لم تخلق الحرية لكي توضع داخل أقفاص، أو لتخضع لتدبير جائر سمته الأساسية «عدالة انتقامية» تخطئ أهدافها كلما صوبت السهام، فتحيد عن صدور المارقين ومحترفي التسيب المالي والإداري والقيمي، لتنحرف في اتجاه صدور المطالبين بالحق في الكرامة. هناك طيور الأنوار، التي تحفر كل يوم ثقوبا في عتمة الظلام والظلم المستشري، سلاحها الإيمان وسلمية الاحتجاج والمسعى ووضوح الأهداف والمرامي. لكن السجون لم تلفظ كل أوزارها بعد أن ساد المنطق الجنائي في تعاطيه مع قضايا الرأي والتعبير، فأغمض عينيه عن الجناية والجناة، وجرّم الحق في الإخبار، والحق في التظاهر السلمي، والحق في الجهر بالرأي، والحق في البراءة، وهو ما زود سجون المغرب ب«زبناء» و«ضيوف» من فصيلة الإعلاميين، كما تجسدهم محنة الكاتب الصحافي رشيد نيني، التي هي أخطر صور الانتقام، وتأويل متعسف للقانون، الذي يقوّلوه ما لم يقل ويفرضون عليه بالقوة الانحياز لهم، وكل من تعرض للإبادة الرمزية، عبر الدفع بالمقاولات الإعلامية إلى الإفلاس، وبالإعلاميين إلى البحث عن آفاق وضفاف أخرى، أو بكل بساطة إلى الضياع. وتعززت السجون بضيوف آخرين من فصيلة شباب الحركة الفبرايرية، الذين التحقوا بشيوخ السلفيين وشبابهم وأغلبهم لا يدركون لحد الساعة بأي ذنب حوكموا وأدينوا، وأقبرت ملفاتهم بعد أن لوحوا لهم بالبراءة عبر «الحوار» و«المراجعات»، فلا الحوار أضاء في نهاية النفق، ولا المراجعات أفضت إلى الإقرار بالحق في البراءة. أما قضية الشباب المعطل من ذوي الشهادات العليا، فالحل الذي تملكه السلطة لمعالجة هذا الملف هو الحل الأمني والقمع الشرس. ويبدو اليوم عصيا على الفهم أن «الانفتاح» على الطريقة المغربية اختار طريقين متوازيين، استئساد «العدالة الانتقامية» وسيادة الشعارات التي قَلْبها مع علي وسيفها مع معاوية. لكن لكل منطق مزدوج حدود لا يمكن تجاوزها، خصوصا حين يصطدم بمفاجآت لم تكن في الحسبان، تكذب أسطورة «الأمور المتحكم فيها»، فحين ينتظر هذا المنطق ذو الوجهين غليان الحواضر الكبرى، تنتفض البلدات الصغرى والهوامش الحضرية المهمشة برسائل تستعصي قراءتها على الرافضين للمفاجأة والمباغتة. وبالأمس، سرد حي الكوشة بتازة العظيمة حكايته في انتظار أن تجد من يحسن قراءة أبجديات الاحتجاج ولغته، التي هي على كل حال ليست مكتوبة بحروف مسمارية أو هيروغليفية، ولا تخفي معاني مضمرة أو مشفرة أو طلاسم السحرة، لكونها تقول بالجهر ما لم يكن سرا: الحرية والكرامة للجميع.