إذا صحَّ ما أوردتْه صحيفةُ «يديعوت أحرونوت» من أن تسيبي ليفني، وزيرَ خارجية الكيان الصهيوني، أبلغتْ عواصم عالمية وعربية بأن دولتها ستشن عملية عسكرية ضد «حماس» في غزة، فستكون الواقعةُ ثاني فضيحتين سياسيتين عربيتين في السنوات الأخيرة بعد فضيحة الإعلان عن رسائل عربية إلى إيهود أولمرت في يوليو 2006، أثناء العدوان الصهيوني على لبنان، تُباركُ حربَهُ على «حزب الله» وتؤازرُهُ بالتشجيع والدعم على ما كشفت الصحافةُ الإسرائيلية عن ذلك في حينه. والفضيحة، إن تأكدتْ، تُؤْذِن بانعطاف شديد السوء والخطورة في السياسة العربية تجاه الصراع العربي-الصهيوني وتجاه حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية والسياسية. إذ ما الذي يعنيه أن تتسَتَّر دولةُ أو دول عربية على أمْرٍ جلَل بحجم هذا العدوان الدموي البربري على غزة إن لم تكن فيه راغبة وعليه موافقة؟! يطيب للمرء، في هذه الحال، ألا يصدق معلومات الصحيفة الإسرائيلية، ويطيب له أكثر أن يتذكر أنها إسرائيلية وأن يسمح لنفسه بالاستنتاج أنها إنما هي مدسوسة عمدا قصد الإيقاع بين الفلسطينيين والعرب، وبين العرب والعرب، وهي من نوع المعلومات الزائفة التي تدخل ضمن الحرب النفسية... إلخ. يريحُه كثيرا هذا التفسير الذي يعلّق المسألة على العدّو ويربأ بالأخ عن أن يكون شريكا في ذبح أخيه ولو من باب حجبه العلم عنه بأنه سيُذبَح. ولكن، ماذا ترانا نُكذّب؟ إن جازَ لنا أن نُكذّب «يديعوت أحرونوت» –وهو يجوز- فهل نملك أن نُكذّب الواقع، فيما الواقع يقول إن محنَة غزة الطويلة (قبل العدوان العسكري عليها) لم تكن مع الحصار الإسرائيلي فحسب، وإنما كانت مع الحصار العربي الذي ما كان أرْحَمَ من الأوَّل ولا أقلّ وطأة وحِدّة! حتى إن المرء منا يَحق له التساؤل في ما إذا كانت غزة ستعاني من الحصار الصهيوني لو رُفِعَ عنها الحصار العربيّ! ثمة مَنْ يذهب إلى القول إنّ ثمة قرارا أمريكيا-إسرائيليا بإسقاط سلطة «حماس» في غزة بالحصار الاقتصادي لَقِيَ هوى من بعض النظام العربي مخافة أن تصيرَ غزة بؤرة إخوانية تنتقل عدواها إلى المحيط العربي. وليس من شكّ لدينا في أن هذا القرار الأمريكي-الإسرائيلي موجود ونافذ، وهو يتوسّل بالحصار لعجزه عن حسم المعركة مع «حماس» عسكريا للكلفة الفادحة التي سيدفعها الجيش الإسرائيلي إن أعاد احتلال القطاع. ولكنّا قد نخشى أن مثل هذا الحصار لا يستقيم لدى من اتخذوا القرار إلاَّ إذا تَحَصَّل شراكة عربية فيه، وإلا ما نفَعَ الحصارُ ولا آذى شديد إيذاء أهاليَ غزة وسلطتهم. وقد يفهم المرء –من دون أن يتفهَّم- أن يوجد في جملة الأنظمة العربية من لا يرغب في أن يرى «حركة أصولية» في السلطة، وأن يتوجّس منها خيفة، فيسعى إلى إغراقها في مشاكل صغيرة كالماء والكهرباء والوقود والطحين تصرفها عن السياسة الكبرى وتضعها تحت رحمة شروطه. لكنا لسنا نفهم كيف تتحول معاقبة «حماس» بهذه الوسيلة البدائية عقابا جماعيا لشعب! ولا يَظْنَنَّ أحد أن مشكلة العرب مع غزة في وجود «حماس» على رأس السلطة فيها، إذ لو كانت «فتح» حاكمة هناك لَمَا اختلف الأمر إلا قليلا، إذ هل اختلفَ كثيرا في الضفة حيث السلطة في رام الله في يد «فتح»؟! هل أُغدقت النِّعَمُ والأموال والمساعدات والدعم السياسي على محمود عباس وسلام فيّاض؟ أما يضغط العرب على السلطة هناك كي تستمر في مفاوضاتها العبثية مع الكيان الصهيوني، وكي تَزيد من منسوب المرونة والاعتدال في موقفها التفاوضي؟ أما ضغطوا كي يفكّوا الارتباط بين «فتح» و«حماس» ويسقطوا «حكومة الوحدة الوطنية» وأوقعوا بين الفَريقيْن وقادوهما إلى الصّدام في غزة؟ ما كانت المشكلة في أن «حماس» تسيطر على غزة، بل لأن على غزة أن تنزع سلاحها وتستسلم كي ينتهي أي شكل من أشكال «النزاع» مع إسرائيل. هذه سيرةُ بعض النظام العربي مع الشعب الفلسطيني الذي يبدو له مصدرَ إزعاج شديد حين يتمسَّك بحقوقه ويرفض الاستسلام. الفلسطينيون، عند هذا النوع من العرب، طيبون إذا صمتوا وركنوا لقَدَرِهم والتزموا الهدوء والتهدئة، وهم أشرار أو مقرفون إن حملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم في وجه العدوان أو هدَّدوا بالتمرد على القواعد المفروضة وخرقوا الحصار. هل ننسى؟ كان ياسر عرفات يُسْتَقْبَل عندهم بالأحضان عندما وضع البندقية جانبا وجَنَح ل»السِّلم» مثلهم وانغمس في المفاوضات في كامب ديفيد (2000)، واصطفَّ مع الانتفاضة والمقاومة، حتى بات خصْماً وتُرك لمصيره محاصَراً في رام الله، واحتُضن معارضوه من داخل «فتح» عربيًّا، وبدأ الترويج للسيد محمود عباس منافسا على الرئاسة من موقع الوزارة، قبل أن يبدؤوا التأفف منه هو نفسه على تردده في استعجال الحل السياسي بأيّ ثمن! يَطيب للمرء أن لا يصدّق ما تقوله المصادر الصهيونية عن الشراكات العربية مع إسرائيل في حروبها العدوانية على المقاومة، عن التسهيلات التي تقدِّمها للعدوّ من طريق ضرب الخناق على تلك المقاومة. لكن الواقع فاقع اللون ولا يَسُرُّ الناظرين. ثم ها أنت ترى هذا النوع من العرب يُخْفُون شراكَتَهم في صنع هذه الفصول الدموية الجارية من الفاجعة الفلسطينية بإلقاء المسؤولية على «حماس» لأنها أنهتِ «التهدئة»، وهُمْ يقولون ذلك تأدبا وفي قرارة أنفسهم ولسانهم أنها «اعتدت» على دولة «جار» ذات «سيادة» على «أرضها»! ما الفارق –بالله عليكم- بين أن يُقَال هذا بلسانٍ عربي وبين ما يقوله جورج بوش وكونداليزا رايس من أن «إسرائيل» لا تفعل سوى أنها «تدافع عن نفسها» في وجه صواريخ «حماس»؟! كلاهما يبرِّر القتل ويُحَرِّض عليه ويتستَّر على القاتل ويلتمس لجريمته الأعذار! أمّا حين تنزل الشعوب إلى الشوارع تصرخ وتحتج على الصمت الرسميّ العربي وتطالب أنظمتها بأن تفعل شيئا لتتوقف المذبحة، بل لأن تتخذ موقفا موحَّداً يَسْتُر عورةَ هذه الأمَّة التي فضحوها بسياساتهم الاستسلامية، ينبري ذلك النوع من العرب للقول إننا في غير حاجة إلى قمّة. وهُمْ في ذلك صادقون، وأَيْمُ الله هم في هذا صادقون: كيف نذهب إلى قمة ونحن في الحضيض؟! يطيب للمرء في هذه الحال أن يتذكر عبد الناصر وهو يقول: ارفع رأسك يا أخي. ها هم اليوم يقولون للفلسطيني وللعربي: إحْنِ رأسك يا «أخي». ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.