إهداء عام من المترجم إلى جميع الشعراء والشاعرات ومحبي الشعر في السعودية تقديم الترجمم: أعتز كثيرا بترجمة هذا المقال الهام والمؤثر (بالنسبة لي طبعا) والذي أعتبره من أهم ترجماتي إن لم يكن أهمها على الإطلاق منذ بدأت عملي في الترجمة عام 2002 طبعا إذا وفقني الله سبحانه وتعالى في نقل رسالة المقال التي كتبتها الشاعرة راندال عن رسالة الشعر في الحياة. وأعترف وأعتذر سلفا لفشلي في ترجمة رسالة هذا المقال الهام وذلك لسبب شخصي بسيط وهو لأنني عندما انتهيت من قراءة ترجمتي باللغة العربية «لم» أشعر بتلك لنرفانا والنشوة والهزة العاطفية المؤثرة التي، بصراحة، جعلتني أبكي مرتين «أثناء» و«بعد» قراءة النص الأصلي لأول مرة باللغة الإنجليزية!!! الشاعرة مارغريت راندال جادلت باللغة الإنجليزية ونجحت بمهارة في توضيح أهمية الشعر للمثقفين خاصة وللناس عامة أي للجنس بشري وأثبتت أن بمهارة أن «الشعر هو كافيار الأدب» بدون جدال مع الإحترام لباقي الأنواع Genres الأدبية مثل النثر والرواية والقصة، والمسرح، والسيرة الذاتية، والنثر، والمقالة، ألخ بحسب تصنيفات الأدب المختلف عليها كما هو معروف. وهو مقال نخبوي دسم ومركز خاص للشعراء وقراء الشعر المحترفين، ويهم كذلك جميع المثقفين الجادين. وتحاول الكاتبة فيه الإجابة على السؤال الذي كان ولا يزال يراودنا نحن محبي الشعر وهو: «هل لايزال الشعر مهما ومؤثرا؟» وتقصد راندال تحديدا: «العملية، والمنتج ، والنوع الأدبي Genre ؟ وإذا كان الجواب: نعم، فكيف؟» ويقدم المقال إضاءات عديدة وعميقة عن أهمية ومستقبل الشعر كنوع أدبي Genre وكمنتج إبداعي وتأثيره على اللغة وعلى القراء وحتى على المستمعين الأميين. وتشرح راندال ببراعة تأثير العولمة على تطور اللغة والشعر من خلال ظهور وانتشار وسائل الإتصال الجديدة. وتعترف الشاعرة الحداثية راندال في هذا المقال بشجاعة وصراحة ووضوح وبدون مواربة بسر هام وحقيقة لا يحب كبار المبدعين الحداثيين في العالم العربي خاصة والعالم عامة البوح والإعتراف بها وهي أهمية وتأثير ما اسمته راندال ب «التقاليد الشفوية» Oral Traditions على اللغة عامة والشعر خاصة وهو المصطلح الذي تفسره «الموسوعة العربية» على النت بأنه «الفولكلور أو التراث والأدب الشعبي». وهو اعتراف مهم جدا ويعيد الإعتبار للشعراء الشعبيين أو النبطيين (أو الزجليين) ومحبي هذه النوع الأدبي. وقمنا كالعادة بعمل بحث موسع ثم بكتابة تعريف مسهب عن الشاعرة راندال تقرأونه قبل المقال. وكالعادة الكلمات التوضيحية التي بين (قوسين) داخل النص هي للمترجم. وأعتذر بشدة لجميع القراء إذا لم تكن ترجمتي دقيقة ولا مؤثرة وحسبي أنني اجتهدت ويكفيني أجر واحد. تعريف بالشاعرة مارغريت راندال: مواطنة أمريكية من مواليد عام 1936 في نيويورك. عاشت وتنقلت لأسباب عائلية وسياسية لفترات مختلفة في إسبانيا، المكسيك، كوبا، نيكاراغاوا ، فيتنام الشمالية، وبيرو. أسست راندال مجلة أدبية طليعية راديكالية في الستينيات بعنوان «إيل كورونو إمبلومادو». وهذا هو اسم المجلة بالإسبانية ويعني بالعربية «القرن المريش»، والمقصود هنا «قرن» آلة موسيقى الجاز التي طورها زنوج أمريكا في بداية القرن العشرين ثم أصبحت تلك الموسيقى تعبر عن تطلعات الزنوج للحرية والعدالة والمساواة، أما «الريش» فيعود إلى قبائل المكسيك الأصلية القديمة، والإسم ككل يرمز لاستلهام تلك المجلة لأهمية تلك الحضارتين. انتمت راندال للحركة «التعبيرية التجريدية» Abstract expressionism التي انبثقت من نيويورك في خمسينيات وستينيات القرن العشرين وكان لها تأثير كبير في العالم. وتحمل راندال عدة ألقاب هامة فهي: شاعرة، ومؤرخة، ومناضلة نسوية، وكاتبة ، ومصورة فوتوغرافية، وناشطة اجتماعية أمريكية بارزة. قرأت راندال المقال التالي أثناء «مهرجان ستير» السنوي للشعر في مدينة ألبوكركي في ولاية نيو مكسيكوالأمريكية في سبتمبر 2009. وكان ذلك المهرجان قد نظمته الشاعرة ليزا جيل من ألبوكركي وذلك تكريما واحتفاء لذكرى مقاله هامة كتبها الشاعر الأمريكي دانا جويا عام 1991 تحمل نفس عنوان مقال راندال. وخلال الحقبة الريغانية المحافظة في الثمانينيات، وبعد عودتها في عام 1984 من رحلة تمرد طويلة في نيكاراغوا، منعت راندال من دخول الولاياتالمتحدة لصدور قرار غريب من «إدارة الهجرة والجنسية» الأمريكية قضى بمنعها من دخول وطنها الولاياتالمتحدة، وسحب جنسيتها الأمريكية، وترحيلها إلى الخارج نظرا لأن بعض آرائها السياسية الراديكالية الواردة في كتبها اعتبرت مناهضة لمصلحة الولاياتالمتحدة وكان ذلك القرار الغريب يستند على ويستدعي قانون متشدد للجنسية الأمريكية صدر عام 1952 خلال الحقبة «المكارثية» المرعبة في الولاياتالمتحدة باسم قانون «ماكاران-والتر» للهجرة والجنسية. وبحسب بحثنا في بعض المراجع الموثوقة على النت ، تسببت قوانين الهجرة والإقامة التي تبنتها «إدارة الهجرة والجنسية» الأمريكية تحت مظلة الحقبة «المكارثية» السوداء في الولاياتالمتحدة التي بدأت في أواخر الأربعينيات واستمرت حتى نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم في صدور «قائمة سوداء» طويلة وضخمة بأسماء الأشخاص الممنوعين من دخول الولاياتالمتحدة، ونتج عن تلك القائمة السوداء منع أكثر من 40,000 (أربعون ألف) شخص معظمهم كتاب وكاتبات من جميع أنحاء العالم من دخول الولاياتالمتحدة بسبب معارضتهم العلنية لسياسات الولاياتالمتحدة في كتاباتهم، وضمت تلك القائمة الشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا، والروائي الإنجليزي العظيم غراهام غرين، والروائي الكولومبي المذهل غابرييل غارسيا ماركيز الفائز بجائزة نوبل للأدب لاحقا، وغيرهم كثير. وبعد صدور قرار سحب جنسيتها وترحيلها من وطنها، وجدت راندال مناصرة ممتازة من «مركز الحقوق الدستورية الأمريكي» (وهو منظمة حقوقية غير حكومية/غير ربحية من منظمات المجتمع المدني الأمريكية)، وخاضا معا معارك قضائية شرسة لمدة خمس سنوات ضد «إدارة الهجرة والجنسية» الأمريكية تخللتها تحقيقات واستجوابات مرعبة من محققة «إدارة الهجرة والجنسية» مبنية على أكاذيب وإشاعات مرعبة مختلقة لتخويف راندال وهز ثقتها في نفسها وجعلها تعتزل العمل الأدبي/السياسي. كما تطرقت الأسئلة إلى أخص خصوصيات راندال وعاداتها الشخصية والحميمة داخل منزلها وسألت أسئلة مفصلة واستفزازية عن كل شيء في حياتها وكيف تعرفت على زوجها ومتى عاشرها لأول مرة، وشملت الأسئلة أسماء المقاهي التي ترتادها والجرائد التي تفضل قرائتها خارج أمريكا مثلا!! وغيرها من الأسئلة التي لا علاقة مباشرة لها بكتاباتها. وأخيرا في عام 1989، انتصرت راندال وصدر حكم قضائي نهائي وملزم بإلغاء قرار «إدارة الهجرة والجنسية» الأمريكية لأنه «غير دستوري»، واستعادت راندال جنسيتها، وألغي قرار طردها من الولاياتالمتحدة. ثم حصلت راندل عام 1990 على جائزة ومنحة مالية من مؤسسة «ليليان هلمان وداشيل هامت» الحقوقية الأمريكية للكُتاب المضطهدين سياسيا وفي 2004 حصلت على جائزة منظمة «بن» PEN الدولية للكتابة. أنتج عنها مؤخرا فيلم وثائقي هام مدته ساعة في أمريكا بعنوان «الحياة "غير الإعتذارية" (أي الشجاعة) لمارغريت راندال». مارست راندال التدريس الأكاديمي في مجال الأدب والكتابة الإبداعية للشعر لعقد من الزمن في عدد من الجامعات الأمريكية حتى تقاعدت نهائيا وتفرغت للكتابة عام 1994. لديها أربعة أطفال وعشرة أحفاد. وأصدرت حتى الآن أكثر من ثمانين كتابا أهمها: «الصخور تشهد»، «لنغير العالم: حياتي في كوبا» و«وظهورهم إلى البحر». وهذا المقال الذي تقرأونه سينشر قريبا في كتاب «الضحكة الأولى» الذي سيصدر قريبا من مطبعة «جامعة نبراسكا»، وهناك ديوان شعري قادم بعنوان «بلدي» سوف يصدر من دار «وينغس برس» في عام 2010. ونشر هذا المقال في مجلة «الأدب العالمي اليوم»World Literature Today في العدد الأخير (مارس/أبريل 2010). ونلفت نظر القراء أن راندال تحدثت في المقال بتكرار عن أهمية وتأثير ما اسمته ب «التقاليد الشفوية» Oral Traditions على اللغة عامة والشعر خاصة وهو المصطلح الذي تفسره «الموسوعة العربية» على النت بأنه «الفولكلور أو التراث والأدب الشعبي». وكالعادة الكلمات التي بين (قوسين) للمترجم. نص المقال: هل يستطيع الشعر أن يغيرنا ويغير العالم؟ كل الشعراء وقراء الشعر يطرحون السؤال التالي باستمرار: «هل يستطيع الشعر أن يغيرنا ويغير العالم؟» وقد يُطرح نفس السؤال بطرق أخرى، ولكن هدف ذلك التساؤل لا يتغير!! بالطبع، يحق لنا أن نسأل: هل يستطع الشعر أن يكون مهما على نطاق عالمي شامل، وهل لديه القدرة على تغيير أو حتى التأثير على طريقة تفكيرنا أو إحساسنا، أو ما نعتقده ، أو كيف نتصرف، أو حتى ما نريده لأنفسنا والآخرين؟ وهل يمكنه أن يكسب قلب الحبيب؟ وأن يحفظ أطفالنا بسلام؟ ومؤخرا: هل يمكنه عكس «تغير المناخ»؟ أو إطعام الجائعين؟ أو يساند بفعالية العدالة أو يرفع الظلم؟ ، أو ينهي الحروب؟ والأهم للغاية : هل يستطيع الشعر أن يحقق السلام الدائم بين الشعوب؟ السؤال ليس سطحيا كما قد يبدو لأول وهلة ليكون حول ما إذا كانت قصيدة مفردة أو مجموعة من القصائد كانت بالفعل مهمة للناس على مر التاريخ. بالطبع، لقد كانت القصيدة وكان الشعر مهمين ومؤثرين بقوة. هناك أمثلة متنوعة وأكثر من قدرتنا على الإحصاء لهؤلاء الشعراء المهمين المؤثرين: سافو ، باشو ، نجوين دو ، مولانا جلال الدين الرومي ، سيزار فاييخو ، بابلو نيرودا ، ناظم حكمت ، ريلكه ، «هو شي منه» ، والت ويتمان، ألن غينسبرغ ، أدريان ريتش ، جون جوردان، والشاعرة جوي هارجو!! هؤلاء فقط نماذج من هؤلاء الشعراء المؤثرين الذين لا تزال أعمالهم قادرة على التأثير وتغيير الحياة لمن يقرأهم بوعي وتدبر. ولكن السؤال الذي يراودنا نحن محبي الشعر يبقى دائما هو: هل لايزال الشعر مهما ومؤثرا؟ ونقصد تحديدا: العملية، والمنتج ، والنوع الأدبي Genre ؟ وإذا كان الجواب نعم، فكيف؟ قد نطرح أسئلة أكثر حميمية عن الشعر ، ربما أقل طموحا، ولكنها ذات مغزى واضح ومفيد لمجتمعنا البشري. على سبيل المثال : هل يمكن للشعر أن يغذي الأمل وينعش الحلم؟ وهل يمكنه أن يجعلنا ندرك ما يدور حولنا؟ وأن نُعلم الغير؟ وأن يريحنا في أوقات الحزن والنقاهة ويساعدنا على النسيان؟ والأهم أن يعمل كمصدر إلهام للقراء والمستمعين الأميين؟ ثم ما هي مسؤولية الشعر بخصوص اللغة؟ هل يمكنه كشف أسرارها؟ ويحل المشاكل؟ هل يمكنه أن يصدمنا لنصحو من غيبوبتنا ونحس بواقعنا ونبدأ العمل الإيجابي، ويساعدنا على التفاوض أو الإقناع؟ ثم ماذا عن «التقاليد الشفوية» (الفولكلور أو التراث والأدب الشعبي/النبطي) ، والمحادثة اليومية ، واللكنة ، النبرة ، واللون؟ وكيف يمكنها إثراء الثقافة؟ والمساعدة في كتابة التاريخ ، واسترداد أو المحافظة على الذاكرة ، والأهم تقديم رسالة تصدر منها رؤية ومنظور لنتقدم إلى الأمام؟ وبأية طرق يستطيع الشعر كشف وتغيير الأكاذيب التي توارثناها عن من سبقنا في كتب التاريخ التي يسطرها دائما المنتصرون ، وفي كتب «السير الذاتية» ، وفي المقالات ، وحتى في الصحافة الجادة والرصينة؟ الشعر كان مهما لصديقتي العزيزة كاري هيرز لدرجة ربما كانت غير معقولة بشريا. فقبل بضعة أيام من وفاتها بسبب «سرطان المبيض» ، تعالت وتسامت كاري على آلامها، وأرسلت إلينا نحن أصدقائها وصديقاتها رسالة إلكترونية «وداعية» ، وختمت رسالتها بقصيدة للشاعرة ماري أوليفر قائلة إنها «هدية وداعها» قبل الموت المحتم. لقد كانت قصيدة مؤثرة بعنوان «غابة المياه السوداء» ، وقرأت أنا يومها بعض الأبيات التي لا تزال تهزني حتى اللحظة: انظروا، الأشجار تتحول أجسادهن نفسها إلى أعمدة للنور، كل شيء... تعلمته في حياتي على الإطلاق... يقودني مجددا إلى هذا: الحرائق... ونهر الخسارة الأسود... الذين يقع في جانبهم الاخر: «الخلاص»... والذي لن يعرف أحد ... على الاطلاق معناه!! تلك الهدية سمحت لنا نحن أصدقائها وصديقاتها بالتنفس العميق عندما استلمناها وقرأناها، ورفعت قدرنا كشعراء عندما قرأها الكاهن ونحن أمام قبر كاري بعد دفنها. تلك القصيدة لا تزال تذكرنا بصديقتنا الحبيبة، وحساسيتها الرقيقة ، وحبها للتصوير الفوتوغرافي الجاد ، والمقاومة الشرسة والشجاعة للمرض الخبيث، والوداع الكريم/اللائق لها بعد موتها. ولكن تلك «القصيدة الوداعية» تفعل أكثر من ذلك بكثير، لأن الدروس التي تحتويها تتحرك على مستويات عديدة. أستطيع أن أتذكر حالات كثيرة مماثلة عندما تقوم قصيدة معينة أو مجموعة من القصائد ب «تخفيف حزني» ، و«غمري بالشجاعة» ، وإرسال «وميض» بصورة غير متوقعة لشخص ما، أو ببساطة تطرح فكرة أو تهيج مشاعر كما لا يمكن مطلقا لأي شيء آخر في الكون فعله. القصائد المؤثرة يتم تهريبها من السجون ، ويتشارك الجنود في قرائتها في ساحات القتال تحت قصف النيران، وتنتقل من يد إلى يد، ومن جيل الى جيل ، وتخدش على الجدران ، وتكتب في دفاتر اليوميات، وتخربش حتى في دفاتر «وصفات تحضير الطبخات» recipe في مطابخ ربات البيوت ، وتوزع على زوايا الشوارع ، وتحمل من شاطئ إلى شاطئ عبر البلدان بواسطة المتشردين كما حدث في أمريكا في قطارات الشحن البخارية خلال الثلاثينيات، وتسكن أيضا الأماكن العامة ، ويُهمس بها في الأذنين ، لتتمكن بذلك من وصف أحداث بدقة غير قابلة للوصف بطرق أخرى، وجمع أناس متفرقين في الحياة نحو هدف واحد بطريقة مذهلة. نكتها تضحكنا. صدقها ورؤيتها الواضحة للحقيقة تلقط أنفاسنا. تعقيدها الموجز يوصل الكثير، وبقوة أكبر من أي قطعة من النثر. قدرتها على إثارة المشاعر غالبا ما يجعل منها مصدرا للخبرة والوعي بطرق أكثر تفسيرية لا تملكها الكتابة. ومن الواضح أن الشعر يغير اللغة. وهذا التغيير الثقافي يؤثر «بسرعة» على ما هو مسموح، وما يعتبر زائدا أومقبولا لغويا. أما ما يحتاج «دهورا» لكي يجدد أو يحسن اللغة فيستقر و«يعشعش» بأمان وكسل في «المعجم اللغوي». ومن الواضح أيضا أن كل أداة تواصلية جديدة - البرق والهاتف والحاسوب ، والهاتف الخليوي ، و«آي بود» ، و«بلاك بيري» ، ومؤخرا «كيندل» (جهاز قراءة الكتب إلكترونيا من مكتبة «أمازون دوت كوم»)، وغيرها من الأجهزة الإلكترونية التي يتم تطويرها باستمرار يمكنها تجديد الشعر. وهناك كذلك الشات (الدردشة) عبر النت ، و«التويتر» عبر النت كذلك، وهناك أيضا الرسائل النصية عبر الجوال، فجميع تلك التقنيات تدفع اللغة نحو الإيجاز ، وتحثنا ان نقول ما نعنيه مباشرة ، وفورا. ولكنها أيضا تفعل المزيد في اللغة. تصميم صفحات الجرائد وإيقاعها غير المحسوس ينبثق ببطء من إيقاع الحياة المعاشة. ولهذا صرنا مؤخرا نتعجب من سحر المخطوطات القديمة وفتنة الخط اليدوي الذي انقرض حاليا، ولكن هذه التقنيات التواصلية التي تتطور بسرعة تواصل تطوير نفسها باستمرار وتغيير طريقة الحديث مع بعضنا بعضا. طريقة قراءة الشاعر جهرا لجمهور قد يكون بعضه أميا، وطريقة تجاوب الجمهور معه يمكنهما أيضا أن يغيرا القصيدة إلى الأبد. والمقصد هو التالي: ربما كان سر عظمة الشعر هو في قدرته على اختزال فكرة أو مشاعر إلى الحد الأدنى من التعبير مما يعطيه مثل هذا البقاء السرمدي في السلطة الأدبية. لقد وصلت الى مملكة الشعر في وقت معين ، وخلال سلسلة من الأماكن. ومثل العديد من أبناء جيلي ، أجبرت في المدرسة على حفظ قصائد مملة ومضجرة لم أكن أفهمها وهذا لم يعجبني طبعا. تلاوة أحد المدرسين السقيمة لقصائد كلاسيكية رائعة للشاعر «هنري وادسورث لونغفلو» حرمتنا من الإستمتاع بجمالها ومن فهم المعنى واستيعاب الفائدة. وقراءة مدرس آخر لقصيائد «إدغار آلان بو» جعلتني أنفر من حصة الشعر. وأصبحت سونيات شكسبير sonnets (السونيت: قصيدة قصيرة) الرائعة مملة وغير مفهومة. وللأسف أقنعتني هذه التشويهات الشعرية السائدة في المدارس الحكومية بأنني أكره الشعر آنذاك. أول مرة شعرت بأن قصيدة سببت لي تغييرا جذريا كانت بعد بضع سنوات عندما هربت من الجامعة في السنة الأولى في العام 1956. وكان ذلك في حفلة في شرق مدينة ألبوكيركي ، حيث قرأ أحدهم بصوت عال قصيدة «عواء» howl من ديوان «عواء وقصائد أخرى» كان قد نشر حديثا عبر دار «سيتي لايتس» (أضواء المدينة) وكان ديوانا صغير الحجم للشاعر الأمريكي الطليعي ألآن غينسبرغ. لقد شعرت بأني تمزقت بعد سماعها، ليس فقط بسبب كلمات تلك القصيدة بل أيضا قوة وروح نبرتها وإيقاعها، والأهم ما كشفته لي عن خيبة أمل جيلي في ظل خلفية وظروف أحداث الخمسينيات «المكارثية» في الولاياتالمتحدة من نفاق وقبح وأكاذيب ووجوب اتباع العرف المجتمعي السائد. وكذلك ما كشفت لي عن تناقضات نفسي وذاتي. كتبت رسالة إلى الشاعر جينسبيرج ، عبر دار «سيتي لايتس». قلت له إنني سأنتظره في زاوية شارع معين في سان فرانسيسكو بتاريخ كذا وكذا. أذكر أنني قدت السيارة طوال النهار وطوال الليل من مدينة ألبوكركي إلى سان فرانسيسكو بدون أدنى شك بأنه سيكون هناك في انتظاري في ذلك الوقت. وفي الوقت المحدد ذهبت الى زاوية ذلك الشارع وانتظرت، ولكن جينسبيرج لم يحضر. وبعد سنوات ، عندما أصبحنا أصدقاء في مدينة نيويورك ضحكنا معا بسبب «جهلي الجغرافي الساذج» لأني وقفت وانتظرته في المكان الخطأ بينما كان ينتظرني بالفعل في المكان الصحيح في سان فرانسيسكو. ولكن قصيدة «عواء» فجرتني وفتحتني وعرتني أمام نفسي وهذا أعتقد أنه واحد من الأشياء الذي يجب أن تفعله القصيدة الناجحة. في عام 1961 ذهبت إلى مدينة مكسيكو سيتي عاصمة المكسيك في بداية رحلة استمرت ربع قرن ستشمل كوبا ، فيتنام الشمالية ، بيرو ، ونيكاراغوا. ولوحدي في المدينةالجديدة ، عثرت على ميدان «زونا روسا» الذي يرتاده الأدباء والرسامون ، وعثرت على شقة الشاعر الأمريكي فيليب لامانيتا وزوجته السيدة لوسيل. وفي بعض الليالي، كانت مجموعة من الشعراء الشباب يجتمعون في شقته من المكسيك وبلدان أخرى من أمريكا اللاتينية والولاياتالمتحدة. وعلى الرغم من أن القليل منا كان يقرأ أو يتكلم بلغة الاخرين بشيء من الطلاقة ، كنا نتشارك بفرحة في قراءة وسماع القصائد الجديدة ، ونحس بإيقاعات غير متوقعة وغير مألوفة في مواضيع معاصرة وغير معهودة. هذه الصالونات «المرتجلة» أكدت لي بوجود حاجة ضرورية لمنتدى مستقل لكي ننشر، ونترجم، ونتعارف على أعمال بعضنا. ولهذا، قررت أنا مع الشاعر المكسيكي سيرجيو موندراغون إنشاء مثل هذا المنتدى. لقد كانت تلك فترة الستينيات المجيدة والنشيطة وكنا في أحد أهم المراكز الثقافية النابضة في تلك القارة. أسسنا وحررنا مجلة «إيل كورونو إمبلومادو» (أي «القرن المريش» بالعربية) كمجلة أدبية ثنائية اللغة الأدبية. وفي تلك المجلة التي أصدرتها من المكسيك باللغتين الإنجليزية والإسبانية من 1962 إلى 1969، سرعان ما نشرنا فيها مزيجا منوعا من أعمال شعراء مستقلين من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك آلن جينسبيرج مترجما للمرة الأولى باللغة الاسبانية ، وإرنستو كاردينال مترجما للمرة الأولى باللغة الإنكليزية. وواصلت المجلة الصدور – رغم استمرار تبعات الحقبة الماكارثية المرعبة- بأعجوبة لمدة ثماني سنوات ونصف السنة حتى توقفت عام 1969 ، وأنتجنا أعداد فصلية خاصة من 200-300 صفحة في المتوسط. لقد كانت مجلة «إيل كورونو إمبلومادو» نقطة محورية في نهضة جيل كامل لأنها نقلت الأدب من الأكاديمية ، إلى الشارع والمقهى والمنتزه حيث مراكز الإبداع والتغيير. القراءة والاستماع إلى قدر كبير من الشعر باللغة الإسبانية أيضا أعطاني شيئا مهما. أعتقد أن معرفة أكثر من لغة واحدة يثري إلى حد كبير القدرة على استكشاف كل منهما. لو كنت قد تعلمت أكثر من لغتين ، لاستفادت علاقتي مع اللغة نفسها أكثر من ذلك. قضاء تلك السنوات الثمان في تحرير مجلة ثنائية اللغة لم يضعني فقط على اتصال مع شعراء يكتبون باللغتين الانكليزية والاسبانية فقط ولكن أيضا مع ترجمات من لغات أخرى ، ومنحتني «علاقة حميمة» مع الكلمة المكتوبة والمنطوقة من المستحيل وصف أهميتها وتأثيرها بالكلمات. وفي ذلك العصر الذي لم يكن فيه إنترنت ، كان كل من الكتابة والنشر يعتمدان على أنظمة بريدية حكومية متخلفة ورديئة، ويعتمدان على مكينة صف وصب الحروف البدائية «لاينو تايب» Linotype وقدرات مطبعة صغيرة يديرها شخص واحد غالبا. وفي بعض الأحيان، كنا نعتمد كثيرا على مكالمات هاتفية دولية عبر البحار. لقد كنا نزهو ونفخر باستقلالنا. وكنا أيضا نزور كل يوم مكتب البريد في الحي حيث نجد العشرات من الرسائل والمخطوطات تنتظرنا بسعادة وفرح من كل أنحاء العالم. كانت وسيلة الدعاية الوحيدة لنا هي السير في الشوارع ومحادثة المارة عن مجلتنا!! كنا نوزع بحماس مجموعة من النسخ على المكتبات، ونجلس على أرضية غرفة الجلوس لتعبئة أوامر «شراء نسخ» لنرسلها بالبريد إلى مكتبات في كل مكان في العالم. في عام 1961 ، عندما بدأت في كتابة الشعر في بلد ما يزال يخرج ببطء من حقبة «مكارثية» مرعبة، فإن التواصل مع الشعراء الأميركيين اللاتينيين علمني أن «الشعراء الجيدون يمكنهم بالفعل الكتابة عن أي شيء». كنت للتو قد استوعبت مجبرة «الفكرة المكارثية القمعية» في الخمسينيات بأن «السياسة لا يمكن أن تكون جزءا من الشعر» لأن : «الشعر الجيد ، كما حذرنا الأكاديميون ، يجب أن يكون «ما بعد سياسي»!!! والمفارقة أن ذلك كان بعكس ما فهمه الشعراء في أمريكا اللاتينية وأجزاء أخرى من العالم بأن الخطر الحقيقي الذي يهدد «جودة الشعر» ليس الخوض في السياسة كما حاول الأكاديميون الأمريكيون المكارثيون إيهامنا بل هو: التقليد ، والمبالغة في المشاعر/العاطفة ، والإبتذال ، والكذب/الخداع ، وعدم احترام قيمة «الكلمة» كأداة للتعبير ثم التغيير!!! كتبنا في المجلة عن جميع ما كنا نعرفه ، وعن أهم مطلب وحاجة نسعى لها في خبرتنا الشخصية التي يشاركنا فيها العديد من الشعراء الشباب في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وهي «الحاجة الماسة للتغيير الاجتماعي». واكتشفت أيضا في أمريكا اللاتينية أهمية «التقاليد الشفوية» (الفولكلور أو التراث والأدب الشعبي) الموجودة في جميع أنحاء العالم بالطبع بما في ذلك وبغزارة في بلدي: الولاياتالمتحدة. ولكن ربما لأن «التقاليد الشفوية» في الخارج كانت أكثر قيمة من الناحية الثقافية ، فإن الشعراء الأجانب الذين التقيت بهم في الستينيات كانت أقرب لهم مما كانت لدي. لقد استكشفوا إيقاعات الكلام لشعوبهم وضمنوها في أعمالهم. وعندما بدأت العمل في التاريخ الشفوي وخاصة مع النساء ، بدأت أيضا فهم أهمية «الرطانة» و«الجعجعة» المحلية واللهجة والايقاع ، والنبرة ومقام الصوت في عملية انتقال الأفكار الحية ، وبدأتُ في دمج أنماط حديث الناس العاديين في شعري. عندما وصلت لأول مرة إلى مدينة نيويورك كشاعرة مبتدأة في أواخر الخمسينيات، حثني وشجعني الروائي والمسرحي بادي تشايفسكي على قضاء ساعة أو نحوها كل اليوم ك «مستمعة» في زاوية شارع مزدحم وسط نيويورك ، ثم تأمل كمية ما تختزنه ذاكرتي بدقة من أحاديث الناس العابرة بعد العودة الى البيت. ولذلك، بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى أمريكا اللاتينية ، كنت قد طورت أذنين متمرستين على تسجيل الحديث الشعبي العابر. ونعم بكل تأكيد ، لقد كنا نعتقد بسذاجة وصدق أن الشعر «لوحده» يمكن أن يغير العالم، وكتبنا ذلك في الكثير من افتتاحيات المجلة ، وانعكس ذلك أيضا في القصائد التي نشرناها لشعراء من مختلف الفئات (قساوسة كاثوليك، ومقاتلين من ميليشيات يسارية، ومشعوذين من السكان الأصليين ، وطلاب ، وباحثين أدبيين، وعمال وعاملات عاديين) جميعهم رددوا وكرروا صدى هذه الفكرة بشكل أو آخر. ويمكنني الإعتراف الآن: لقد كنا بالفعل صغارا وسذجا موهوبين ب «بالطاقة والإثارة» أكثر من فهم وتصور واقعي/عملي لأهمية أفكارنا في المخطط الأكبر للأحداث في الكون. لقد عرفنا بالفطرة السبل التي «تتجسد» و«تتحرك» فيها الكلمة - وهو شيء عرفته ومارسته العديد من ثقافات العصور السابقة. أفضل القصائد تسكن «كرة سحرية» حيث تتحول الكلمة وتتبدل إلى طاقة والطاقة تعيد التجمع مجددا بطرق لا نفهمها تماما. هذا الغموض في حد ذاته هو جزء من سحر القصيدة، أو ما يمنحها قوتها وسلطتها الأدبية وجبروتها الفكري. اللغة ، والصوت ، و«الصمت» هي أمور - بالإضافة إلى المعنى – تتكون من ذرات وجزيئات متناهية الصغر ، مشبك عصبي في جسم القصيدة ، ذاكرة ، موسيقى ، نبض، لون، وضوء. تجميع ومزج هذه العناصر في وسائل جديدة ومختلفة ، يتبع بدوره مسارات جديدة ومختلفة من وإلى القصيدة. وبعد أن نضجت الآن ، أعترف أنني لم أعد أعتقد أن الشعر «وحده» يمكنه أن يغير العالم. ولكن رغم هذا، الشعر لا يزال مهما ومؤثرا ، ربما أكثر مما نظن أننا نعرف أو ندرك. في الحقيقة ، نحن نتجاهل أو نشطب صفاته غير القابلة للقياس ، وحدسه، وسحره مما يعرضنا للخطر خاصة في الأزمات. في الواقع ولكي أختم، أنا متأكده تماما أن الشعر كان ولا يزال وسيواصل القيام بدور مهم في المجتمعات الحية ، النابضة ، والمتغيرة باستمرار خاصة من قبل أولئك الذين يأملون أن لا نهلك جميعا بسبب «جهلنا» و«جشعنا» و«لامبالاتنا»!! ألبوكركي، ولاية نيو مكسيكو. كاتب ومترجم سعودي مقيم في المغرب [email protected] mailto:[email protected]