إلى ارتفاع وتيرة الهجرة السرية التي أصبح ينظمها القاصرون من شمال المغرب في اتجاه الديار الإسبانية أو على الأقل إلى شواطئها، حيث تراوحت أعداد المهاجرين السريين القاصرين ما بين 400 قاصر عام 1998 و1200 سنة 2000 وستعرف تزايدا مرتفعا في غضون تطبيق الاتفاقيات الزجرية للحد من مثل هذا الشكل من الهجرة غير الطبيعية. وتشير المصادر إلى أن خريطة تمركز القاصرين غير المرفقين الموجودين بمراكز الإيواء الإسبانية، والذين يفوق عددهم 5000 مهاجر سري مغربي، تشمل كلا من إقليم الأندلس بحصة الأسد، تليه جزر الكانارياس، ثم تأتي مدينتا سبتة ومليلية السليبتين في المرتبة الثالثة والعاصمة مدريد في المرتبة الأخيرة، وفي إقليم الأندلس لوحده يوجد أكثر من 240 مركز إيواء يحتوي على 2459 سريرا، ثلاثون من هذه المراكز مخصصة لإيواء القاصرين؛ بمجموع 600 سرير. ترى ما الذي جعل هؤلاء القاصرين يهربون من مراكزهم كلما سمعوا أن المصالح الأمنية والإدارية الإسبانية باتفاق مع جارتها المغربية عازمة على ترحيلهم إلى حيث كانوا مع آبائهم؟ وهل يعد ترحيلهم خرقا لحقوق الإنسان؟ وهل العمل هو الدافع الأساسي لهجرة القاصرين؟ ومن يقول العمل يشير بطريقة أو بأخرى إلى البطالة، بمعنى أنه إذا كان الهدف هو العمل فإن السبب الأول والأخير هو البطالة. بطالة الآباء أولا قبل الأبناء، حيث ينمو هؤلاء في جو من الغضب بين الأم والأب العاجز عن توفير لقمة العيش بانسداد الآفاق، وإذا كان المستوى التعليمي لكليهما حاسما في وضعية الأبناء، فإن الأمية المتفشية في دور الصفيح والقرى النائية والبعيدة تشكل العلة الثانية لعدم تعلم الأبناء وعدم وصولهم إلى مستويات عالية من التحصيل والدراسة، مما يعني ولوجهم إلى البحث عن العمل مبكرا سواء مع الآباء في القطاع غير المهيكل، أو بمفردهم عندما يتعرضون إلى الاستغلال من لدن أرباب العمل من دون أجور أو بأجور. والأهم من ذلك، التحولات التي عرفها المجتمع المغربي في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، والتي أفضت إلى ظهور مشاكل اقتصادية واجتماعية وانتشار بطالة خريجي الجامعات وانتشار ظاهرة الفقر بين صفوف الطبقات الفقيرة جراء تطبيق الإصلاحات المرافقة لمخطط التقويم الهيكلي وخوصصة القطاعات الاجتماعية المنتجة، كالتشغيل والتعليم والنقل والصحة والسكن، مما يعني عجز الدولة عن تغطية مصاريف الضمان الاجتماعي وحرمان العديد من أبناء الطبقات الكادحة من الصمود وسط الإعصار. هكذا يحس هؤلاء القاصرون بأنهم معنيون بحل مشاكل آبائهم، الذين لم يعودوا قادرين على توفير لقمة العيش، حيث ارتفاع عدد الأبناء، وضعف التأطير الصحي، مما يدفع بالقاصرين إلى التسكع أمام الموانئ بغرض اقتناص فرصة للتسلل في الحافلات المتوجهة عبر البواخر إلى إسبانيا أو عبر زوارق الموت، أملا في إيجاد فرصة عمل تعفي الكثير من الأفواه من هذه المصاعب. في ظل هذه التغيرات التي عرفتها الظاهرة، لم يكن للمجتمع الدولي من خيار سوى الانخراط الفعلي في مواجهة الهجرة السرية عموما وهجرة القاصرين بالخصوص، والانخراط الحقيقي في إيجاد سبل تنظيم الهجرة القانونية. وفي اتجاه معاكس، لم يكن من السهل على المنظمات غير الحكومية ترك المجال للحكومات تسن قوانين حماية ترابها، عبر مراقبة حدودها من دون إثارة انتباهها إلى أن الهجرة، منذ وجود الإنسان على وجه البسيطة، لم تتوقف أبدا، لهذا لابد من مراعاة حقوق المهاجرين باختلاف أعمارهم وعلى رأسهم القاصرون. وقد كشفت جل الدراسات والأبحاث، عن زيف المقاربة الأمنية وضرورة التعاطي مع الظاهرة بمقاربة شمولية، تفتح الآفاق أمام المواطنين في حوض البحر الأبيض المتوسط لاستثمار مؤهلاتهم الفكرية والجسدية، ولبناء حضارة إنسانية عالمية، مساهمة بذلك في ترسيخ قيم الاحترام وتبادله، عبر كل وسائل الاتصال والتواصل؛ وذلك لاكتشاف أساليب الحوار الحضاري بين الأقوياء والضعفاء بين الشمال والجنوب. وحفاظا على روح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات المرتبطة به خاصة العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتماشيا مع بنود الاتفاقية العامة لحقوق الطفل، وتأسيسا لكل تعاون دولي بناء، لأجل الاطمئنان واستمرار العيش بحرية وعدالة وسلم في مناخ دولي وجب عليه، اليوم أكثر من أي وقت مضى، الحفاظ على كرامة كل فرد من الأسرة البشرية دون تمييز عرقي أو لغوي أو ديني... وإذا اتخذنا المادة 39 من اتفاقية حقوق الطفل أساسا لإنصاف القاصرين الذين يتعرضون للتهجير القسري وغير القانوني، فإن الدول الموقعة عليها، وضمنها المغرب وإسبانيا، عليها أن تتخذ كل التدابير المناسبة لتشجيع التأهيل المدني والنفسي وإعادة الاندماج الاجتماعي للطفل الذي يقع ضحية أي شكل من أشكال الإهمال أو الاستغلال أو الإساءة أو التعذيب أو أي شكل آخر من أشكال المعاملة المهينة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية، ويجري هذا التأهيل وإعادة الإدماج في بيئة تعزز صحة الطفل، واحترامه لذاته وكرامته. ونظرا إلى الظروف الصعبة التي تعاني منها اقتصاديات البلدان السائرة في طريق النمو، فإن تفعيل مثل هذه البنود يبقى حبرا على ورق. ذلك أن مثالا واحدا، كنموذج إسبانيا، يبرز كيف أن هذه الدولة الديمقراطية طورت أشكال التعاطي مع حقوق المهاجرين عموما والقاصرين على وجه الخصوص، من خلال سن هذه القوانين من جهة، ومن جهة أخرى انتهاك هذه القوانين والاتفاقيات، مما يوحي بتراجع حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا حتى في الدول المتقدمة. ونظرة سريعة على مضمون القانون رقم 04/2000 الصادر في 11 يناير، والتغيرات التي لحقت به من خلال قانون رقم 14/2003 المخصص لحقوق وحريات المهاجرين في إسبانيا وحق اندماجهم الاجتماعي، يكفي القول من خلال الفصل رقم 35، بأن هذا البلد رغم توقيعه على اتفاقية حقوق الطفل، فإن المادة 4 من هذا الفصل لا تسمح بأكثر من ترحيله إلى بلده الأصل. أما بالنسبة إلى الحكومة المغربية، فإن فراغا كبيرا على المستوى القانوني والحقوقي مازال قائما بالنسبة إلى اندماج القاصرين في المجتمع المغربي. ومن القوانين المستحدثة في هذا المجال القانون رقم 03.02، من دون نسيان الإصلاحات القانونية المرافقة لمدونة الأسرة، رغم صعوبة تطبيقها في مجتمع مازالت العديد من فئاته الاجتماعية ترزح تحت ضغط الكثير من التأثيرات الاجتماعية والسياسية، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة الأمية والبطالة وسط شرائح واسعة من المجتمع المغربي، مما يعرقل نمو عقلية الحداثة ذات الطموحات الديمقراطية في تفعيل القوانين والاتفاقيات الدولية الموقع عليها.