قضيت الأسبوع الفارط في جزيرة مالطا بدعوة من مؤسسة إنيزامد المالطية وبرنامج «الأدب عبر الحدود» التابع لجامعة أبيرستريت البريطانية. كنا ثمانية شعراء من ستة دول ومن لغات وثقافات مختلفة، جمعتنا ورشة للترجمة. كانت فكرة اللقاء أن يقوم كل واحد منا بترجمة قصائد البقية من الشعراء. والممتع في ذلك أن صاحب النص هو أمامك ولك أن تسأله عن دلالة كلمة أو صورة أو إحساسها. كان الشعراء يعتكفون منذ الصباح الباكر داخل بيت في قرية معزولة عن العالم، بينما كانت القصائد تسافر بين أكثر من عشر لغات مختلفة، لتقرأ مساء كل يوم في أمسيات يحضرها جمهور كبير، وقد تميزت إحداها بمشاركة الشاعر الفلسطيني الشاب وليد نبهان، المقيم منذ حوالي عقدين بمالطا، بنص يحتفي بالراحل محمود درويش، وذلك بلغة مالطية راقية، بينما عرفت الأمسية الختامية لقاء بين الشعر وموسيقى الجاز بعد يوم من التدريب. والحقيقة أن الشعراء الغربيين يملكون قدرة فائقة على الكد، وقد كانوا يستغنون عن الأكل في لحظات كثيرة. في خضم انشغالاتهم بالترجمة. وكان بعضهم يعلق على الأمر بأنهم متضامنون معي في رمضان. ولو كنت أملك شيئا من ذكاء الداعية عمرو خالد لاستطعت الذهاب بهم إلى أبعد من ذلك وإلى التضامن معي في الشهادة ولربحنا مسلمين جددا! خلال أيام الأسبوع بكامله، لم أسمع حديثا يتحدث عن قصيدة النثر ولا عن القضايا «الكبرى» التي تشغل بال العديد من الشعراء والنقاد العرب، الذين ما إن يجتمعوا حتى يجهزوا أسلحتهم لتفكيك النصوص ولحل كل مشاكل الكون، بشكل صارت معه عبارات مثل «أي واقع وأي آفاق» و«بين اليوم والأمس» و«الواقع والرهانات» لازمة ً تطبع أغلب محاور ندواتنا، مع الحرص الكبير على تدبيج التوصيات. وأتصور أنه لو قمنا بتجميع كل التوصيات الصادرة عن ندواتنا لاحتجنا إلى اقتلاع أشجار كل غابات عالمنا العربي الكبير ولتسببنا في أزمة تأتي على التوازن البيئي للكون بشكل قد يسرع بنهايته. وأتذكر بالمناسبة فكرة كانت قد أطلقتها مجلة آر لوسابو، الكندية، حيث دعت عشرة شعراء من العالم ( وكنت أحدهم والأمر ليس للدعاية!) إلى رحلة عبر عدد من بحيرات الكيبك. وكان لكل شاعر منا قارب صغير مع عدة الإنقاذ. وبعد كل رحلة عبر بحيرة ما كنا نلتقي في المساء لنتقاسم طقوس كتابة نص مشترك عن الماء، نشر فيما بعد في عدد خاص من المجلة عن «القصيدة والماء». وهو عدد تلاه آخر عن «الكتابة والنار» اختارت المجلة أن تضم كل «نسخة منه صفحة» فريدة منتزعة من رواية أو كتاب ما يستحضر قيمة النار يعود تاريخ صدوره بالضرورة إلى القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين. وقد قامت هيئة تحرير المجلة بإحراق جزء من كل صفحة مدمجة، مع إثبات تنبيه في الصفحات الأولى من المجلة، كان نصه: «لك أيها القارئ أن تتلمس آثار النار وأن تشم رائحتها». والحقيقة أننا نحتاج في عالمنا العربي إلى أفكار بسيطة وواضحة ودقيقة، فلقاء واحد لا يمكن أن يحل كل مشاكل القصيدة. ثم هل نحتاج بالضرورة إلى لقاءات لحل المشاكل. أليس أفضل أن نعيش الكتابة بدل الإفراط في التفكير في مساراتها وفي إثارة أسئلة لا أعرف متى سيكتب لنا أن نجيب عنها، بالمناسبة برنامج «الأدب عبر الحدود» هو واحد فقط من مئات البرامج والمؤسسات المكرسة لدعم ترجمة الأدب الأوربي إلى لغات أخرى. وقد سألتني منسقة البرنامج ألكسندرا باشلر، وهي سيدة بريطانية تملك قدرة فائقة على التواصل والعمل، إن كانت لدينا في المغرب برامج ومؤسسات من هذا القبيل، فأجبتها: «لنا الله!».