في الوقت الذي تتواصل فيه المباحثات والأعمال التحضيرية الأوروبية المغاربية من أجل بلورة مقاربة مشتركة لقضية الهجرة السرية تحسم في قمة المنتدى الأوروبي المتوسطي المعروف بمجموعة 5+5 والتي ستعقد في بداية شهر دجنبر المقبل، تشهد عمليات الهجرة غير الشرعية تصاعدا في معدلاتها بما يزيد من رفع التحدي المطروح على الفرقاء المعنيين لمعالجة هذه الظاهرة، حيث تناقلت وسائل الإعلام خبر انتشال ما يناهز 30 جثة من خليج قاديس، بعد غرق الزورق الذي كان يحمل حوالي 50 مهاجرا، وسبق ذلك نبأ اعتقال حوالي 550 مهاجر إفريقي على متن 12 قاربا وذلك قبالة الساحل الإسباني الجنوبي، فضلا عن فشل عمليات تسوية أوضاع المهاجرين في إسبانيا في احتواء الأعداد المتزايدة من المهاجرين السريين والتي تقدرها المؤسسات المدنية ببلوغها عتبة النصف مليون مهاجر سري في إسبانيا لوحدها. وأمام استفحال المشكل وتعقد أسبابه وفشل الإجراءات المتبعة في معالجته، تحول هذا الملف إلى عقدة العلاقات المغاربية الأوروبية عموما والعلاقات المغربية-الإسبانية خصوصا، يرتهن معه مستقبلها وتنعكس آثاره على باقي ملفاتها الاقتصادية والسياسية والأمنية، وهو ما شكل بعدا ينضاف للأبعاد الاجتماعية والأمنية المرتبطة به يضغط لصالح تبني مقاربات جديدة، والتفكير في مراجعة جذرية للمنطق الأمني الذي حكم سياسات دول شمال المتوسط في التعامل معه. في هذا المقال رصد لمسار السياسات التي اعتمدت وصولا إلى التحضيرات الجارية لقمة 5+5 وتحليل لآفاقها. الهجرة السرية وأزمة العلاقات المغربية-الإسبانية تحول هذا الملف إلى عقدة من عقد الأزمة المزمنة في العلاقات المغربية-الإسبانية في صيف ,2001 بفعل ما عرفه شهر غشت من تلك السنة من تصعيد خطير في عمليات الهجرة مما أفضى إلى إقدام الخارجية الإسبانية على استدعاء السفير المغربي بإسبانيا للاحتجاج على ما تدعيه من تراخ مغربي في مكافحة الهجرة السرية في أواسط ذلك الشهر، ثم جاء شهر شتنبر ليحمل معه تصريح الملك محمد السادس ليومية لوفيغارو الفرنسية في 4 شتنبر من أنه إلى جانب المافيا المغربية هناك مافيا في إسبانيا تعيش من الهجرة السرية وأن المراكب التي تقل المهاجرين السريين تأتي من إسبانيا وهي مكلفة من حيث الثمن كما أنها مجهزة بمحركات ذات قوة كبيرة تجعل هذه المراكب أكثر سرعة حتى من زوارق البحرية المغربية، ثم تلا ذلك تصريح وزير خارجية إسبانيا خوسيه بيكي التي أعلن فيها وجود تواطؤ بين قوات الأمن المغربية ومافيا الهجرة السرية وأن عائدات المغرب من الهجرة تفوق عائداته من السياحة والفوسفات، وهو ما اعتبرته صحيفة إلباييس الإسبانية سابقة، حيث لم يسبق أن أدان مسؤول إسباني تورط أجهزة الأمن المغربية في الهجرة السرية. وكان من جراء ذلك تأجيل اجتماع بين كاتب الدولة في الخارجية المغربية الطيب الفاسي الفهري مع نظيره الإسباني ميكيل نادل من أجل الإعداد للقمة المغربية الإسبانية المقررة لتلك السنة، وهي قمة سنوية أقرتها معاهدة الصداقة والجوار الموقعة بين البلدين في .1991 تعود بداية المشكل من الناحية الاجتماعية والسياسية إلى النصف الثاني من التسعينات، حيث نمت تجارة ضخمة ضمت شبكات منظمة تشتغل بين الجنوب الإسباني والشمال المغربي، وقد أفادت شهرية لوموند ديبلوماتيك في عددها ليونيو 2002عن مؤسسة AFVIC (جمعية اصدقاء وعائلات ضحايا الهجرة السرية) أنه تم العثور على 3286 جثة عند شواطئ المضيق وذلك ما بين العام 1997 و15 تشرين الثاني/نوفمبر عام ,2001 وإذا سلّمنا بأن نسبة الجثث المنتشلة بالنسبة الى المختفين هي واحد على ثلاثة، فهذا يعني أن هناك أكثر من 10000 مهاجر قضوا في المضيق خلال خمس سنوات، وقد أخذت عمليات الإيقاف للمهاجرين تتصاعد بشكل غير متوقع سنة بعد أخرى ففي سنة 1999 كان العدد في حدود ثمانية آلاف وبعدها بلغ 15000 ألف في سنة 2000 وهو ما أكدته معطيات سنة ,2001 وفي سنة 2002 بلغ عدد الموقوفين 16 ألف شخص ، وألقي القبض كذلك على 378 مهربا في نفس السنة، كما أفادت نفس الشهرية نقلا عن المجلس الأوروبي، أن هناك 246000 طلب تسوية اوضاع تقدم بها مهاجرون سريون في اسبانيا، ما بين 3 مارس و31 يوليو عام ,2000 وفي بداية هذا السنة أعلن مفوض شؤون الهجرة بالحكومة الإسبانية إينياسو غونزالس أن سلطات الهجرة رحلت خلال العام الماضي 74667 مهاجرا غير قانوني مقابل 45544 مهاجرا خلال عام .2001 وشكل المغاربة غالبية المهاجرين بطريقة غير قانونية والذين تم ترحيلهم عام 2002 وعددهم 23 ألفا مقابل 25799 عام .2001 تبرز المعطيات الآنفة عن مدى التزايد السنوي للهجرة السرية، خصوصا وأن هناك جبهة ثانية لا تقل اشتعالا عن الجبهة الإسبانية وتتمثل في الجنوب الإيطالي، مما حول المشكل من مجرد مشكل أمني محدود وداخلي إلى مشكل اجتماعي وسياسي واقتصادي فرض طرحه على الصعيد الأوروبي، كما أصبح سببا في التوتر المنتظم للعلاقات المغربية-الإسبانية خصوصا مع التجميد الذي عرفه العمل باتفاقية العمالة المغربية الموسمية التي وقعت في يوليوز,2001 وبرزت آنذاك مقاربتان الأولى إسبانية تغالي في التركيز على المنحى الأمني في المعالجة وأن الأمر يسهل حله بمجرد المقاربة المشددة للشواطئ، والذي كان المغرب يعتبره منحى اختزالي وأن الحل الحقيقي هو حل سياسي واقتصادي يرتبط بنجاعة برامج الشراكة الأوروبية المغربية، وذهب البعض إلى القول بأن أن إسبانيا تريد من المغرب أن يتحول إلى قوة شرطة متوسطية ومكان لاستقبال المهاجرين الموقوفين في إسبانيا بغض النظر عن جنسياتهم ومن دون قيد أو شرط. وأمام انعكاسات الهجرة على الفضاء الأوروبي وارتباط ذلك بسياسة الشراكة الأوروبية المتوسطية انتقل تدبير الملف إلى الاتحاد الأوروبي. الهجرة السرية والاتحاد الأوروبي ومنذ أواسط 2002 أخذ المشكل يتجاوز دائرته الثنائية إلى ما هو أعقد وأكبر بعد إقدام إسبانيا على طرح مشروع أوروبي يقضي بمعاقبة الدول المصدرة للهجرة إذا لم تقبل استقبال المهاجرين المطرودين، وذلك في قمة الاتحاد الأوروبي بإشبيلية في أواخر يونيو 2002 في مقابل الطرح الفرنسي الذي ركز على المقاربة التنموية الشمولية القائمة على برامج التعاون الهادفة مع الدول المصدرة، وبصعوبة تم الفصل بين المساعدات الموجهة للدول وبين ارتفاع معدلات المهاجرين القادمين منها، إلا أن ذلك لم يحل دون إبقاء إمكانية اتخاذ إجراءات عقابية في حق بلد ما إذا تم التأكد من عدم تعاونه بشكل غير مبرر في ضبط الهجرات غير القانونية. ولا بد أن يقر أعضاء الاتحاد الأوروبي بالإجماع بعدم وجود تعاون من هذا البلد لكي تفرض عليه هذه الإجراءات التي لا ينبغي بأي حال أن تهدد التعاون في مجال التنمية، بل إن القمة نصت في مقرراتها على أن أن تتضمن اتفاقات التعاون والشراكة الجديدة التي يوقعها الاتحاد الأوروبي مع دول أخرى بندا عن الإدارة المشتركة لموجات الهجرة وعن ضرورة قبول عودة المهاجرين غير القانونيين إلى البلدان التي انطلقوا منها في حال ضبطهم، كما جرى التعهد في نفس القمة ب تقديم مساعدات تقنية ومالية إلى الدول التي تشهد هجرات لمساعدتها على ضبط حركة الهجرة، مع فتح المجال للتفكير المعمق في الأسباب المغذية لموجات الهجرة. ومن العناصر الأخرى التي حكمت السياسة الصادرة عن القمة الجوانب المرتبطة بتشديد الرقابة الأمنية على الحدود واعتماد آلية الدوريات المشتركة بين الدول المتطوعة، رغم أن الأمر لم يصل حد إقرار فيلق أوربي خاص بحراسة الحدود، وكذلك النص على ضرورة تسريع المقتضيات التشريعية المشتركة الخاصة بذلك، ونذكر هنا أن منظمة العفو الدولية انتقدت الاتحاد الأوروبي في تلك القمة واتهمته بأنه يريد شن حرب شاملة على الهجرة، محذرة من خطر الانغلاق المتزايد لأوروبا، فاجتمع الاتحاد الأوروبي سنة بعد ذلك في قمة سالونيك باليونان في أواخر يونيو 2003ليعمل على التخفيف من حدة التوجه الذي ساد في القمة الماضية عبر التأكيد على على ضرورة الاعتراف بضرورة الهجرة الشرعية، لأسباب اقتصادية وديموغرافية، كما اقترحت المفوضية الأوربية تخصيص ما بين 40 إلى 120 مليون أورو لتنمية قاعدة للمعطيات حول التأشيرات يمكن من الإحصاء الشامل لكل التأشيرات الممنوحة من دول الاتحاد الأروبي ووضع إجراءات تكفل محاربة تزويرها، فضلا عن مشاريع للتعاون على الحدود لترحيل المهاجرين السريين، كما تضمنت اقتراحات المفوضية وضع برنامج للمساعدات بقيمة 250 مليون أورو على خمس سنوات لفائدة الدول التي تلتزم بالتعاون والتفاوض حول اتفاقات لاستقبال مهاجرين سريين مع الاتحاد الأوربي، وهي توجهات تدل على المسارات التي أخذا موضوع السياسية الأوربية في مجال مكافحة الهجرة السرية ومناهضة شبكات تهريب البشر. وإلى جانب المقررات التي صدرت عن كل من قمتي إشبيلية وسالونيك فقد تم البدء في فبراير من السنة الجارية في مخطط الدوريات المشتركة المسمى بمخطط أوليسيس، والذي تقرر في قمة إشبيلية، والذي يشترك فيه خفر السواحل من بريطانيا واسبانيا وإيطاليا وفرنسا والبرتغال ، بالإضافة إلى كل من النمسا وألمانيا والنرويج وبولندا وهولندا واليونان والتي تشارك بصفة عضو ملاحظ، وذلك بهدف الرفع من فعالية برامج مواجهة شبكات الهجرة السرية، وإلى جانب ذلك تم التقدم في تطبيق مخطط تسييج السواحل الإسبانية الجنوبية بأجهزة الرادار فضلا عن مدينة سبتةالمحتلة، وكذلك اعتماد خطة لبناء ما سمي بالسور البحري في محيط مدنية مليلية المحتلة. لقد أثبتت هذه التطورات وجود عزم أوربي لمواجهة شاملة لظاهرة الهجرة وإدراجها بشكل كلي ضمن أجندة العلاقات الأورومتوسطية، إلا أن الملاحظ هو حصول اختلال في المقاربة لصالح المنطق الأمني واعتبار المنطق التنموي ذا أهمية لكن بقدر ما يخدم المنطق الأول، وهو مسار أفرز تحولا في سياسات دول جنوب المتوسط على رأسها المغرب. اعتماد قانون الأجانب وصدى قمة إشبلية تفسر التطورات الآنفة عددا من المستجدات التي عرفها المغرب هذه السنة في هذا المجال ونتوقف عند حدثين دالين منها الأول يتمثل في قيام الاتحاد الأوربي في نهاية يوليوز بتمويل مشروع بقيمة 40 مليون أورو لمساعدة المغرب على محاربة الهجرة السرية والذي كشفه حوار يومية لوماتان المغربية في أواخر يوليوز مع الوزير الأول الفرنسي جان بيير رافاران عن أن أوروبا تمول مشروعا بقيمة 40 مليون أورو لمساعدة المغرب على محاربة الهجرة السرية بتعزيز وسائل الحراسة والمراقبة بشمال البلاد. أما الحدث الثاني يرتبط بمصادقة مجلس النواب على القانون 02.03 المتعلق بدخول وإقامة الأجانب بالمغرب وبالهجرة غير المشروعة وذلك في بداية يونيو 2003 أي قبيل قمة سالونيك، وقد كان الأمر بمثابة مفاجأة حيث لم يكن مطروحا في أجندة العمل الحكومي بالمغرب ليقع الإعلان فجأة عن اعتماده من لدن المجلس الوزاري في يناير ,2003 وإحالته بمعية قانون مكافحة الإرهاب للمناقشة النيابية في دورة استثنائية في بداية فبراير ,2003 وتعرض لانتقادات حقوقية شديدة من حيث تبنيه لنفس المقاربة الأمنية التي يعيبها على سياسات الدول الأوروبية، وتم فيه تشديد المقتضيات القانونية المتعلقة بالجنح والمخالفات المتصلة بمحاولة الهجرة السرية وسن العقوبات المتعلقة بها، وقد برز في النقاش حول ذلك القانون معطى جديد أخذ يحكم سياسات الدول في مواجهة الهجرة السرية يرتبط بالحملة الأمريكية على الإرهاب وما فرضته من تشديد المراقبة على حركة الأشخاص بشكل عام ولحساسية منطقة مضيق جبل طارق ولوجود القاعدة العسكرية الأميركية الضخمة في الجنوب الإسباني بشكل خاص، حيث طرح ذلك إشكالية استغلال شبكات الهجرة للقيام بعمليات تستهدف المصالح الأوربية والأمريكية، وهو ما يفسر إقدام أمريكا على مضاعفة قيمة المساعدات العسكرية المخصصة للمغرب لشراء معدات للرقابة الأمنية من 5مليون دولار في سنة 2003 إلى 10مليون دولار في سنة 2004 حيث ورد في النص المقدم للكونغرس أن حيثيات ذلك ترتكز على التهديدات التي تستهدف مضيق جبل طارق. منتدى 5+5 وتحدى مراجعة المنطق الأمني تكتسي المباحثات الخاصة بالإعداد لقمة 5+5 والتي تظم كل من المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا وليبيا من جانب دول جنوب المتوسط، وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وبريطانيا من شمال المتوسط أهمية خاصة، حيث شكلت محطة للحوار السياسي بين الدول المعنية، وقد تقرر عقدها في 6-5 دجنبر المقبل بتونس لتكون محطة تقييم لمجمل مسار الشراكة الأورو-متوسطية عموما وملف الهجرة خصوصا، مع الانتباه إلى وجود مسعى أوروبي لتوظيف هذه المحطة لصالح التوجهات الأمنية تحت مسمى تعزيز التعاون في مجال الهجرة، ومن بين المحطات الإعدادية في هذا الصدد أشغال المؤتمر الوزاري الثاني الذي انعقد بالرباط في الأسبوع الثالث من شهر أكتوبر الماضي، وارتبط الاجتماع ببحث القضايا المنبثقة عن إعلان تونس لأكتوبر 2002 وخاصة ما يتعلق بالتبادل المنتظم على مستوى المعلومات ومحاربة الهجرة السرية ومعاملة المهاجرين بطريقة مدروسة والنهوض ببرامج الهجرة المرتبطة بالشغل والعمل والتنسيق مع الجاليات المهاجرة بدول الاستقبال، كما تم بحث نفس القضايا في قمة وزراء خارجية المنتدى في نهاية الشهر الماضي بفرنسا، وذلك إلى جانب القضايا السياسية والاقتصادية . خلاصة... يبرز المسار العام للتعاطي الأوربي مع قضية الهجرة أن سياسات دول الجنوب وخصوصا المغرب نحت منحى التكيف مع الاستحقاقات الخارجية ومحاولة فرض الحد الأدنى من المطالب التنموية لكن تحت ضغط الهاجس الأمني، مما جعل البعض يعتبر أن أوروبا لا تعالج مشكلة الهجرة في جذورها بقدر ما تحول دول الجوار إلى مراكز اعتقال وإيقاف مسبق للتدفق القادم من إفريقيا على وجه التحديد، وهو ما يمثل تحديا لدول الجنوب يقتضي منها بلورة بدائل مضادة لما هو مطروح والسعي لضمان تبنيها من طرف المجموعة الأوروبية. مصطفى الخلفي